فى ذكرىَ اِغتيال الشّاعر لوركا.. لم يُثنِه مواجهة الرّصاص الغادرعن حبّه للكلمة الحرّة (2)
د. السّفير محمّد محمّد خطّابي
في القسم الأوّل من هذه الدراسة رأينا كيف إختار فيديريكو غارسيا لوركا مصيره المحتوم وهو بعد صبيّ غرّير بقريته المغمورة إبّانئذٍ فوينتي باكيروس بالقرب من غرناطة الحمراء، ثمّ وهو طالب في إقامة الطلبة بمدريد وأخيراً وهو شاعر بدأ يشقّ طريق الشهرة الواسعة بديوانه (شاعر في نيويورك) ، وبرسائلة العائلية الحميمية التي وجّهها لوالده ولأسرته من غربته النائية حيث اختار طريقه كشاعر مصداح لا يشقّ له غبارأينما حلّ وارتحل ،وفى القسم الثاني فيما يلي سنسلّط الأضواء الكاشفة على حيثيات، وظروف، وملابسات اغتيال لوركا وموته المأساوي على أيدي أعداء الشعر، والكلمة الحرّة الطليقة، وأعداء الحياة، فنقول:
فى 19 من شهر أغسطس الحالي 2023 حلّت الذكرى 87 لاغتيال الشاعر الإسباني الأندلسي المعروف فدريكو غارسيا لوركا الذي اغتيل عام 1936 حيث لقي مصرعه الدرامي مع بداية اِنطلاق شرارة الحرب الأهلية الإسبانية التي استمرّت رحاها تدور بثفالها حتى 1939، كان فدريكو غارسّيا لوركا قد وُلد فى الخامس من شهر يونيو من عام 1898.
اغتيال شاعر.. اغتيال للكلمة
ولكن من ذا الذي اغتال لوركا…؟ وكيف تمّ ذلك…؟ ولماذا…؟ كان الشّاعرالأندلسي القادسي الكبير ”رفائيل ألبرتي” (نسبةً إلى مدينة Cadiz الإسبانية) كان قد كشف النقابَ قبيل رحيله عن تفاصيل مصرع لوركا، و كيف أنّه واجه الموت بشجاعة وصلابة، يقول ألبرتي في هذا الخصوص: أنّ طبيبا إسبانيا يدعى ”فرانسيسكو فيغا دياث” كان شاهد عيان في مقتل الشاعر لوركا، قد حكى قصّة بهذا الشأن ردّدها له سائق التاكسي الذي قاد لوركا، إلى جانب معتقل آخر وثلاثة من العساكر الذين ينتمون للحرس المدني الإسباني. إنّ الطريقة التي قتل بها لوركا كانت حتى الآن لغزاً محيّراً، وسرّاً غامضاً، و قد أعطيت تفسيرات مختلفة حول هذا الأمر، وحسب ”فرانسيسكو فيغا دياث” فانّ سائق التاكسي كان قد زا ره في عيادته في 13 غشت 1936 وحكى له أنّ الأحداث وقعت فى الليل، و قد تعرّف سائق التاكسي على واحد من الذين تمّ القبض عليهما وهو الشاعر الغرناطي بواسطة الكشّافات التي أوقدها الحرّاس للقيام بعملية الاغتيال، وكان غارسيا لوركا قد سافر من مدريد إلى مسقط رأسه غرناطة إذ -حسب الشاعر ألبرتي – كان لوركا يعتقد أنّه في أرضه سيكون في مأمنٍ من الخطر. و أضاف: “إنّ لوركا كان يغشاه خوف الأطفال، وكان يعتقد أنّه في غرناطة لن يحدث له شيء ”فرَكِب القطارَ إليها، إلاّ أن الموت فاجأه هناك، فكلّ منّا يحمل قدرَه معه“. ولقد سمع سائق التاكسي الشّاعر لوركا يقول لقتلته: ماذا فعلتُ حتى تعاملوني هكذا ..؟ ثم ألقى الحراس بعد ذلك بلوركا والشخص الذي كان معه – كان مسنّاً و أعرج – داخل حفرة منخفضة، فعمل الشاعر على مساعدة زميله على الوقوف ممّا زاد في حَنَق الحرّاس حيث ضربه أحدُهم بمؤخّرة سلاحه وشجّ به أمّ رأسه، ثم بدأ القتلة يشتمون الشاعر ويرمونه بأحطّ النعوت، وطفقوا بعد ذلك في إطلاق النار عليه على الفوربدون رحمة. وأكّد السّائق أنّ إثنين من مصارعي الثيران، وعشرة من الأشخاص الآخرين قد قتلوا كذلك في تلك الليلة نفسها.
