قصة قصيرة: رابح

قصة قصيرة: رابح

د. ناصر السوسي

هبت ريــح هوجاء فجرهذا اليوم حملت معها مطرا مدرارا ساعة خروج  “رابـــــــح ” من المعمل الذي طفق يشتغل فيه منذ سنة تقريبا. أحس رابـح بصداع نصفي قوي عند انتصاف الليل، وها قد اشتدت وطأته عليه  في هذه اللحظة.

وقف رابـح أمام بوابة  المعمل في انتظارأن تخف قليلا غزارة الأمطار. كان يحدق بعينين مُسْهدتين مَكْدودتين في وابل المطر، ويتأمل انعكاس ضياء النيون الشاحبة على بِرْكَة تَجَمَّع ماؤها أمام البوابة التي لَبِثَ محتميا بها لبعض الوقت. قَدَّرأَنَّ الطقس سيبقى مَطِيرًا، وأنه لن يستطيع تحمل مزيد من الانتظارهنا ولأجل غير مسمى، والأجدر بـــــــه أن يغادر المكان.وهو واقف، يقدم رجلا ويؤخر أخرى، داهمه بغتة  دَوَارٌ وَضْعِيٌّ فصاحبه غثيان سَرَّعَ نَبْضَ قلبه. كانت الدنيا تَلِفُّ أمام عينيه، ومع ذلك  تمالك نفسه بثبات  فأخرج كيسا بلاستيكيا من حقيبته الكتفية غطى به رأسه لينطلق مهرولا يُرِيدُ بيته؛ ولم يتوقف إلا من أجل الاحتماء ثانية بسقف بوابة “دار الشباب  المغربي” من عاصفة وبَـــــــــرَدِ حالا بينه وبين الاستمرار في سيره.أسند ظهره إلى الباب الحديدي لــ ” الدار”. نفض الكيس البلاستيكي. مسح وجهه بكم معطفه. فجأة أحس بقشعريرة البرد تغزو جسمه. تحسس ثيابه، ففطن  لماء المطر يخترق معطفه الصوفي الرث، لينفذ إلى جسمه.طفق يجوب المكان الضيق جيئة وذهابا دَرْءً للبرودة؛ ممعنا نظره عميقا فيه. تأمل الباب الحديدي المتآكل من الرطوبة والصَّدإ .جال ببصره وسط الفناء فأطال النظر في هاته المعلمة التربوية التي درج مرتادوها، فيما سلف، على وَسْمِهَا بـ ” جامعة المدينة “. أثارانتباهه صَرِير أبواب القاعات المقفرة المهترئة، بسبب مجرى الهواء القوي وسط الفناء. سبورة الإعلانات الكبيرة أتى عليها  سوس الخشب. وأمام عتبة المدخل المفضي إلى الملاعب الرياضية مشرد مستغرق في نوم عميق، وقد لف جسده بكيس بلاستيكي كبير.لاح ببصره ثانية إلى الداخل فناجى نفسه الشجية قائــــــــــــلا:“في تلك القاعة عقدت ندوات ثقافية وفكرية. وفي الأخرى شَذَوْنَا ونحن صبيان بأناشيـــــــد الأمَل من أجل الوطن:– شَمْسِي أشرقــي حول هذه الرُّبَـــــــى شمسي أشرقــــــي حول هذه الهضابشمسي أشرقــــي في قلــــوب الشباببك غَنَّى الوجـــــــــــــــــود للغاب ( …)ورددنا أغنية:  

  • يــــــــا موطني نِلْتَ المراد فــــَــــٱسْلَمِ  

 فأنت مِنِّي فِــــــــي الحَشَا وفي الــدَّم (…) وفي القاعــة الكبرى عرضت مسرحيات مقتبسة من روائع المسرح العالمي؛ وأشرطة سينمائية من توقيع مخرجين مرموقين. وشذا فنانون بأغان ملتزمة؛ وغيرهم عزفوا مقطوعات أخاذة. وفي القاعة المجاورة لها تلقيت تدريبا ضمن ورشات تكوينية على تقنيات الكتابة المسرحية أطرها حوري الحسين مرة ومحمد ثيمد مرة أخرى… وفيها أيضا ابتليت بجنون القصيدة…”.

