سوريا: رفع العقوبات وسؤال الدولة المفقودة

نضال آل رشي
في سوريا، لا تكفي الأخبار السارّة وحدها لتغيير الواقع. نعم، من حق السوريين أن يفرحوا بعد كُلِّ ما عانوه في العقود الأخيرة، لكنّ هذا لا يعني أن يتجاهلوا حقيقة أن السوري الذي فقد أحبّتهُ وبيته ومدينته وعمله وأمنهُ وكرامتهُ، لم تكن مُعاناته تقتصر على الانتظار أمام أبواب المؤسّسات الاستهلاكيّة أو طوابير الغاز أو شبابيك الأفران. من حقّه أيضاً أن يتذكّر أنّ انهيار البلد لم يكن سببه الرئيسي “العقوبات”. من هنا، فإنّ إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الرياض رفع العقوبات عن سوريا ولقاءه برئيس الإدارة المؤقّتة أحمد الشرع، وهرولة الاتحاد الأوروبي إلى القيام بالمثل، كان يتطلّب من النُخب السياسيّة والثقافيّة ما هو أبعد من مُجرّد الاحتفاء بالخبر أو الانشغال بتفاصيل رفع العقوبات وكيفيتها وتوقيتها. كان يتطلّب منهم طرح سؤال جوهري آخر: لو كانت سوريا بلا عقوبات، أو لو كان نظام الأسد جُزءاً من المُعسكر الغربي حالُه كحال الكثيرين، هل كنّا اليوم بخير؟ ولو كانت تربطنا بإسرائيل مُعاهدة سلام، هل كانت الأمور لتصل إلى ما وصلت إليه؟
لا شك في أنَّ رفع العقوبات عن سوريا ولقاء القيادة الجديدة، يُشكّل لحظةً مفصليّةً، لكنّها أيضاً لحظة تُعيد إلى الأذهان لحظات مُشابهة من تاريخ الشرق الأوسط، حين انتهى الحصار الدولي ولم تنتهي مُعاناة الشعوب. الدرس العراقي حاضر بقوّة في هذا السياق، فعلى الرغم من رفع العقوبات الدوليّة بعد 2003 وتدفّق مئات المليارات من عائدات النفط، عجز العراق عن تحقيق تنمية حقيقيّة بسبب استمرار المحاصصة الطائفيّة، وغياب التمثيل الفعلي لمكوّنات المجتمع، وتحوّل الفساد إلى آليّة حُكم.
أمّا التجربة المصريّة، تُقدِّم مثالاً آخر على محدوديّة أثر التطبيع مع الغرب ورفع القيود الاقتصاديّة في ظل غياب الإصلاح الداخلي. فاتفاقيّة كامب ديفيد وما تبعها من مساعدات دوليّة لم تمنع تآكل البُنية الاقتصاديّة المصريّة نتيجة الفساد وسوء الإدارة وغياب التمثيل السياسي الحقيقي. وهي مثال مُتكامل على أنّ الحكومات التي تعتمد على صفقات مع الخارج مُقابل تنازلات سياسيّة أو أمنيّة، دون إصلاح داخلي جذري، تجد نفسها في نهاية المطاف أمام أزمات معيشيّة مُتكررة تهدد استقرارها، وأمام المزيد والمزيد من التنازلات في المُستقبل.
في الحالة السورية، هُناك اعتقاد رائج في الأيّام الماضية بأنَّ رفع العقوبات سيؤدي إلى تدفُّق الاستثمارات، وسيشكّل رافعة اقتصاديّة سريعة للبلاد. لكن القواعد الاقتصاديّة والتجربة تقولان بأنّ رأس المال “جبان”، ولا يتحرّك في بيئة تغيب عنها قواعد الشفافيّة وسيادة القانون.
هُنا ومن باب العدل، يجدر القول بأنّ السُلطة الجديدة ورثت دولة مُفرَّغة تماماً من محتواها المؤسّساتي، لا بل محاطة بحقل ألغام من شبكات المصالح التي كانت جزءاً من النظام الساقط لكنّها مُتعمّقة في بنية الاقتصاد والمجتمع إلى حد يُصعّب اجتثاثها سريعاً. لا يتعلّق الأمر ببقايا النظام كأشخاص بقدر ما يتعلق بتركيبة الدولة ذاتها، مؤسّسات شكليّة، اقتصاد مُتهالك قائم على الريع واقتصاد الظل، وإدارة عامّة مشلولة استُبدلت فيها الكفاءة بالولاء لعقودٍ طويلة.