وتشير الكاتبة والناقدة المكسيكية ”إِيرْمَا فوينتيس” معلقةً على ذلك: ”إنّ الشّعراء مثل الأبطال والأنهار يطبعونَ شعوبَهم بطابعهم ويجعلون شعبَهم يختلف عن الشعوب الأخرى، فالشّعراء يتركون في العالم ضوءاً مشعّاً متعدّد الألوان، يجعلون الرّجالَ يجتمعون ويتوحّدون رغم تباين أجناسهم، وثقافتهم، وعلى الرّغم من الخلافات الإيد يولوجية، والسياسية، والمشاحنات والمشاكسات التي قد تنشب بينهم، و قد تصل حدّ الحروب والمواجهة. فكلّ شاعر من هؤلا ء بغضّ النظر عن الزّمن الذي يولد فيه، يصبح بمثابة “معزف” كوني متعدّد الأوتار، وإن اختلفت أنغامُه فهو يعزف لحناً واحداً يعظّمه كلّ موجود حيّ في أيّ صقع من أصقاع العالم”، وتضيف الناقدة: “وعليه فإنّ فقدان أيّ شاعر لدى أيّ أمة هو حدث تراجيدي يمسّ الإنسانيةَ جمعاء وليس رقعته الجغرافية وحسب، هذا على الرّغم من وجود شعراء آخرين كبار، وأمّا إذا اغتيل شاعر مبدع فانّ الشعور بالمأساة يتفاقم ويزيد ويكون أفدح وأعمق“.
إذا متُّ فاتركوا بابَ الشّرفة مفتوحاً!
يعتبر النقاد الإسبان، وغير الإسبان الشّاعر الإسباني- الأندلسي فيدريكو غارسيا لوركا من أكبر وأكثر الشّعراء شعبيةً، ومن أبرزهم تأثيراً فى الأدب الإسباني فى القرن العشرين. وبالإضافة إلى الجائزة الشعرية العالمية الكبرى التي تنظّم كلّ سنة باِسمه، تقام فى العديد من المناسبات احتفالات، وتظاهرات ثقافية، وأدبية، وشعرية، ونقدية هامّة حول هذا الشاعر الكبير بمشاركة عدّة شعراء إسبان وأجانب، وتنظّم هذه اللقاءات على وجه الخصوص فى مدينة ”فْوِينْتيِ بَاكِيرُوسْ” القريبة من غرناطة وبالضبط فى مسقط رأس الشاعر بها وهو المنزل الذي أصبح اليوم متحفاً له، ولكافة أعماله الإبداعية على اختلافها، ويضمّ متحف الشاعر لوركا بعض مخطوطاته الشعرية الأصلية القديمة، وبعض صوره، ورسوماته، ورسائله، وآثاره، ومخلّفاته بما فيه البيانو الشّهير الذي كان يملكه فى حياته والذي عزف عليه لوركا نفسُه والعديد من كبار العازفين، والموسيقييّن الإسبان وغير الإسبان.
كما تقام احتفالات كبرى فى تواريخ متفاوته، ومناسبات شتّى فى العديد من مدن إسبانيا وأمريكا اللاتينية، والولايات المتحدة الأمريكية منها مدينة نيويورك حيث كانت الأوساط الثقافية التي تُعنى باللغة الإسبانية وآدابها قد إحتفت بمخطوط ديوان لوركا المعروف “شاعر فى نيويورك “(أنظر مقالي فى “القدس العربي” بتاريخ 18-2-2013 حول هذا الموضوع تحت عنوان ”غارسيّا لوركا يعود لمدينة ناطحات السّحاب من جديد). يقول لوركا فى قصيدة (وداع) المبثوثة أو المدرجة ضمن هذا الديوان: ”إذا متّ فاتركوا بابَ الشّرفة مفتوحاً…” وخلال إحياء هذه الإحتفالات وسواها كان باب الشرفة يظلّ دائماً مفتوحاً احتراماً لوصيّة الشاعر الرّاحل. وتنفيذاً لرغبته.
