الأحرار الطلقاء والأسرىَ السّجناء!

د. محمّد محمّد خطّابي
كم رأيتُ، وشاهدت، وحدّقتُ، وأمعنتُ النظرَ، واستمتعتُ منذ صبايَ المبكّر بهذا المنظر الجميل والأليم فى آن واحد الفريد فى بابه فى شكله الطبيعي المباشر، فى ذلك االزّمان البعيد الذي مرّ وغبر، وخلا وولّى، ومضى وإنقضى، وانصرف بأهله حميدا مجيدا كنت أحاول إبّانئذ أن أضع أسماءَ وعناوينَ ومانشيتات لما كان يتراءى لي أمام ناظري كلّ يوم فى الصّباح والظهيرة والرّواح، وأنا بعدُ غضّ الإهاب، طريّ العود، ما فتئتُ أخطو أولى الخطوات، وأصعد أولى العتبات فى أدراج شرخ الشباب، وسلاليم ريعانه، ولكي أضفي قبساً من السّعادة والحبور، وهالة من الجذل والسّرور على نفسي، ولأعزّي هذه النفس الملتاعة، المعذّبة، الحائرة، المعنّاة، والناقمة الثائرة المتمرّدة فى العمق، السّاخطة على ما تراه كلّ يوم بعيون دامعة، وجفون مبلّلة، وقلب منكسر حزين مكلوم، وتلمسه عن قرب لهذا المنظر الذي جمع بين الضدّين، والنقيضين.
توصّلتُ فى آخر المطاف إلى نتيجةٍ حتمية أقنعتني وشفت غليلي، مفادها: أنّ هؤلاء الأجداد الأبرار، وهؤلاء المجاهدون الأبطال الصّناديد البسطاء المتواضعون الذين يمرّون أمام تلك الجزيرة المنكوبة، والصّخرة المعطوبة السّليبة فى تؤدةٍ وتأنٍّ.. وفى هيبة وجلال، واعتداد، واعتدال، وشموخ وخيلاء هم فى نظري فى الواقع بكلّ تأكيد (الأحرار الطلقاء)… والآخرون المختفون، القابعون، والملتصقون، الجاثمون بجسومهم على نتوءات تضاريس هذه الصّخرة الجميلة المحتلّة منذ بضع قرون (صخرة النكور) متشبّثين بمخالبهم فيها كالقرّاد فهُم: (الأسرى السّجناء).
عندئذٍ… وبعد أن يواصل الأبطال الصّناديد، وهؤلاء الفلاحون البسطاء مسيرتهم فى عزّة، وأنفة، ورفعة، وإباء، وسموّ، وثبات، بتؤدةٍ وتريّث… كنت أتنفّس الصّعداء… كانت تصلني صبا ونسائم ورذاذ لجج البحر المنعش من شاطئ (الصّفيحة) الجميل محمّلاً بعطر زكيّ عبق فوّاح، عندئذ أعزّي نفسي وأمنّيها وأقول: هؤلاء الناس البسطاء أبهروا العالم بشجاعتهم، وحيّروا خبراء الوَغىَ والسّجال بشهامتهم، وبسالتهم، ونخوتهم، وأنفتهم، وعلوّ كعبهم، وسموّ همّتهم فى الدفاع عن حوزة الوطن الغالي، والذّوذ عن كرامته، وصون سمعته، والحفاظ على شرفه وهمّته… إنهم قوم – كسائر إخوانهم المغاربة فى مختلف ربوع الوطن- لا يطأطئون الرّؤوس أبداً… إنهم يموتون ويستشهدون وهم صامدون، واقفون دائماً كالأدواح الشاهقات، والأشجار الباسقات… كما قال خصومهم عنهم SIEMPRE DE PIE Y JAMAS DE RODILLAS ANTE EL ENEMIGO دائما واقفون..ولن يركعوا أبداً على ركبهم أمام العدوّ.
