الخوف من الموت وأثره في رواية “الهارب” للكاتب الروسي راسبوتين
حسين علي خضير
تدور أحداث الرواية حول جندي هرب من الجبهة في الحرب العالمية الثانية، بعد أن تعرض إلى اإصابة جعلته يرقد ثلاثة شهور في المستشفى، يبرر البطل أندري غوسكوف أسباب هروبه، بأنه لا يؤمن بمسألة الحرب التي يقاتل من أجلها، وثانياً، كان يؤمن إيمانا راسخاً بأنه أدى واجبه اتجاه وطنه خلال ثلاث سنوات من القتال، فيقول: “وعندما استعاد وعيه وتأكد من أنه سيبقى على قيد الحياة هدأ وعلل النفس بأن واجبه الحربي انتهى. فليحارب الآخرون الآن”. ص 47، ثالثاً، بنى آمالاً على إصابته، وكان لا يطلب الكثير سوى إجازة ليرى فيها عائلته، ولكنه تفاجأ بأن عليه أن يلتحق بوحدته العسكرية، يقول الكاتب: “بيد أنه صعق في تشرين الثاني، عندما اقترب موعد الخروج من المستشفى، ذلك الموعد الذي انتظره بفارغ الصبر وكان يلعق جراحه من أجله. فقد أمروه بالالتحاق بالوحدة وليس بالذهاب إلى البيت. كان واثقاً من أنه سيوجه إلى البيت حتى عجز عن فهم الأوامر وتصور أن هناك خطأ، فراح يراجع الأطباء ويجادلهم وينفعل ويصيح. ولم يكن أحد يريد الإنصات إليه”. ص 48، جميع هذه الأسباب ساعدت البطل على الهروب من الجبهة. وهنا لابد أن نشير إلى مسألة مهمة جداً أن البطل لم يكن جبانا أبداً في المعارك التي خاضها قبل إصابته في الجبهة. وهنالك أيضاً سبب أخير عجل في هروب أندري، وهو عدم السماح لزوجته ناستيونا بزيارته في المستشفى، لأنه كان يعول على الإجازة التي يحصل عليها بعد إصابته، ومن هنا انطلق الصراع النفسي للبطل، فأخذ يسأل نفسه وفي ذات الوقت هو من يجيب على هذه الأسئلة، فيقول: “هل يتوجب عليه حقاً أن يعود إلى الجبهة؟ أهله قريبون من هنا، قريبون جداً. فليتوجه إليهم، وليكن ما يكون. عليه أن يأخذ بنفسه ما انتزع منه. خالف البعض الأوامر ولم يتعرضوا للعقاب. لقد سمع بحالات من هذا النوع”. ص 49، ولم يتوقف إلى هذ الحد بل أخذ يسأل نفسه هل هو يستحق العقوبة بعد ما حارب ثلاثة سنوات؟ بعد كل هذه المبررات التي ساقها البطل من أجل أن يهرب تحقق مراده، ووصل إلى قريته أتامانوفكا التي تفع بالقرب على الضفة اليمنى لنهر أنغارا. واستطاع أن يلتقي بزوجته سراً دون أن يعلم أحد بهذا اللقاء. ودخل البطل مرحلة جديدة ممكن أن نطلق عليها الخوف من الموت وأثره على سلوك البطل، فأول شيء طلبه أندري من ناستيونا أن لا يعلم أحد بهروبه وإلا سوف يقطع لسانها في حال عرف أحد ما. وأخذ يبرر لها سبب إقدامه على هذا الفعل “هو أنتم من دفعني إلى ذلك”.
