مكناسة الزيتون ومولاها
حسن عثمان
ثمة مدن مصانع يحجب دخانها ضوء الظهيرة، ومدن أسواق للبيع والشراء والمقايضة، ومدن معابر سلع وأناس، ومدن لاسترجاع الذكريات ومرارات الحنين المر، ولكن مكناس مما يجوز تصنيفها في قائمة المدن المتاحف، إذ ما أن تقطع خطوة واحدة في طرقاتها حتى تكون قد عبرت من أثر لأثر ومن عصر لآخر.
هل سبق أن دخلت تاريخها من باب المنصور وسألت نفسك الجوالة بالفرح، عن سر كل تلك العظمة وكل ذلك الشموخ وبراعة اليد الصانعة؟
إن كنت قد رأيت مكناسة الزيتون فالأرجح أن رائحة ما أو مذاقا ما لا يزال عالقا بذاكرتك ومجامع حواسك. فمن قواعد عشقها ألا أحد يعبرها دون أن يترك فيها شيئا مما تتعلق به القلوب، حتى لو كان قلبه المنثور هباء في حدائقها الزاهية. ولربما أثار انتباهك أنها ظلت حاضرة في جميع العصور وتقلبات السلطة في تاريخ المغرب ولكنها لم تبلغ فتوتها ومبلغ فتنتها إلا عندما انصهرت في مضمار الترقي والتجاوز، الذي أرق ليالي المولى اسماعيل وقد أختارها عاصمة لملكه وحاملة لأختامه وما بينهما من الدهاء والعنت والتوكل الخالص على إرادة الخالق. ولعله كان يقطع دروب الإسماعيلية صباح مساء متوجها من باب البردعيين الى باب الخميس وباب السيبة وعينه على حدائق باريس وشوارعها وعمائرها مجددا عزمه على أن تصبح مكناسته النسخة الأولى لفيرساي وعنوانها في الأمصار الواقعة جنوب شاطىء الأبيض المتوسط.
هذا التزامن التاريخي المدهش بين فيرساي ومكناس والمولى اسماعيل ولويس الرابع عشر يفتح أبواب مواجع ومؤاخذات عديدة يحسن تجنبها هذه الساعة لأن المدينة المتحف تقول على حياء: “هيت لك” وليس ثمة مهرب لمن يدعي أنه رأى مكناسة الزيتون قبل أن يراها. ولكن خذ حذرك من مدينة لا تستطيع فكاكا من مولاها وبانيها ورافع ذكرها بين العالمين. هما رقمان متلازمين بالضرورة في معادلة تقرن أقدار الأمكنة بأفعال اهلها القادرين على الكمال.
ترى ما الذي تصطنعه سرديات الرواة القائلين بأن المولى إسماعيل وقد استقام عرشه واستوى صولجانه كان قد راهن على بناء سور لا يحصن مكناس وحدها، وإنما يضرب في الأرض تجاه مراكش، حتى لا يضل العميان طريقهم إلى عاصمة ملكه وملتقى المتظلمين من عسف الناس والزمان. وها ما تبقى منه على الطريق الصاعد الى فاس: أحجار تكتم أسرارها وتزري بهذا الزمان وأهله الطيبين.
ومع أن مكناس فقدت صدارتها وزعامتها السياسية بمجيئ العلويين، إلا أنها لم تتنازل عن كونها خزانة فريدة لمٱثر تاريخية تتميز بها فيرساي المغربية عن غيرها من المدن الإمبراطورية المغربية. وإذ تتماثل الأبراج والقلاع هنا وهناك تلقي مكناسة الزيتون بعصاها التي تلقف كل ما أتى به سحرة المدن: سجن فسيح تحت الأرض لا يخرج منه حبيس إلا بدليل أو GPS، أو عفو مولوي يجب ما قبله من المعاصي والذنوب. كما لو أن مولاي اسماعيل تعمد ألا يرى العلوج مفاتن مدينة تربصوا بها شرا ولكن منظمات عفو ذلك الزمان كانت ستجد مأخذا تتكئ عليه لاتهامه بسوء ما فعل وما لم يفعل سواء بسواء. كما لو أن سجنه يقول للعلوج فاقدي الحول والقوة: جئتم غزاة فاتحين ولكن لم تروا عزمنا ولن نرى ضعفكم وهوانكم بعد يومكم هذا. ولا عجب في أن يرفع مولاي اسماعيل صوته فوق ضجيج المجامع الإستعمارية لأنه سليل ارض كانت حقلا واسعا من القلاع والأبراج يحرسها المحاربون الأمازيغ، أو “ايساكن”، كما جرت به ألسنتهم قبل أن يحرفها اللسان العربي الفصيح إلى مكناس، التي أصبحت اسما ما حمله الهواء إلا فاضت الذكرى بالحنين. ويا سيدي طويل العمر إذا كان قلبك طريا فلا تذهب الى مكناس ٱن يجتمع مجاذيب عيساوة في موسمهم السنوي، ويعلنوا تمردهم الصريح على التسليم بأن للجسد البشري حدودا لا يتخطاها، وأن للروح ما تطلب وتريد عندما ترقى إلى المدارج البعيدة. ولكنك لو تحاملت على ضعفك البشري لرأيت العجب العجاب وكتبت في عداد السالكين. أما لو كنت لم تر الإسماعيلية بعد، فليس في وسعي أن أختلق لك عذرا تفضحه أولى خطاك عبر باب المنصور.