18 سنة على رحيل المناضلة “الأم فامة”…
عبد الرحيم التوراني
حلت اليوم 19 مارس 2022، ذكرى مرور 18 سنة على وفاة مناضلة يسارية طغى لقبها على اسمها المدون في سجلات الحالة المدنية، الجميع كان يعرف “الأم فامة”، بينما يجهلون اسمها الحقيقي، وهو “فاطمة اعزاير”، وقد أطلق اسمها الحركي بعد رحيلها على الثانوية الإعدادية “النجد” المحاذية لسوق جوطية درب غلف بالدار البيضاء. وقبل ذلك سميت به منظمة تعمل في مجال مواجهة العنف ضد النساء.
مثل العديد من الشخصيات الوطنية في المغرب، التي قوبلت بالجحود والنسيان، عبر التعتيم على أسمائها وذكراها بهدف محوها من الذاكرة الشعبية، حصل الأمر مع “الأم فامة”، إذ باستثناء شريط وثائقي واحد، (جرى إعداده في آخر حياتها، لحسن الحظ، وبثته القناة الثانية “دوزيم”)، لم تنجز أعمال أخرى بغاية توثيق كفاح هذه السيدة، التي قاومت المستعمر، وكانت تنقل السلاح وتهربه إلى المقاومين، وواجهت بعد الاستقلال قوى الطغيان والاستبداد. وفم تبادر أي جهة بإصدار كتاب تكريمي مكرس لسيرتها وذكراها.
لكن اسم “الأم فامة” لا يزال يذكر ويتردد حتى اليوم على ألسنة من عاشوا معها وعرفوها، خصوصا في الأوساط اليسارية والحركة النسائية.
يتحدث عنها المناضل اليساري محمد بولعيش، ويقول إنها “امرأة لا ككل النساء، امرأة عَلَم رمز لا يشق لها غبار، قاومت الاستعمار بشجاعة نادرة، واختارت بعد الاستقلال السياسي أن تكون اتحادية حتى النخاع دون عصبية ولا شوفينية، حددت موقعها داخل الحزب يسارا، متضامنة مع رفاقها في “الاختيار الثوري”، ثم “رفاق الشهداء” و”الطليعة” لاحقا، الأمر الذي تسبب لها في أن تصبح “الأرض واسعة” أمامها، فطردت من حزب الشهيدين المهدي بنبركة وعمر بنجلون، بعد أن ضاق “صدر القيادة” بها”.
وعن نضالها الاجتماعي يضيف بولعيش:
“ظلت “فامة” طوال حياتها مناصرة للمظلومين، مدافعة عن المعتقلين السياسيين من كل الأطياف اليسارية والديمقراطية، ورأت في الشباب المناضل أبناء لها ورأوا فيها أما لم يخرجوا من رحمها. بقي ذاك ديدنها إلى آخر قطرة دم تجري في عروقها، إلى أن لفظت أنفاسها الأخيرة.عظيمة عاشت، عظيمة ظلت حتى بعد رحيلها“.
– كيف تجمعون معنا الأولاد الصغار (البراهش)؟
هنا التفت إليها رجل البوليس وسألها:
– أليس معكم هذا الشخص؟
فردت بالنفي. عندها أطلقوا سراحه، بينما ساقوا الجميع إلى الكوميسارية. وبعد محاكمة مراكش (1971)، التي توبع فيها المئات من المناضلين الاتحاديين، كان بينهم أحمد أوباري المتابع مع آخرين غيابيا، توطدت العلاقة أكثر بين عائلة أوباري والمناضلة “فامة”.
تضيف أمينة أوباري عن الزيارات المنتظمة التي كانت تقوم بها “فامة” لبيوت المعتقلين السياسيين، للسؤال عن أحوال أسرهم وأبنائهم الصغار، رغم أنها كانت تحت المراقبة الشديدة، إلا أنها كانت تعرف كيف تضلل البوليس بووضع اللثام على وجهها، بحيث كانت لا تدخل بيتا حتى تتأكد من أنها تخلصت من “الأعين” وأنها غير ملاحقة.