وهنا ناستيونا كان لها دورا كبيرا في هذه الرواية، فمن خلالها استطاع الكاتب أن يصور لنا الحياة القروية في ظل الحرب آنذاك، وكيف كان الجوع ينهك القرية، وحتى الأطفال كانوا يحلمون بقطعة خبز، وكذلك كشف لنا النسوة اللواتي تنتظرن قدوم أزواجهن من الحرب، ومعاناة النسوة اللواتي استشهد أزواجهن في الحرب، وكيف كانت المرأة تعاني الأمرين بسبب فقدانها زوجها وفي ذات الوقت تركه لها أفواها جائعة، فكانت ناستيونا هي النافذة التي ولج من خلالها الكاتب إلى حركة الحياة البائسة في القرية، وليس هذا فقط بل كانت ناستيونا كتلة من الوفاء ونموذجاً يقتدى بها، وقد حافظت على سر زوجها ليس خوفا من السلطة بل حباً ووفاء لزوجها، وضحت بحياتها من أجل هذا السر، فالكاتب فالنتين راسبوتين ليس جزافا حين قدم لنا هذه المرأة القروية الأصيلة بكل معنى الكلمة. وفيما بعد دخلت ناستيونا في دوامة جديدة وهي تأنيب الضمير من هذه اللقاءات السرية بينها وبين زوجها، وتسأل نفسها عشرات المرات: ما الذي تريدهُ ناستيونا من هذه اللقاءات السرية بينها وبين زوجها في هذا المكان النائي؟ فيجيب الكاتب عن هذا السؤال، قائلاً: “كانت ناستيونا تبحث في هذه اللقاءات عن تعويض عن الألم الذي يعتصر فؤادها، لأن الزوجين مضطران على الالتقاء سراً وبصورة نادرة. وكانت ناستيونا تريد لكل لقاء من تلك اللقاءات أن ينطوي على سنين من الحياة ويمتلئ بمغزى خاص وقوة كبيرة وحنان متميز” ص 137، وكانت ناستيونا تؤمن بأن السعادة ستأتي في يوما ما، حتى وإن أوقفتها الحرب على حد تعبير الكاتب، ولكن مشكلة أندري غوسكوف جاءت قبل الأوان، ومن هنا يبدأ التفكير والخوف من المستقبل، وما زاد من الطين بِلة، ظهور علامات الحمل عند ناستيونا، فهذا الأمر شكل هاجسا وقلقا وخوفا لديها، فكلما تريد أن تضع حلا لهذا الأمر، كان بطل فالنتين يرفض تسليم نفسه ويصور لها بأن حبل المشنقة سوف يلف حول عنقه، “أما انتِ سوف يرأفون بحالكِ وبالطفل الذي في بطنكِ”، وفي ذات الوقت يهددها بالانتحار، فكانت تصبر نفسها بأن الحال لن يبقى على ما هو، لابد أن يأتي يوم ويتغير.
يحاول الكاتب الإجابة على مفهوم السعادة في ظل الحرب، فكانت ناستيونا نموذجا لهذه السعادة، كانت السعادة بالنسبة لناستيونا تتمثل في ولادة طفل قبل الحرب، ولكنها لم ترزق بهذا الطفل، وفي أثناء الحرب تحققت هذه السعادة المنشودة، ولكنها كانت تخشى أقاويل الناس وسؤالهم التقليدي، من أين لكِ هذا وزوجك يقاتل في الحرب؟ وحين جوبهت بهذا السؤال، نسبت طفلها لغير زوجها، فبدا الشك يدب في القرية، وعلموا بأن زوجها يختبئ في مكان ما ولم يصدقوا أقاويلها، وأخذوا يراقبونها، وحين شعرت بأن أمرها قد تم كشفه ألقت بنفسها وبالطفل الذي في بطنها في النهر وماتت غرقاً، حتى لا يعلم أحد بمكان زوجها، ولكن هنا يتبادر سؤال: من هو المسؤول عن هذه النهاية المأساوية لناستيونا؟ بالتأكيد، أندري زوجها، لأنها طلبت منه مرارا وتكرارا أن يضع حدا لهذه المعاناة والخروج إلى العالم، ولكنه يرفض، تقول: “- أندري أليس من الأفضل أن ننهي هذه الأوضاع ونخرج إلى العالم؟”. ص300، وبين سابقاً الأسباب التي كان يتحجج بها، وبقى خائفاً من الموت حتى بعد انتهاء الحرب، ولم يفكر بمصير الطفل الذي كان بأحشاء ناستيونا.
وأخيراً، بالرغم من أن صوت الكاتب يهيمن على الرواية في كل مكان، لكنه الواقع كما هو في فترة الحرب العالمية الثانية ، ولوحة مصغرة للحياة القروية التي يمتزج فيها الحب مع الوفاء بطريقة رائعة وفريدة، خالية من التنميق والإسهاب.
فالنتين راسبوتين: “الهارب”، ترجمة: خيري الضامن، دار سؤال، لبنان – بيروت، الطبعة الأولى، 2022.