مقترحات لتجويد البحث العلمي في المغرب
محمد الداهي
يصعب أن نُقوِّمَ البحث العلمي في المغرب بطريقة موضوعية لانعدام الإحصائيات والمعطيات الدقيقة والمُحيَّنة بانتظام، وتباين الأداء والمردود حسب كل جامعة على حدة. نفاجأ أحيانا بأن جامعة مغربية في عداد الجامعات الدولية المصنفة على الرغم من امتعاضنا واستيائنا من وضع التعليم في المغرب ونتائجه لأسباب ودواع يعرفها القاصي والداني. كان لـ ” كتابة الدولة في البحث العلمي” في حكومة عبد الرحمن اليوسفي عام 1998 أثر بالغ في إثارة مشكل “البحث العلمي” بالجامعات المغربية، واستحداث معاهد وكليات جديدة، وتقويم النتائج المحققة، وتخصيص ميزانية للبحث العلمي تقدر سنويا بما يناهز 40 ميلون درهما لدعم جملة من البرامج والمشاريع التي تقوم بمعايير محددة لاختيار أفضلها، وتمويل التظاهرات العلمية المنتظمة، وتعزيز علاقة الجامعة بمحيطها الاقتصادي والثقافي، وتطوير البحث الأساس. ومع ذلك لم تتحقق الرهانات المنشودة لأسباب كثيرة أذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر:
– لا يتعدى الإسهام المغربي في الإنتاج العالمي نسبة 1 بالمائة.
– لم تحقق الشراكات وسبل التعاون والإنتاج المشترك (Co-production) مع الجامعات الدولية في فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وإسبانيا ما كان متوقعا ومنتظرا منها؛ وإن استطاعت مختبرات بعينها أن تحقق نتائج ملموسة في مجالات اهتمامها ( تطوير الفلاحة، وتدبير الغلاف الجوي، وتحسين المورد المائي).
– تعاني أغلب فرق البحث والمختبرات من ضعف التمويل، ويتفاوت أداؤها بالنظر إلى طبيعة المنشورات والندوات والمرامي. يُعتمد في هذا الصدد على القياس البيبليوغرافي Bibliométrie (منهجية لتعيير نوعية المنشورات العلمية وأدائها) لمعرفة وتيرة النشر في كلية ما، ونوعها، وأدائها العلمي، ونسبة ترويجها والاستفادة منها، وطريقة استثمارها في قواعد البيانات المعتمدة (Scopus, Google Scholar, Thomson Reuters, cite Seerx) لمعرفة عدد المنشورات السنوية، وقيمتها العلمية، وعدد الإحالة إليها من قبل باحثين آخرين.
– يُعتمد في تصنيف الجامعات- من بين اعتبارات أخرى – على قياس المواقع ( webmétrie) لمعرفة كيف تُستثمر الجامعة البحث العلمي على مستوى الانترنيت وخاصة على مستوى النشر الرقمي، وكيف تستثمر أيضا ” تكنولوجيات المعلومات والتواصل (TIC) في الرقي بالتدريس والتحصيل العلمي إلى المستوى المنشود، وفي توفير الخدمات البيداغوجية والعلمية عن بعد. معظم مواقع المؤسسات الجامعية العليا تُستثمر في نشر الأخبار والمستجدات وصور الرؤساء والعمداء . وعندما تنتهي ولاياتهم يأتي مسؤولون آخرون فيعمدون لأول وهلة على حذف صور زملائهم لإثبات صورهم. وهكذا يتضح أن الوزارة الوصية ليست لها رؤية شاملة للنهوض بالبحث العلمي، وخاصة بالشطر الذي أبان عن هشاشة بنيات مؤسساتنا وضعفها إبان جائحة كورونا. ولذا يُستحسن الانخراط في ورش لتسويق جهدنا بالطرائق العلمية والمنهجية المتطورة؛ ومن ضمنها إنشاء مواقع جيدة تتوافر فيها الشروط المنشودة: علاوة على الخدمات البيداغوجية، تُنشر فيها الأبحاث المحكمة، والأطاريح الجيدة، وتُعرض فيها حصيلة الكفاءات، ويُعرَّفُ بالباحثين ذوي الخبرة والتميز، وتُنشأ مجلات الكترونية ذات المواصفات المنشودة، وتُحيَّنُ المحتوياتُ بانتظام. وهذا من شأنه-فضلا عن اقتراحات بناءة- أن يعزز الإحالة إلى منشورات الباحثين المغاربة ويقوي نسبةَ الاطلاع عليها. سأعطيك مثلا بسيطا. يحال بشكل كبير إلى المؤلفات الورقية لعبد الله العروي لقيمتها العلمية ليس في عالم العربي فحسب، بل في كثير من الدول الغربية؛ وفي مقدمتها فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا. في حين عندما تبحث عن مؤلفاته ودراساته في قاعدة البيانات المشار إلي بعضها سابقا تجدها شبه منعدمة رغم أن عبد الله العروي يحسن التأليف باللغتين العربية والفرنسية. إن حسن استثمار دراسات الباحثين من قيمة عبد الله العروي، وتيسير إدراجها في قاعدة البيانات المعتمدة سينعكسان إيجابا على الكلية التي ينتسبون إليها في شغل مراتب متقدمة في التصنيف الدولي لسمعتهم العلمية وجدة أفكارهم وملاءمتها، وحاجة الباحثين من مختلف الأقطار إليها في تطوير مؤهلاتهم وأبحاثهم.