تؤكد أوباري “أن كثيرين باتوا يزعمون اليوم أنهم كانوا يراعون أحوال عائلات المعتقلين السياسيين، وجلهم لا يقول الصواب، حيث كان الخوف من القمع مهيمنا، وكانت “فامة” وحدها هي الاستثناء، كانت مناضلة تتحدى ولا يعرف الخوف إليها سبيلا…“.
كانت “فامة”، تحب مساعدة الآخرين، تقول أمينة، “تأخذ من أؤلئك لتعطي لهؤلاء المحتاجين، وتحرص على شراء اللوازم المدرسية للتلاميذ منهم، وحنانها تجاههم لا يوصف، إلا أنها كانت لا تخفي غضبها لما تجد أن ابن أحد المناضلين المعتقلين لا يواظب على دراسته ويهملها، هنا كانت “فامة” تثور في وجهه بشدة، وتقول له: “أبناء المناضلين ليسوا أبدا من صفوف الكسالى”.
لم تنس أمينة أوباري طرد “الأم فاما” من الحزب (الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية). وتقول: “لكني لن أنسى أكثر هو حزن “الأم فامة” وألمها لما حدث الانشقاق في الثمانينيات. لقد حزنت المرحومة وتأثرت كثيرا، وبشكل كبير. لقد بقيت تعاني من جراح عميقة بدواخلها. إن حدث الانشقاق كان قاسيا بالنسبة لها. وكما يقال بالدارجة “خْدمْها بزأأاف”.
تتذكر أوباري آخر زيارة “للأم فاما” لبيتهم، وكانت قبل مرضها، “وصلت إلى بيتنا بالعكاز، وجلست معنا. وبعد أن ارتاحت تكلمت كأنها تحدث نفسها: “ياااه.. لا أعرف هل سيتكرر مثل هذا النهار، وهل ستتكرر مثل هذه الزيارة لكم..!”. كأنها كانت تحس بدنو أجلها. وفعلا لم تمض فترة حتى وصل نعي “الأم فامة”.
المناضل اليساري محمد فكري وصفها بـأنها كانت “نموذجا لنوع آخر من النساء اللواتي وهبن حياتهن للنضال”. واضاف أنها “نسيت حياتها الخاصة واحترفت النضال والمقاومة، وانحازت للحركة التقدمية التي كانت ممثلة آنذاك في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وشاركت في كل المعارك التي خاضتها الحركة التقدمية ضد الاستبداد والحكم الفردي، مقاطعة الاستفتاء على الدستور الممنوح سنة ،1962 ومعركة انتخابات 1963. وبعد اعتقالات 16 يوليوز 1963 التي كان الغرض منها إطفاء شعلة المقاومة ضد الاستبداد والحكم الفردي والانفراد بالسلطة بشكل مطلق دون حسيب أو رقيب. كانت “آمي فاما” تنتقل بين السجن وبيوت عائلات المعتقلين للاطمئنان عليهم ومواساتهم. وأثناء انتفاضة 23 مارس 1965، كانت “أمي فاما” تنتقل في سيارة مع أحد المناضلين، تتحايل على الشرطة وقوات القمع وتقوم بنقل الجرحى من شوارع الدار البيضاء وتعالجهم. في كل مؤتمرات الاتحاد الوطني لطلبة المغرب التي حضرتها، كنت أرى “أمي فاما”، التي كانت تستدعى لكل مؤتمرات الطلبة، وكنت أتساءل من هي هذه المرأة التي يتحلق حولها الطالبات والطلبة وينصتون لكلامها وحكاياتها، ولم أكن آنذاك أعرف من هي تلك المرأة التي تتواجد في كل مؤتمرات الاتحاد الوطني لطلبة المغرب والكل يقدرها ويحترمها. سلاما وتحية وسكينة لروح هذه المرأه التي كانت تعتبر نفسها أما لكل المناضلين والمناضلات من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، بمختلف توجهاتهم وتياراتهم.