عن محمد خير الدين وأحمد بنجلون والكوميسير عرشان
عبد الرحيم التوراني
في يوم قائظ، من أيام نهاية صيف 1993، أخبرت قاسم الحسيني، الأستاذ بكلية الآداب في الرباط، وكان يتعاون معنا في مجلة “ضفاف”، بكوني ذاهب لزيارة صديقي الكاتب محمد خير الدين المريض بالمستشفى. فأبدى الأستاذ قاسم رغبته في مرافقتي. هكذا ركبنا سيارته ال “ميرسيدس”، واتجهنا من شارع ابن سينا إلى مستشفى مولاي عبد الله للأنكولوجيا بشارع علال الفاسي في العاصمة.
صعدنا إلى الطابق الذي تم إرشادنا إليه. لكني لما أطللت على الغرفة المعينة رأيت سريرا فارغا. فكرت أن أعود إلى الطابق الأرضي لأسأل من جديد، حين سمعت صوتا آتيا من حمام الغرفة يناديني باسمي:
– أدخل.. أدخل يا عبد الرحيم.
لقد شاهد انعكاس صورتي في المرآة، حيث كان يقف يفرش أسنانه بدواء خاص، وبيده الأخرى الحامل الحديدي لمصل السيروم. يرتدي “فوقية” فاتحة اللون من دون أكمام.
قدمت له صديقي الأستاذ قاسم الحسيني. جلس هو على سريره القريب من النافذة، وجلسنا نحن على الكرسيين المقابلين.
كانت غرفة صغيرة جدا، أشبه ما تكون بزنزانة.
بعد تبادل التحيات، لم أعرف كيف أفتح حوارا جائزا في مثل هذه الحالة. كانت أصوات الألم والأنين تصل صارخة من الغرف المجاورة. ثم أنقذني L’oiseau bleu “الوازو بلو” (الطائر الأزرق)، اللقب الذي اشتهر به بين الأصدقاء الحميمين، وقد جاء به معه بعد عودته من ستة عشر سنة من منفاه الباريسي.
تحدث محمد خير الدين وسألني هل لديك ورقة وقلما.
أدخلت يدي في جيب سترتي وأخرجت قلما. لم ينتظر خير الدين أن أجد ورقة، رمى صوبي بكرتونة “الكلينيكس”، وطلب مني أن أكتب عليها ما سيمليه علي.
أملى علي عددا من الأرقام، وطلب مني أن أقول له حصيلة جمعها. لم أعد أتذكر الرقم، لكنه كان رقما طويلا من عشرة أعداد.
حينها ردد خير الدين ورائي الرقم مرة ثانية وثالثة. قال لي:
– هذا الرقم هو بالدرهم، ويفيد المبالغ المالية التي صرفتها على شراء سجائر الدخان. وكان يدمن تدخين سجائر “مارلبورو” الأمريكية. كان رقما هائلا، كما ذكرت. ثم أضاف:
– كان من الممكن بهذا المبلغ أن أشتري قصرا، لكني بنيت به قبرا. هذا دون أن أحدثك عن المشروبات الكحولية التي استهلكتها، سواء على حسابي أو في اللقاءات والحفلات
وغيرها.
وأعقبتها لحظة صمت. نصحني بعدها بالإقلاع عن التدخين.
– أوقف التدخين يا طفلي. (!)
ولم أسأله لماذا كان يناديني ب”طفلي”.
لا زلت أحتفظ بصورة هوية له أهداها إلي وكتب على ظهرها بالفرنسية بخط يده:
“إلى طفلي عبد الرحيم التوراني“.
أخبرني عن رفضه إعطاء حوارات لبعض الصحفيين، ممن سارعوا للاتصال به لما علموا بإصابته من الداء الخبيث، قال إنهم يرغبون في الحصول على مادة صحفية حصرية.
– ينتظرون موتي ليضعوا فوقها عنوان: “الحوار الأخير مع محمد خير الدين (!)”.
وسمى لي أحد هؤلاء الصحفيين من صحيفة مغربية فرنكفونية. ثم أردف قائلا:
– أنت.. يمكن لي أن أمنحك حوارا خاصا اعتبارا لصداقتنا الحميمية.
فاجأني خير الدين بعرضه، فأنا جئت لمؤازرته ومواساته والاطمئنان عليه، بصفتي صديقا مقربا، ولم آت لاقتناص مادة صحفية نادرة أو سبق صحفي. بقيت صامتا كأني أتأكد من صحة ما يقول. ثم أخرجت آلة تسجيل صغيرة من نوع “سوني” بكاسيط كبيرة، كانت غالبا في محفظتي. وضغطت على زر التسجيل.
