جواد مديدش من الغرفة السوداء إلى قصبة ويـركان
المصطفى اجماهري
أعترف أنه ليس من السهل علي أن أتحدث عن الكاتب والصحفي جواد مديدش، وذلك بسبب الثقل العاطفي الذي أشعر به تجاهه. فهو يذكرني بمرحلة ولت منذ ما ينيف عن نصف قرن، عشت جزءا منها بجواره. لم تكن بيننا وقتها علاقة صداقة مباشرة، بل جمعنا فقط انتماء طلابي لملحقة كلية الحقوق بالدار البيضاء بساحة ميرابو القريبة من مقر الاتحاد المغربي للشغل. في أواخر سنة 1972، لم تكن قد أنشئت بعد كلية مستقلة ولا جامعة بالدار البيضاء. كنت قادما وقتها من القسم الداخلي لثانوية الإمام مالك بحي بلفدير، بينما جاء جواد من ثانوية مولاي عبد الله، وعلى غير اتفاق تسجلنا معا في القسم الفرنسي لشعبة العلوم السياسية. ورغم تجاورنا في نفس المدرج الوحيد للملحقة فإن الظروف الخاصة التي ميزت تلك المرحلة لن تساعد أبدا على خلق تعارف بيننا، والذي سوف لن يحصل إلا سنين طويلة بعد خروج جواد من الأسر. كان معنا، تلك السنة، الكاتب الطاهر محفوظي، وعبد العزيز غويبي كبير المراسلين السابق بأسبوعية “ليكونوميست”، وقاسم كنوني رئيس التحرير السابق ليومية “الصحراء المغربية”، والعامل السابق عبد العزيز لعفورة، والسفير السابق عبد الوهاب المعلمي.
كانت فترة السبعينيات من القرن الماضي مرحلة حساسة ومتوترة في تاريخ المغرب المعاصر، وبقدر ما كان الاختناق السياسي كبيرا كان الحماس الشبابي، في مقابلها، منقطع النظير. فهي الفترة التي سماها المفكر كمال عبد اللطيف بـ “الزمن الجميل”. زمن شهد هيمنة الفكر اليساري على الشباب المديني، كما شهد بداية الانخراط في الحداثة، قبلما تتم محاصرتها من كل الجوانب. والحق يقال فقد كان لرجال التعليم، مغاربة وأجانب، في ثانويات المدن الكبرى، دورا كبيرا في استنبات أولى بذور هذه الحداثة. كانت المؤسسات التعليمية والجامعية ودور الشباب والمكتبات العمومية والجمعيات الثقافية والقاعات السينمائية والمسارح والمعارض والمجلات الدورية مشاتل لهذه الثقافة الجديدة. وكان هنالك إيمان قوي بجدوى المعرفة وبدورها الحاسم في إحداث التغيير الاجتماعي المأمول.
جواد مديدش نموذج من هذا الجيل السبعيني الذي برزت فيه أسماء أخرى مثل الراحل مصطفى المسناوي، والراحل إلياس إدريس، والشاعر صلاح الوديع، والمخرج المسرحي إبراهيم وردة، وآخرين. كان جواد شابا ديناميا بفرع كلية الحقوق بالدار البيضاء حين سيطر الماركسيون على المنظمة الطلابية في مؤتمرها الخامس عشر. ما زالت تحضرني إلى الآن الأجواء المشحونة للسنة الجامعية 1972-73، بإضراباتها وسجالاتها الطويلة، حتى أن الدراسة غدت، في نهاية المطاف، عملية مستحيلة. بل إن السفير عبد الوهاب المعلمي، القادم من فاس، والذي كان معنا بنفس الملحقة، كثيرا ما كان يدخل مع بعض الطلبة المتحمسين لتلك الإضرابات المتواصلة في نقاشات حادة حول غاياتها وجدواها. وقد خصصت فصلا كاملا لهذه الأجواء المتوترة في سيرتي الذاتية الصادرة عن دار “لارمتان” في باريس سنة 2012. دفع هذا الوضع المحتقن عددا من الطلبة إلى مغادرة الجامعة بحثا عن شغل وطمعا في بعض الهدوء.
هكذا التحق كثير من هؤلاء الطلبة بأول مركزين تربويين بالرباط والبيضاء فتحتهما الدولة بغاية مغربة أطر التعليم. اشتغل جواد بشركة الخطوط الملكية المغربية بمطار الدار البيضاء، بينما التحقت، من جهتي، بالإذاعة والتلفزة المغربية على إثر مباراة عمومية أجريتها إلى جانب المرحوم أحمد الزايدي، والمخرج السينمائي محمد إسماعيل. هكذا ستسمح لي ظروف العمل كلما انتقلت مع الفريق الإذاعي إلى مطار الدار البيضاء بأن ألمح جواد مديدش مرتديا زي شركة الطيران، متفرغا لمهمته المتمثلة في اصطحاب المسافرين من قاعة الإركاب إلى الطائرة.
