محكيات: سائق بثلاث أرجل

محكيات: سائق بثلاث أرجل

عبد الرحيم التوراني

          هاتفني أحمد صباحًا، يسألني عن رقم غرفة مريضنا. وأضاف قائلا إنه يقف بالبوابة الكبرى لمستشفى “الصوفي”.

طلبتُ منه إنهاء المهاتفة لأبحث له عن المعلومة.

 المستشفى قديم، من فترة الحماية الفرنسية. وأعاد بناءه وترميمه الحاج الغالي برادة* أحد أثرياء مدينة الدار البيضاء، ومن المحسنين الفضلاء، ثم سلمه للسلطات العمومية الوصية (وزارة الصحة).

جددت الاتصال بصديقي:

 الغرفة رقم تسعة… الطابق الثالث.

سأستدرك، لما تذكرت أني لم أقم بعد بواجب عيادة صديقنا المريض:

انتظرني… أنا لست بعيدًا عن المستشفى.

 بعد نصف ساعة أو أقل، كنت هناك. ولأن المصعد مخصص للمرضى والعاملين بالمستشفى، أخذت الدرج.

وجدت باب الغرفة مواربًا. أول من وقعت عليه عيناي شخص مسن، كان ممدا على السرير القريب من النافذة البحرية. المستشفى لا يبعد عن شاطئ المحيط. باستطاعتك سماع صوت الأمواج وارتطامها بالصخور.

 في السرير المقابل كان مصطفى، وصديقي واقفا بجانبه. أصبت بصدمة لما سألته عن حالته. رد علي أحمد متعتعا بكلمات غير مفهومة..

 تدخل الصديق ليفهمني أنهم بتروا ساقه البارحة.

بتروا ساقه…؟!

– لم يكن هنالك من حل غير البتر، وإلا كانت الغنغرينا ستأكل كل جسده.

 أما هو فبادر إلى رفع اللحاف ليريني ما حل به…

 أشحت بعيني وأغمضتهما بيدي، كيف أتحمل رؤية ساق مقطوعة!؟ عجبت كيف فعل ذلك بهدوء. كان كمن يريني شيئا ما خارجا عن ذاته، أو كمَن يحكي عن إصابته بجرح بسيط. ثم أعاد اللحاف عليه، لكني ظللت أرى الساق المبتورة من تحت الغطاء.

أخذت أفكر في صيغة مواتية للانصراف والمغادرة، قل الهرب!…  حين سمعت مريض النافذة البحرية يتدخل..

قال:   

آه… لو جئتم بالأمس لما استطعتم التحدث معه. كان ألمه شديدا، كان لا يقدر سوى على الأنين.

وتبسم ضاحكا ليبرز أسنانا مسوسة صفراء بفعل إدمان التدخين، ثم واصل:

لا… بلى.. اليوم الحمد لله. حتى لونه عاد لأصله.. الحمد لله

 من شدة التأثر سهوت. لذلك لم أرد على الكلام. والمتكلم لم يأبه لإجابتي من عدمها. بل تابع ثرثرته متحدثا عن امرأة اسمها “إيمان..

الفضل كله يرجع لمدام إيمان.

 غطى فمه براحته متفوها. وتابع:

أنا ماذا أريد لك يا مدام إيمان..؟  أريد لك كل الخير.. يا رب لا تحرمها من رحمتك.. أنا أسميها إيمان المؤمنة حقا

وانخرط في ضحكة عالية كبكاء.. ضحكة مجنونة بلهاء

 التفتنا وسألنا مريضنا مصطفى عماذا يحتاج إليه. طلب منا بالإشارة تعبئة تليفونه.

تدخل مسوس الأضراس ناهيا ممانعا:

يا صاحبي ارتح قليلا من الكلام.. منذ انتهيت من الأنين وأنت لا تفارق التيلفون.. ألا تتعب؟ كثرة الكلام في الهاتف مضرة بالصحة.

 سأعرف لاحقا من أحمد أن ثرثار النافذة البحرية. رجل غريب. من مدينة تاونات في الشمال. يشتغل – أو كان يشتغل – سائق كاميون نقل بضائع وسلع. متزوج من ثلاث نساء. الأولى تقرب له، وتسكن بتاونات. الثانية بارميت في إحدى حانات الدار البيضاء. والثالثة فلاحة من مدينة بني ملال.

 لا أحد من أهله يعلم بحادث السير الذي تعرض له، جاؤوا به إلى المستشفى ليلًا مغيبا عن الوعي، بسبب الحادثة الناتجة عن السكر الطافح. سارعوا وبتروا ساقيه معا.

هو لا يرغب في أن يعلم أحد من عائلته وأقاربه بما جرى له، وبالأخص زوجاته الثلاث المتفرقات عبر أرجاء المسافات التي يقطعها من أعوام وسنوات في عمله. يقضي وقته في الكلام مع نفسه والضحك مثل مجنون. والجملة التي يرددها أكثر هي:

– (كان عليك يا سيدي ربي أن تقطع لي رجلي الثالثة، فأنا لي ثلاث زوجات).

 تحكي الممرضة حليمة:

جاءه الطبيب المعالج وطمأنه، أخبره أنهم بفضل تدخل مدام إيمان، سيجلبون له ساقين اصطناعيين من نوع بريطاني جيد.

نظر سائق الشاحنة إلى حليمة وهمس:

أليس لديكم ماركة “ميتسوبيشي” لي، و”تويوتا” لهذا العبد الضعيف؟ و أشار إلى مريضنا مصطفى.. ثم أطلق ضحكة مفزعة.

 تقول الممرضة حليمة أن المريض مصطفى سبق أن سمع من صاحبنا هذا الطلب، وتتذكر أنه انفجر بالضحك حتى أدمعت عيناه، ثم طلب أن يأتوه بآله تصوير.

 آه.. نسيت أن أخبركم أن مصطفى زميلنا كان مصورا صحفيا بيومية “لوماتان” التابعة للقصر الملكي. واسمه الكامل (مصطفى بلواهلية)، وأنه مات بعد أشهر قليلة من بتر ساقه، ولم يتمكن من الوقوف والمشي على ساق من نوع “تويويتا” كما أوصى له سائق شاحنة “ميتسوبيشي”، الذي بلغني أنه لا زال يعيش في مدينة ابن أحمد جنوب الدار البيضاء.

 18  مارس 2016 

___________________________________________________________________________________________

 * الغالي برادة هو والد وزير المالية وسفير المغرب السابق بباريس الأستاذ الجامعي محمد برادة.

Visited 101 times, 101 visit(s) today
شارك الموضوع

عبد الرحيم التوراني

صحفي وكاتب مغربي، رئيس تحرير موقع السؤال الآن