شاعر أندلسيّ في كوبا ونيويورك
كان فيدريكو غرسيا لوركا قد كتب هذا الديوان الشهير خلال وجوده بجامعة ‘كولومبيا الأمريكية’ بنيويورك (1929-1930) ثم خلال سفره إلى كوبا بعد ذلك، وقد نُشر هذا الديوان لأوّل مرّة عام 1940 أيّ 4 سنوات بعد مصرع الشاعر. وكان لوركا قد غادر إسبانيا 1929 ليلقي بعضَ المحاضرات في كوبا ونيويورك، وإن كان سبب هذه الرّحلة في العمق هو هروبه وابتعاده عن جوّ المهاترات، والمشاحنات والبغضاء الذي كان قد أصبح سائداً في الوسط الدراسي بمدريد، حيث أصيب لوركا من جرّاء ذلك بكآبة شديدة، وحزن عميق، وقد كان للمجتمع الأمريكي تأثير بليغ على الشاعرالغرناطي، إلاّ أنه أحسّ بنفور كبير من الرأسمالية والتصنيع المبالغ فيه، كما أنه شعر باشمئزاز بليغ من المعاملة التي كان يُوسم بها الأمريكان البيض الأقليّةَ من السّود، لقد كان هذا الديوان صرخةً مدويّة ضد الرّعب، للتنديد بالظلم والتمييز العنصري في هذا المجتمع الغارق فى التصنيع، والاغتراب القاتل للجنس البشري، والمناشدة بضرورة احترام البعد الإنساني للبشر، وصون حقوق الإنسان، وسيادة الحرية والعدالة والحبّ والجمال، وربّما هذا ما حدا بالنقّاد إلى إعتبار هذا الديوان من أهمّ الأعمال الشعرية التي ظهرت وواكبت عصر التحوّل الاقتصادي، والتطوّر الاجتماعي، والنموّ الديموغرافي بطريقة لم تعرفها البشرية من قبل.
يتألّف المخطوط الأوّل والأصلي الوحيد لهذا الديوان من 96 صفحة مكتوبة على الآلة الراقنة، بالإضافة إلى 26 صفحة مكتوبة بخطّ اليد، لقد هاجر هذا المخطوط مع الأديب والناشر الإسباني ”خوسّيه بيرغامين” (الذي كان لوركا قد سلّمة المخطوط لنشره) إلى فرنسا في المقام الأوّل، ثمّ في مرحلة أخرى إلى المكسيك، (حيث نشرت الطبعة الأولى منه عام 1940 في كل من المكسيك والولايات المتحدة الأمريكية، وقد ترجمه آنذاك إلى اللغة الإنجليزية “رولف هومفريس”، وظلّ المخطوط في النّصف الثاني من القرن العشرين متخفيّا ينتقل من يد إلى يد حتى وقع عام 1999 في يد الممثلة الإسبانية “مانويلا ساهافيدرا” وفي عام 2003 أمكن لـ ” مؤسّسة غارسيا لوركا” استعادةَ هذا المخطوط بعد إقتنائه في أحد المزادات العلنية، ثم إشترته أخيراً وزارة الثقافة الإسبانية عام 2007. من القصائد التي يتضمّنها الديوان: ”السّماء الحيّة”، و”البانوراما العمياء لنيويورك’”، و”الموت”، و”غنائية الحَمَام”، (التي أصبحت فيما بعد تحمل اسم ‘قصيدة الحمائم الحالكة)، و”قصيدة الثور والياسمين”، (التي أصبحت فيما بعد تحمل عنوان “قصيدة الحلم في الهواء الطلق”، و”أرض وقمر”، وسواها، وبعض هذه القصائد مدرجة كذلك في كتاب لوركا الذي يحمل عنوان: “ديوان تماريت”، (كذا)، أيّ باستعمال كلمة (ديوان ) كما تنطق وتستعمل في اللغة العربية إلى اليوم.