إلا أنه ذات يوم من شهر يناير سنة 1975 سيغيب جواد عن ناظري، وعمره بالكاد 23 سنة. ستطول غيبته دون أن يعرف أحد سبب ذلك التواري المفاجئ. فقد تم اعتقاله مباشرة من المطار وإيداعه في معتقل درب مولاي الشريف ثم في السجن. سأعلم لاحقا أن جواد بدأ عنصرا فاعلا في النقابة الوطنية للتلاميذ، ثم عضوا بالمنظمة السرية الماركسية “إلى الأمام” التي رافقها في رحلة صيفية تآطيرية إلى شاطئ سيدي بوزيد، القريب من الجديدة، في غشت 1972. وقد تحدث جواد بتفصيل عن هذه التجربة المؤلمة في كتابه “الغرفة السوداء”، الذي تحول إلى شريط سينمائي على يد المخرج حسن بنجلون وعرض في القناة الثانية. ويعتبر كتاب “الغرفة السوداء” معلمة في أدب السجون بالمغرب، لأن المؤلف وصف فيه تجربة السجن كما عاشها ثم استعادها رغبة منه في فهمها وإفهامها للناس. بل إنه طرح فيها من التساؤلات الواخزة الشيء الكثير. أفليس من العبث أن يعتقل جواد بوشاية من أحد أقرب رفاقه في التنظيم؟ ثم أليس من العبث أن يحصل هذا الاعتقال في وقت لم يعد فيه عضوا بالمنظمة السرية التي غادرها في أبريل 1974 وأصبح موظفا بشركة الطيران؟ وهو يقول في الصفحة 59 من الكتاب:
“فأن أكون كبش المحرقة، وأتعرض للتعذيب بجريرة نشاط سياسي لم أعد مقتنعا به، كان لي مصدر تعذيب”.
رغم مشروعية هذا المبرر فلم يشفع له أمام المحققين الذين اعتبروا حجته محض مغالطة غايتها دفع المسؤولية عنه. وأمام تصلب هؤلاء قرر مديدش الهروب إلى الأمام معلنا تشبثه بقناعاته السابقة. ولربما كان لسان حاله يقول مع أبي الطيب المتنبي :
“وإذا لم يكن من الموت بد ** فمن العجز أن تموت جبانا”.
وكانت حصيلة ذلك ثقيلة، حيث أصدرت في حقه محكمة الدار البيضاء سنة 1977حكما نافذا بالسجن 22 عاما، سلخ منها 14 سنة ليطلق سراحه عام 1989.
كانت القراءة، وهي من المكتسبات الجوهرية لفترة السبعينيات، ملاذه الجميل داخل المعتقل. فتحت له القراءة نافذة على خارج السجن. وبهذا الصدد يقول جواد:
“فيا لعالم القراءة من عالم ساحر، شاسع، مصطخب، نابض بالحياة. أنستني القراءة ضيق زنزانتنا، وسلوت بها عن رتابتها المضجرة”.
وحالما خرج جواد من السجن انكب توا على كتابة تجربته المرة، وهي بعد طرية، فكان كتابه – السيرة “الغرفة السوداء”، باللغة الفرنسية مع ترجمته العربية، ثم روايته “نحو الأفق”، مرورا بإشرافه على القسم الثقافي بأسبوعية “لافي إيكونوميك”، وأخيرا كتابه “وجوه ومناظر من قلب المغرب”، فضلا عن مساهماته في اللقاءات والندوات.
بعد أكثر من أربعين سنة التقيت الأخ جواد مديدش بشكل مباشر في الدار البيضاء في نونبر 2013. كان الشباب قد ولى عن كلينا، ولكن جذوته ظلت متوقدة في الفكر والوجدان. كان معنا الباحث أحمد لعيوني، مؤرخ منطقة امزاب، الذي عاش نفس الحقبة بما لها وما عليها. استعدنا تلك الأيام الحبلى بالتضحيات والمفعمة بالخوف والانتظارات. واستعرضنا أسماء أساتذة مرموقين تتلمذنا على يدهم بملحقة ميرابو، مثل محمد الحبابي القيادي السابق بالاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وعبد الرحمان أملو وزير العدل السابق، وعزيز بلال الشخصية البارزة في الحزب الشيوعي المغربي، وجلال السعيد الرئيس الأسبق للبرلمان، فضلا عن رجالات قانون فرنسيين مثل إيف كودمي وجان فليب كولسون.
وبما أن جواد مديدش يحمل أفكارا لا تنضب، فقد اختار العيش في السنوات الأخيرة، بعيدا عن الدار البيضاء وأتعابها، رغبة منه أن ينصهر في الطبيعة، كما يقول في حوار مع “ماروك هبدو” يوم 12 نونبر 2020. أصبح مشرفا لمنتجع طبيعي تحت اسم “قصبة ويركان” يوجد على بعد 60 كلم جنوب مراكش، على طريق تارودانت. هكذا يساهم المعتقل السياسي السابق عمليا، مع باقي سكان الجماعة، في تحقيق التنمية المحلية المنشودة.
لقد كان جواد مديدش، مثل غالبية أبناء جيل السبعينيات، يحمل قناعة راسخة بأهمية الفعل الثقافي في إحداث التغيير ومواجهة التخلف الفكري والسياسي. وهي قناعة ما زالت راسخة لدى جيل بكامله إلى حد الآن.