وبذلك فإنّ الشرع وفريقه يواجهان مُعضلة مزدوجة، من جهة يفتقدون إلى أدوات سلطة حقيقيّة تُمكّنهم من فرض إصلاحات عميقة في بُنية الدولة. ومن جهة أخرى، يواجهون مجتمعاً منهكاً، مُمزّقاً اجتماعيّاً ومجاليّاً. فالمدن الكبرى التي عانت لسنوات، تحوّلت إلى جزر متباينة السيطرة بين قوى محليّة، بينما الأرياف تمارس فيها قوى الأمر الواقع سُلطةً غير رسميّة تتقاطع أحياناً مع الحكومة، لكنّها غالباً ما تعمل وفق منطقها الخاص. في المقابل، الغالبيّة الساحقة من السوريين يعتاشون من اقتصاد هش يعتمد على الحوالات الخارجيّة والمساعدات والاقتصاد غير الرسمي، في ظل انهيار شبه كامل للقدرة الشرائيّة والخدمات الأساسيّة.
أمّا العلاقة بين السلطة والمجتمع فهي في حالة انقطاع بُنيوي عميق. السلطة الجديدة، رغم خطابها الإصلاحي، لم تستطع بعد بناء أدوات اتصال حقيقيّة مع “المواطنين”. ولا يبدو بأنّها تستوعب بأنّ الثقة المفقودة لا تُرمم بالخطاب وحده، بل بإعادة صياغة العقد الاجتماعي من أساسه، عبر إعلان دستوري لائق، وحوار وطني حقيقي جامع، وعدالة انتقاليّة لا تُشبه في شيء المرسوم رقم (20) لعام 2025 بتشكيل الهيئة الوطنيّة للعدالة “الانتقائيّة”. وكذلك بتمكين قوى المُجتمع الحيّة كالنقابات المُستقلّة والبلديّات ومؤسّسات المجتمع المدني، ورفع يد الدولة عنها بشكل نهائي. هذه القوى، وإن كانت مُبعثرة وضعيفة تنظيميّاً، تُشكِّل الأمل الوحيد لبناء شرعيّة جديدة لا تقوم على القوّة العارية أو المحاصصة الموروثة.
في المحصّلة، سوريا اليوم لا تواجه فقط أزمة إعادة إعمار مادي، بل أزمة بناء دولة من العدم تقريباً، حيث لا يمكن القفز فوق تعقيدات الُسلطة وتمزقات المجتمع وانقطاع العلاقة بينهما، بالاعتماد على حلول سريعة أو استثمارات عابرة. التحدّي يكمن في إنتاج نموذج جديد للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، يتجاوز منطق السيطرة عبر الاقتصاد غير الرسمي، ويتجاوز مفهوم” الصفقة الاستبداديّة” القائمة على مبدأ الخدمات مُقابل الطاعة. التحدي يكمن في الذهاب نحو دولة قانون حقيقيّة تتعامل مع السوريين كمواطنين لا كزبائن في سوق الولاءات.
إنّ رفع العقوبات يمنح سوريا فرصة استراتيجية للخروج من العزلة، لكنَّهُ لا يقدم حلاً سحريّاً. بل على العكس، قد يُعرّي أكثر، هشاشة البنى الداخليّة إذا لم يترافق بإصلاحات جذريّة. بعبارة أخرى، إنّ الفرحة برفع العقوبات مشروعة، لكنّها لا تكفي لبناء مُستقبل. والتاريخ لا يمنح الشعوب فرصاً كثيرة، وعندما يفعل، فإنّه يختبر قدرتها على التحوّل لا على الفرح. وما لم تتحوّل السُلطة في سوريا من كيان يوظّف الموارد لحماية الكرسي وشراء الولاء إلى كيان يوظفها في إنتاج التشاركيّة والمعرفة واجتثاث التخلّف والظلاميّة، فإنّ هذه الفرصة الاستثنائيّة ستتبدّد كما تبدّدت سواها. وعلى السوريين أن يُدركوا بأنّهم ليسوا بحاجة إلى مُعجزات، بل إلى عقدٍ سياسي جديد يعترف بهم كمواطنين لا كرعايا. وحده هذا التبدّل البنيوي، لا المال ولا التطبيع ولا الانفتاح، قادر على كسر الحلقة الجهنميّة المُتمثّلة: بدولة تسقط، فتقوم أخرى على أنقاضها… بنفس الأدوات، ونفس المآلات.