بما أننا كنا في يوم عرف حدثا تاريخيا كبيرا، هو يوم 13 سبتمبر 1993، سألته عن الصراع العربي الإسرائيلي، قائلا:
– صباح هذا اليوم الثالث عشر من سبتمبر بواشنطن تم توقيع اتفاقية أوسلو، المتضمنة لإعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي للفلسطينيين، وتم ذلك برعاية الرئيس الأمريكي بيل كلينتون. والموقعان هما شمعون بيريز وزير خارجية إسرائيل، ومحمود عباس (أبو مازن) أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. فما هو رأيك كمثقف مغربي وتعليقك إزاء هذا الحدث التاريخي الكبير؟
كان جواب محمد خير الدين أنه يؤيد الاتفاق تأييدا كاملا، وأنه مع صلح وسلام دائمين بين الفلسطينيين والعرب مع الدولة العبرية، وأن غير ذلك هو عبث بالتاريخ وبالحاضر والمستقبل. وزاد يتحدث عن الصراع العربي الإسرائيلي.
بدا أنه ملم بالقضية التي يتكلم بصددها، مدرك لتفاصيلها العامة، رغم كونه ظل مبتعدا عن الخوض في الشؤون السياسية بعد عودته إلى المغرب، وظل الآخرون ينظرون إليه كأديب وشاعر بوهيمي يكتب الشعر والرواية ويتسكع بين الحانات، لا صلة له بما يجري حواليه من صراعات سياسية داخلية أو خارجية.
لم يكتمل الحوار بسبب نهاية وقت الزيارة، وكان علينا أن نترك مريضنا يرتاح. ولا زلت أحتفظ بكاسيت التسجيل.
***
بعد هذا اللقاء بأشهر، بحثت عن محمد خير الدين في الرباط، سمعت أنه يقيم بفندق “سفير”، فندق يطل على ضفاف نهر أبي رقراق، كان نازلا بالفندق على حساب وزارة الشؤون الثقافية، لما كان على رأسها صديقه الفيلسوف محمد علال السي ناصر، لكنه اختفى فجأة من “سفير”.
ثم جاء من يخبرني أن محمد خير الدين يسكن بفندق “باليما” المواجه لمبنى البرلمان، لكنه لا يستقبل أحدأ. تكاد إقامته تكون سرية. مع ذلك توجهت في ساعة مبكرة ذات صباح إلى “باليما”، كنت أسكن بالعاصمة.
سألت في الإرشادات عن محمد خير الدين، فتلقيت جوابا قاطعا بالنفي أن يكون هناك أحد من نزلاء الفندق يحمل هذا الاسم.
ولأني كنت متأكدا من نزول خير الدين بالفندق، فقد طلبت من مسؤول الفندق بلطف بالغ، أن يتصل بالهاتف بخير الدين ويبلغه أن واحدا اسمه عبد الرحيم التوراني يسأل عنه. وإذا رفض مقابلتي فإني متفهم وسأغادر فورا من غير كلام.
اتجهت إلى صالون الفندق لأنتظر، وقبل أن أجلس تمت المناداة علي، أن أصعد إلى الطابق الخامس، غرفة رقم: 52.
***
وجدت باب الغرفة مواربا، طرقته برفق ودخلت. كان صديقي محمد خير الدين واقفا وسط غرفة غارقة في الفوضى. غرفة تضم سريرين. رحب بي وسألني عن أحوالي وعن والدتي المريضة. سالته بدوري عن أحواله وعمن يتواصل معه، وذكرت له اسم صديقنا الكوميدي أحمد السنوسي، فطلب مني أن لا أذكر هذا الاسم مرة ثانية أمامه. كما سألته عن صديقنا المشترك الصحفي محمد بنيحيى، لكنه غير الكلام. مد لي سيجارة من نوع “جيتان” من دون فلتر، ولأني كنت لا أدخن في الصباح فقد اعتذرت منه. أشعل سيجارته وفتح باب ثلاجة متوسطة وأخرج منها زجاجة بيرة من نوع “هينيكن”. وعرض علي أخرى. فاعتذرت أيضا.
لكني لم أتمالك نفسي وسألته مستغربا:
– ألم يقل لك طبيبك شيئا عن التدخين والشرب؟
هنا ثارت ثائرة محمد خير الدين. ركل بقوة ركاما من نسخ أعداد جريدة “لوموند”، كانت فوق الأرض مع نسخ من مجلات فرنسية، وشتم الطبيب. قائلا:
– ماذا يعرف الطبيب.. يلعن دين أمه؟
ثم أخرج من الثلاجة بيرة “هينيكن” مثلجة وقدمها إلي وهو يصيح بالفرنسية في وجهي بعنف:
– الآن ستشرب.. هذا أمر.