ترتبط مشاكل البحث العلمي بتعثر الحكامة الجيدة في تحقيق الأهداف المرجوة. إن عدد جامعاتنا ( اثنتا عشرة جامعة) قليل بالنسبة إلى بعض الدول النامية التي شيدت ما يربو على خمسين جامعة.. ومع ذلك ما فتئنا نعاين قلة التجهيزات والمعدات وإن تحسنت نسبيا مع ” البرنامج الاستعجالي 2009-2012″، وعدم توحيد معايير تدريس الوحدات والتقويم، وتدابير انتقاء مشاريع الدكتوراه ومنافشتها، وعدم استحداث بنيات للمصادقة على مشاريع الدكتوراه تفاديا للتكرار، ولإجبارية اعتماد البرامج المضادة للسرقة (Logiciels anti-plagiat) بغية احترام حقوق الملكية الفكرية من جهة والرقي بالأداء العلمي. بقدر ما تكثر أشكال القرصنة والسرقة، يقل الإبداع ويتراجع منسوب الجودة، مما يؤثر سلبا في الإنتاجية والتنافسية والمردودية، ويكبد الدولة خسائر فادحة، ويكلف الاقتصاد العالمي خسائر تفوق 200 مليار دولار أمريكي سنويا، ويسهم في تفاقم بطالة الأطر والكفاءات المؤهلة. إن الإنتاج الفكري لا يقل أهمية عن الإنتاج المادي بما له من دور في إعطاء صورة إيجابية عن الأمم؛ إذ أصبحت درجة تقدمها تقاس بما حققته في مجالي التعليم والثقافة، وبما وفرته من آليات عملية لحماية الإبداع الفكري تنويها بجهود الإنسان في ارتياد الكواكب والآفاق، والإسهام في ركب التنمية المستدامة، والسعي إلى التشبع بالمعرفة المنتجة والاكتشافات المبهرة.
في مقدمة المشاكل التي تعيق القطاعات العمومية بما فيها قطاع التعليم، هو ضعف الحكامة والتدبير، وانعدام الرؤية الشاملة. وهو ما يؤدي إلى تعثر برامج الإصلاح، وقلة التجهيزات وإن تحسنت نسبيا مع “المشروع الاستعجالي” 2009-2012، وانعدام الثقة في المؤسسات التعليمية، واستفحال الأمية الرقمية، وتعمق الفجوات الرقمية بين الطبقات الاجتماعية والمناطق الجغرافية. وهذا ما يتطلب من الوزارة الوصية أن تتكفل بمقاربة تشاركية ودامجة لتدبير التغيير، وتحرص على تثبيت دعائم البيداغوجيا الفعالة الحافزة على الابتكار والإنتاج، وتشرك المتدخلين المعنيين في تطوير برامج البحث والتكوين والتقويم المستمر، واستحداث بنيات البحث والمختبرات لتحسين معايير البحث العلمي وفق المعايير المعتمدة ومساعي النموذج التنموي الجديد، وإحداث نهضة حقيقية في المنظومة التربوية عامة.