تَحَسررابح وهو يستحضر نتفا من شريط أيام  مضت في هذه الدار العتيدة.

 تذكر  أيضا رفاقه فانقبضت نفسه.  وزادها ألما ضوضاء الآلات الذي ما انفك يَطنُّ في أذنه. أخذ نفسا عميقا من نسيم الفجر فزفر زفرة حارة . أحس برغبة قوية في الأكل قرر على إثرها التوجه عند ” با محمد ” لتناول قعب حساء.

با محمد، أو “مول الحسوة” رجل من عامة الناس. قصير القامة. ذو بشرة سمراء تشي بأنه من جنوب البلاد. قوي البنية. رغم تقدمه في السن ما يزال طلق الوجه.  رشيق الحركات. خفيف الظل. يشتبك مع زبنائه في مُفَاكَهات ومُمَاحَكَات لا تنتهي. يُبَاسِط هذا بصوت جهوري. ويتوعد ذاك بالمغرفة الكبيرة. تبدو عليه مسحة من السذاجة لكنها تخفي شخصا حازما في أمور تجارته إلى حد القسوة التي تبدو منه حيال المشردين والمتسولين الذين يكون الحُوشِي من الألفاظ نصيبهم مع أنه زار الحجاز مرتين معتمرا ثم حاجا.

زبناء با محمد رفاق الليل من الحراس، سائقون، عمال، مياومون… غالبيتهم كِدِّيحُون تَبْدُو من ملامحهم علامات الحاجة ومَيْسَمُ الفاقة.

جلس رابح على كرسي شاغر. تفرس في كل الوجوه الحاضرة. تذكر مقهى “المعلم كرشه”. نفخ بفمه في راحتي يديه طلبا للدفء. رأسه يوشك من الصداع على الانفجار.

قدم له با محمد حساء ساخنا ممزوجا بمقدار ملعقة من زيت الزيتون. تناول حساءه بنهم. فرك عينيه براحتي يديه. تحسس جيوب سرواله وجيوب معطفه الداخلي. كان يبحث عن قرص كافيين. قبالته شاب يقتفي حركات يديه عن كثب. ابتسم في وجه رابح ابتسامة محتال. غَمَزَه. وبحركات مِيمِيَّة طلب  سيجارة. رد رابح  بلباقة ولطف:

 – ” معذرة . لا أدخـــن أصــلا”. 

 تَبَرَّم الشاب ففاضت من عينيه نظرة شزراء. أطرق وهـو يهمس بكلام مبهم.

وضع رابح قــرص كــافيين  في فمه. بلعه دفعة واحدة بغير كثير من الماء. تمطى على كرسيه بتثاقل. وضع قطع نقود فوق الطاولـــة ثم انطلق مسرعا، تحت زخات مطر خفيف، صوب مأواه. قصد غرفته وهو في حالة من الانهاك الشديد. اندس في الفراش. شغل المذياع الصغير فحمل إليه صوت المذيع أخبار الإرهاب؛ والقتل، والحروب، والانفجارات والدمار. تضجر. أطفأ المذياع  طالبا ألطاف السماء.

 كان الصداع قد بدأ يخف رويدا رويدا. وها هو رابح يَسْتحلي دفء السرير. زوى ما بين حاجبيه وهو يحدق في الأَبَاجُورَة المنعكس نورها على رفوف مكتبته المَلأَى بنفائس الكتب: يوليوس قيصر، مسرحية البهلوان، الزنوج، معاناة الفتى فيرتر، الابنة الطبيعية، بــــاندورا، فاوست، في الظلام الحارق… كان بحق قارئا وعاشقا لفن المسرح. فيه أنجز بحثا من مستوى رفيع لنيل إجازته الجامعية فأضحى الآن مضطرا لعشق الليل. مُرْغَماً على الوقوف تسع ساعات متتالية أمام آلة يراقبها لتطعمه وأختيه اليافعتين كسرة خبز حاف عند انتصاف كل شهر.

تثاءب رابح بعمق فَتَمَطَّی وها أحلام اليقظة تتراقص أمام عينيه. كان الكرى يسري خذرا في أوصاله حينما أزت الريح وطَفِقَ المطر يهطل غَزِيرًا من جديد.

Visited 16 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

ناصر السوسي

باحث وشاعر مغربي