ذات يومٍ من أيّام الله الخوالي كتب ابن (أجدير) الأبرّ الباحث الأستاذ فريد بنقدّور عن هذه الصورة الفريدة المعبّرة يقول: ” أفهم جيّداً بما يوحي مشهد هذه الصّورة ببلدة أجدير أيام عزّها. نفس الإحساس يراودني وأنا أنظر إلى هؤلاء الفلاحين العائدين مع الغروب من سهل “روضا” “الوطاء” (حيث كانت مزارعهم وحقولهم وأراضيهم الخصبة التي يزرعون فيها مختلف أنواع الخضر، والحبوب، والبقوليات، والقطانيات، والفواكه الموسمية، وعلف مواشيهم على امتداد الحوْل) إلى حال سبيلهما الواحد ممتطياً بغلته، والآخر يتحرّك مشياً على قدميْه والمعول فوق كتفه، وهما يتبادلان أطراف الحديث حول الفلاحة، وأحوال البلدة، وعن الماضي. أتذكّر خلال السبعينيّات من القرن الفارط هذا المشهد عينه عندما كانت الشمس تميل إلى الغروب ويغادر الجميع سهل (روضا) فرادى وجماعات، مشياً أو راكبين على دوابّهم وفيهم من يسير وراء أبقاره أو خلف قطيع ماشيته. يرجعون إلى حال سبيلهم من مختلف الطرق إلى دورهم البسيطة التي غالباً ما كانت توجد فى أعالي الجبال الشاهقات. منهم من يتّخذ الطريق المؤدّي إلى “كونترون” (مقرّ أجدير الرئيسي الذي كان يسمّى سابقاً تاخزانت) ومنهم من يتّخد الطريق المؤدّي إلى “دشار” (المدشر)، وسهل “ملعب” (سمّي هذا المكان كذلك لأنهم كانوا يتبارون ويتسابقون ويلعبون بخيولهم فى سهله الفسيح الممتد قبالة شاطئ الصّفيحة)، و”ادهار نالسلوم “(ظهر السلّوم). كانت الحياة بسيطة وقنوعة، وكانت تختفي وراء السّاكنة التراسبات الاجتماعية المعقدة، وكان الجميع يشعرون أنهم منغرسون في عادات وتقاليد مشتركة، وأنّهم كانوا لصيقين بأرض الأجداد. ممّا يزيد إحساس الصّورة هو المعرفة بأسر بلدة أجدير وأسماء قاطنيها وألقابهم وسيرتهم. أغلبهم لعبوا دورهم في الذود عن حوزة الوطن ببنادقهم وحين انتهت الحرب التي خاضوها ببسالة ضدّ الاسبان عادوا بكلّ هدوء إلى الفلاحة وزراعة أراضهم كأنّهم قاموا بالواجب وكفى وبدون تبجّح. الفلاحون والرّعاة الذين كانوا يمرّون عبر شاطئي الطايث (الطاية) واسفيحا (الصّفيحة) جماعاتٍ مع قطعان ماشيتهم وأبقارهم كان مشهداً يثير الانتباه. وكان العائدون إلى حال سبيلهم عبر هذا الشاطئ يطلقون نظراتٍ حسيرة جهة جزيرة النكورحيث تثير فيهم مشاهد المقاومة وأشياء أخرى. هذا المشهد يستدعي كتابة رواية في غاية الأهمية عن فلاّحي بلدة أجدير ونمط حياتهم، وعزّتهم، ونخوتهم خلال زمن العزّة والكرامة”.
قال المورّخ البريطاني الشهير (روم لاندو) فى كتابه الكبير (تاريخ المغرب فى القرن العشرين)… قال عندما وصل الى تخوم أرض الرّيف الوريف لأوّل مرّة ليسجّل ملاحظاته، ومشاهداته عنها قال لمرافقه فى السيّارة التي كانت تقلّهما عندما وصلا إلى مشارف،وآكام ومرتفعات بلدة (بني حذيفة) الباسلة: “لقد أيقنتُ أننا الآن فى بلاد الرّيف”… فسأله مرافقه: وكيف عرفتَ ذلك…؟ فقال له: (لقد رأيت عزّتهم فى إعتدادهم وطريقة مشتيهم …).. هؤلاء – شأنهم شأن سائر المغاربة الصّناديد الأحرار- فى مختلف ربوع الوطن الحببب من وجدة إلى الحسيمة، مروراً بطنجة حتى الكويرة هم الذين لقّنوا تشي جيفارا، وهوشيه مينه، وماوتسي تونغ، وسواهم من أحرار وحرائر العالم دروساً لا تُنسى فى مقاومة العدوّ المعتدي الغاشم فى سنّهم لحرب العصابات التي تُعرف اليوم فى العالم أجمع بـ: La gerrilla.
ألف تحيّة ومحبّة وتقدير وإجلال لهم، وأرفع قبّعتي احتراما وتبجيلا لأصحاب، وأرباب هذه الصّورة الجميلة التي لا بدّ أنّ الأشخاص الأكارم اللذين يظهرون فيها… هم من سلالة أجدادنا الأشاوس الأبرار الأقربين ولا شكّ… رحمهم الله تعالى جميعاً برحمته الواسعة..
هذه المنطقة الساحرة من العالم التي توجد فى شمالي المغرب سبق أن زارها الكاتب اللبناني النحرير الألمعيّ، والأديب الأريب اللوذعيّ، والشاعر الرقيق، والمفكّر الجهبذ، والخطيب المِصقع الذي يحمل عن جدارة وأهلية واستحقاق لقبَ (أمير البيان ) شكيب أرسلان رحمه الله وأعجب بها وبمناظرها الخلاّبة إعجاباً كبيراً، واحتسى أكؤسَ الشّاي الأخضر المُنعنع أو المعطّر بالنعناع، وتذوّق العسلَ الأبيض الحرّ مع الزّبدة البلدي فى هذه المرتفعات والآكام الشاهقة فى مكان يسمّى (ظهر السلّوم) الواقع قبالة هذه الجزيرة الأسيرة السّليبة التي تُسمّى حجرة أو صخرة النكور … فكّ اللهُ أسرَها… ورفع عنها وزرَها… هي ومثيلاتها وأخواتها الأخرى الباقيات: الجزر الجعفرية، وجزيرتا (البرّ) و( البّحر) بشاطئ الصفيحة الجميل، وحجرة بادس، وجزيرة ليلى تورة…!! ناهيك عن حاضرتيّ مليلة وسبتة المحتلّتين….!! حيث كان أحد الشعراء المغاربة السبتيّين قد خاطب مدينته سبتة كما جاء فى الكتاب الضخم القيّم (أزهار الرياض فى اخبار القاضي عيّاض) لأبي العبّاس المقري التلمساني حيث قال:
سلامٌ على سبتة المغربِ / أخيّةَ مكّةَ ويثربِ!