وطبعا امتثلت لأمره كجندي يتلقى أمر قائده العسكري. هو الذي كان يحب الجنرالات والقادة العسكريين.
أعطاني عنوانا لسيدة ألمانية أسست دار نشر صغيرة في برلين، أرادتها أن تكون دار نشر مختصة في نقل الأدب المغاربي إلى اللغة الألمانية، وطلب مني أن أرسل إليها صورة له طلبتها منه الناشرة الجديدة، لأنه لا يسمح أن تلتقط له صورة بوجهه المنتفخ، بسبب الورم السرطاني الذي كان يعاني منه في الفك الأيسر. ثم أطلعني على كتاب بالفرنسية صدر ضمن منشورات “الرابطة” التي أسسها عبد المالك كمو وكان يشرف عليها موليم العروسي. كان الكتاب مثل كتالوغ من تلك التي توزع في معارض الرسم والتشكيل، وكان يحمل توقيع محمد خير الدين، يتحدث عن تجربة رسام اسمه لحبيب لمسفر، من موظفي مصرف “وفا بنك“.
وأنا أتصفح الكتاب – الكتالوغ، سألني خير الدين:
– هل معك فلوس؟
وفتح ظرفا صغيرا عليه لوغو “بنك الوفا”، به أوراق مالية، ومن دون أن يعد أمسك بمجموعة من الأوراق من فئة المائة درهم، وأعطاها لي. قائلا:
– ضع هذه الأوراق في جيبك واشتر ما تريد، لا تنس أن تشرب منها نخب صداقتنا في مقهى “لابريس” بالمعاريف.
لما حسبتها كانت ألف وثمانية مائة درهم.
***
عند حوالي الثانية عشرة ونصف ارتدى “الوازو” معطفا شتويا أسود اللون، ورفع ياقته ليغطي بها وجهه المتورم، ثم نزلنا إلى المطعم القريب “لاماما”، الذي كانت مقهى “الدولشي فيتا” جزءا منه، قبل أن تقفل لفائدة توسيع المطعم. هي نفس المقهى التي كنت ألتقي فيها بعبد السلام حجي وعبد الله الستوكي وإدريس الخوري والرسام محمد بناني.
ذات يوم كنت مع الراحل أحمد بنجلون ب”الدولشي فيتا” نشرب القهوة، فإذا بأحمد بنجلون يشخص نظراته الحادة صوب زبون دخل ووقف بالكونطوار، لما انتبه الزبون إلى نظرات أحمد بنجلون انسحب بسرعة تاركا قهوته من دون أن يشربها.
كنت أحضر مشهدا دراماتيكا استثنائيا، مشهد تغلبت فيه الضحية على جلادها. كان الزبون هو الكوميسير محمود عرشان، الذي كان يعذب أحمد بنجلون في الاعتقال.
***
جلسنا بمائدة قصية، كنا أول الواصلين لتناول وجبة الغذاء. طلب محمد خير الدين لحما نيئا، وقبله طبق حلزون، إن فكه يؤلمه و أسنانه لا تساعده على المضغ. شربنا نبيذا أحمر، كنا ندردش حول أمور مختلفة، وجاءت لحظة أصبح معها خير الدين عاجزا عن إخراج الكلمات من بين شفتيه، صار صوته باحا. عندها قام محمد خير الدين وودعني بالإشارة عائدا إلى غرفته بفندق “باليما” القريب. وبقيت أنا لوحدي.
لم اكن أدري أنه اللقاء الأخير والوداع الأخير. إلى أن حضرت مراسيم جنازته المتواضعة وتشييعه والصلاة عليه في مسجد ومقبرة الشهداء بالعاصمة.
<
p style=”text-align: justify;”>كان الحضور قليلا، لكنه تميز بحضور شخصيات رسمية وازنة، تقدمها السيد أندري أزولاي مستشار الملك الحسن الثاني. وكان طبيب محمد خير الدين الدكتور نور الدين الكداري حاضرا، الدكتور الكداري كان أيضا هو طبيب الفنان العربي باطما المصاب بالداء اللعين. في نهاية مراسيم الدفن تحدث باطما مع الدكتور الكداري، ولما كنا راجعين، أحمد السنوسي وأنا في سيارة العربي باطما رونو 19 الخضراء، حدثنا نجم ناس الغيوان عما قاله له طبيبه، قال له لما سأله عن موعد لمتابعة الفحوصات، ألا يجيء حتى يتصل به، وهو ما فسره العربي باطما بكونه جوابا مؤدبا بأن لا طائل من العلاج. وطيلة المسافة الفاصلة ما بين الرباط والدار البيضاء على الطريق السيار كان باطما لا يتكلم كثيرا، رغم محاولات السنوسي إضفاء طابع من المرح على عادته.