أصواتُ الموت دَقّتْ بالقُرْب مِنَ الوَادِي الكبَير
من ذا الذي يمكنه أن يعوّضنا ما ضاع مع الشاعر، بدأ غارسيا لوركا قرض الشّعر في العشرين من عمره واستمرّ في الكتابة حتى يوم اغتياله عام 1936 وقد خلف لنا عشرات من القصائد مبثوثة في العديد من دواوينه مثل “كتاب الأشعار” ، و”قصائد غنائية”، و “القصائد الأولى”، و “أغاني الغجر الشعبية”، و “شاعر فى نيويورك”، و”بكائية عن إغناسيو سانشيس ميخيّاس” ثم كم من الدواوين كان يمكن أن تضاف إلى هذه القائمة لو استمرت حياته على وتيرتها الطبيعية كيف ستكون أعماله الآن..؟
قال لوركا عندما كان على بضع خطوات من نهر ” الوادي الكبير” الذي ما زال يحمل اسمه العربيّ والإسلاميّ القديم إلى اليوم:
أصواتُ الموت دَقّتْ ، بالقُرْب مِنَ الوَادِي الكبَير
أصواتٌ قديمةٌ طوّقت، صوتَ القرنفل الرجوليّ
ثلاثُ دقّات دَمَوِيّة أصَابتْه ، وَمَاتَ على جنب .
على الرغم من شَغَفِه بالمسرح، فإنه في حياته الأخيرة لم يتوقف عن نظم أشعار رقيقة مؤثّرة وحزينة، كانت الأندلس من أبرز علامات هذه الأشعار، كان لوركا مجدّدا و فريدا ، و طائرا غرّيدا في الشعر، كان من الطليعيين إلى جانب بابلو بيكاسو في عالم الصور، والتشكيل، و الرّسم حتى أصبح من أعظم شعراء القرن العشرين.
أَعْدَاءُ الكلمة الحرّة وأعداء الحياة
هذا الشاعر المبدع الذي أحسّ بقرب نهايته كانت له مقدرة هائلة على التغنّي بالجمال،والتحلّي بالأمل، و تجسيم الألم والمعاناة:
ما هو مآل الشّعراء، والأشياء الناعسة؟
التي لا يذكرها أحد، آه يا شمس الأموال؟
أيّها الماء الزلال، والقمر الجديد
يا قلوب الأطفال وأرواح الأحجار السذابية
إنني أشعر اليومَ في قلبي إرتجاج النجوم
وكلّ الورود ناصعة البياض كحسرتي .
على أوراق أحزانه، فوق لجج هموم بحره منذ الصّغر، وإلى تلك المرثيّة التي كتبها عن أحد أصدقائه من مصارعي الثيران كان لوركا دائم الحديث عن الموت في شعره:
فليمتْ قلبي وهو يغنّي في هدوء، عن السّماء الجريحة الزّرقاء.
ويقول مجيباً عن سؤال الصّغار :
اِمتلأ قلبي الحريري بالأضواء، والنواقيس الضائعة
والزّنابق والنّحل، سأذهب بعيداً بعيداً
ما وراء تلك الجبال، ما وراء تلك البحار
قريباً من النجوم.
ثم نجده يطلب ما لم يمنحه إيّاه الزّمن حيث يقول في قصيدة أخرى:
خليلي أريد أن أموت ، بريئاً على سريري
الفولاذي إذا أمكن، ذي الملاءات الهولندية *.
ولم تتحقق له هذه الأمنية، فقد مات لوركا مقتولاً مُجندلاً، طريحاً . مات مغتالاً برصاص الغدر، والخيانة، والكراهية من أعداء الكلمة الحرّة ، وأعداء الشّعر، وأعداء الحياة. **
* الأشعار والنصوص المُدْرَجة ضمن هذا المقال هي من ترجمة صاحب المقال عن اللغة الإسبانية .
**تحريراً في مسقط رأس لوركا (فوينتي باكيروس) غرناطة الحمراء في ظهيرة 11 يوليو 2023.