أوراق من دفتر منسي: المربد.. عرس القصيدة العربية في بغداد

أوراق من دفتر منسي: المربد.. عرس القصيدة العربية في بغداد

عبد العلي جدوبي

وأنا أنفض الغبار عن (دفتر منسي) بمكتبتي المتواضعة، بدأت أصفح بعض الصفحات، محاولا الإحاطة بمحتواها، حيث قادتني بعضها إلى محطات في مساري المهني، دفعتني بحماسة الى إعادة بعض فصولها القريبة الى المذكرات، أو إلى ما يشبه ذلك، استنادا إلى المصدر: (الدفتر المنسي)..

***

  نزار قباني قال لي : 

– ما قيمتي إن أصبحت شاهد زور على القبح والقمع والارهاب؟. 

–  نقلت الشعر من المحرمات الى القداسة.. 

في العاصمة العراقية بغداد، حضرت فعاليات  الدورة التاسعة لمهرجان (المربد) الشعري (نوفمبر 1988)، وكانت مناسبة للعديد من الشعراء العرب والأدباء والإعلاميين، والمثقفين لإزالة الفواصل والمسافات بينهم في ذلك العرس الابداعي المتميز . الذي استفاقت فيه شهرزاد لتعيد حكايات الماضي التليد، والعراق بغموضه وجماله فاق حدود الوصف..

في اليوم الأول من المهرجان الذي حضره الرئيس العراقي صدام حسين وأعضاء من حزب البعث، صدح صوت الشاعر الكبير نزار قباني بقصيدة التي تحمل عنوان: (مربد 88) 

  • طرد المربد هذا العام

 ثلاثة أرباع الشعراء

ألقى القبض على من يشتغلون

 ببيع اللحم الفاسد في السوق السوداء

أحرف كل تمارين الانشاء

ألغى كل البوتيكات، وألغى استعراض الازياء

قتل الأعشى .. والنساء

ألغى البيع.. ألغى الرهن

والغى استأجار الكلمات.

 مع نزار قباني كان لي معه لقاء صحفيا نشر بجريدة “رسالة الأمة” (تاسع دسمبر 1988). 

قال لي في مستهل حديثه جوابا على سؤالي  المتعلق بقصيدته (مربد 88) والتي اعتبرت “كبيان شعري” وكأن القصيدة تحمل موقفا تحريضيا لقتل الرتابة في الشعر العربي المعاصر ؟!

أجاب : أؤكد أنه ابتداءا من (المربد) التاسع يجب ان تكون هناك حركة انقلاب شعرية .. أما أن نوالي قراء أشعارنا كما يوالي المشايخ القراءة في الفواتير على القبور ، فهذا أمر مرفوض.. انا قاس جدا على الشعر العادي ، وارفض أن يتحول الشعر الى قطعة من اللحم في الثلاجة !! لان وظيفة الشعر هي الاصطدام بالعالم من اجل التغيير ..  ماقيمتي إن أصبحت شاهد زور على القبح والبشاعة والقمع والارهاب ؟؟ وانا ضد كل الدكاكين الشعرية ..

 هذا وكانت لي عدة لقاءات مع أدباء وشعراء ومفكرين عرب وأجانب..خلال هذه الدورة من المهرجان..

في بهو فندق الرشيد، التقيت بالأديب المصري الكبير يوسف ادريس، وأذكر أن الحديث الذي دار بيني وبينه كان حول جائزة نوبل ونجيب محفوظ، والضجة التي أثارها بعض الأدباء المصريين بشأن “أحقية الجائزة “، حيث كانت الصحافة المصرية آنذاك تقول إن يوسف إدريس يرى أنه الأحق لنيل الجائزة !!

ولما طرحت عليه سؤالا في الموضوع نفى ذلك بقوله: ” أنا لست ضد نجيب محفوظ”.

 كانت الوفود المشاركة في المهرجان تنتقل بين فنادق: الرشيد؛ منصور ميليا؛ وميرديان فلسطين..

بفندق منصور ميليا التقيت بالكاتب والسيناريست المصري صالح مرسي مؤلف المسلسل التلفزيوني الشهير (رافت الهجان)، وكان حينها كتب الجزء الأول من ذلك المسلسل، وهو رابع أعماله في الدراما التلفزيونية، بعد مسلسل (دموع في عيون وقحة) و (الحفار)، و(سامية فهمي).

 قال لي صالح مرسي أن التلفزيون حقق له شهرة على أوسع نطاق، واعتبر أن ما يكتبه البعض في القصة والروايات، أعمالا معادة تدور في دائرة ضيقة لا تحقق أي شيء، ولهذا التجأ إلى كتابة السيناريو، في تجربة اعتبرها ناجحة بكل المقاييس.. 

في  فندق الرشيد التقيت بالبروفسور الياباني الكبير (أكيدا أسامة)، واحد من المفكرين السياسيين اليابانيين الذين اهتموا بدراسة الحضارة العربية وآدابها وعلومها الإسلامية، وكرس حياته، كما ذكر لي، في قيامه بالعديد من الترجمات من اللغة العربية إلى اليابانية، منها ترجمته لرواية طه حسين (شجرة البؤس) ورواية (الكرنك) لنجيب محفوظ، فضلا عن تأليفه لبعض الكتب: (المدخل الى اللغة العربية)، والقاموس العربي الياباني، وبحوث علمية عديدة في مقدمتها كتاب (العين) الفراهيدي، وآخر عن المدرسة النحوية عند العرب .

عرّفني زميل عراقي من جريدة “الجمهورية”، وهو محمود ابراهيم القريني،  بالشاعر والكتاب الكندي (هنري باسيل) الباحث المتخصص في آداب القرون الوسطى، ترجمت أعماله لعدة لغات عن الفرنسية والإسلامية والالمانية والنرويجية .. 

وأيضا كانت لقاءات صحفية عديدة خلال دورة المهرجان .. التقيت بالأديبة المستشرقة البلغارية (غونكا بتكوفا)، التي درست اللغة العربية بجامعة بغداد قبل ربع قرن من تلك السنة، وتشتغل في بلادها بالترجمة، حيث ترجمت أعمالا لعدد من الكتاب والأدباء العرب كإميل حبيبي وزكريا تامر الطيب صالح وميخاييل نعيمة وطه حسين وجبران خليل جبران، ومجاميع قصصية فلسطينية..

وعلى هامش المهرجان، نظمت جولات استطلاعية إلى بعض الاماكن السياحية بالعراق والمآثر التاريخية والى مدن ذات إشعاع حضاري كبابل والعتبات وأشور ونينوى.. 

التهافت على الإصدارات الجديدة

 الزائر لبغداد لابد له أن يقوم بإطلالة على شارع المتنبي ليتعرف على الاصدارات الجديدة للكتب، حيث تتمركز بهذا الشارع العديد من المكتبات التي يتواجد عليها كل يوم كل شرائح المجتمع العراقي لاقتناء الكتب قبل نفادها، كما يحدث كل يوم.. وفي شارع الرشيد هناك مجمع من المساجد التراثية التي يعود بناؤها لحقب زمنية سحيقة مثل مسجد الخلفاء ومسجد الامام الاعظم، ومسجد الحيدرخانة، وضريح الحضرة الكاظمية ..

أما حكايات شهرزاد فتبدأ على طول شارع أبونواس، حيث تتمركز العديد من المقاهي بمحاداة نهر دجلة، تقدم الوجبات التقليدية من سمك المزكوف والتكة والكباب، وتتواجد بالمكان نفسه مسارح، ومحلات الترفيه والسهر تقدم وصلات غنائية يحييها بعض المغنيين..

في بغداد كانت تتواجد العيد من الأندية الاجتماعية المخصصة العائلات تابعة القطاعات مختلفة .. 

أين نحن اليوم من عراق السنوات الماضية ؟ حين كانت القصيدة العربية تنطلق من بغداد إلى جميع أرجاء العالم ؟

لقد استبدلت القصيدة اليوم بالرشاش وبالعبوات الناسفة المتفجرة في بغداد وفي عدد من المدن العراقية، لم تسلم منها حتى الأماكن المقدسة..

ذلك زمن مضى .

 

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

عبد العلي جدوبي

صحفي مغربي