على هامش فاتح ماي: حسن بزوي .. النقابي الذي لم يخلف الزعيم بن الصديق

على هامش فاتح ماي: حسن بزوي .. النقابي الذي لم يخلف الزعيم بن الصديق

المصطفى اجماهري* 

قبيل وفاته بأيام قليلة، كنت على علم بسفره إلى إيطاليا، في شهر يونيو 2016، لزيارة أبنائه. وقد حاولت وقتها الاتصال بهاتف بيته لكن لم يكن يرد. وسوف لن يرد على نداءاتي أبدا، فقد توفي سي حسن بزوي، القيادي السابق في الاتحاد المغربي للشغل، في طريق عودته إلى المغرب بعدما فاجأته أزمة قلبية وهو بأحد الفنادق جنوب إسبانيا. بلغني الخبر المفجع بواسطة صديقنا المشترك محمد التسولي النقابي السابق بنفس المركزية.

 كان الراحل منذ تقاعده وعودته للعيش بالجديدة، مسقط رأسه (ازداد سنة 1936)، مواظبا على حضور الأنشطة الثقافية المختلفة ومشاركا فيها مشاركة فعالة، كما ساهم بالنقاش وإلقاء العروض في عدد من ندوات فرع اتحاد كتاب المغرب، ومكتبة مؤسسة عبد الواحد القادري، والمكتبة الوسائطية إدريس التاشفيني.   وقد طلبت منه شهادة عن تجربته بمدينة الجديدة إبان الحماية الفرنسية، ضمنتها في كتاب ضم ثلاثين شهادة في نفس المحور. وهو المؤلف الذي صدر سنة 2009 في سلسلة “دفاتر الجديدة”. 

 كان الفقيد من القياديين المرموقين بالاتحاد المغربي للشغل، التحق به سنة 1962، بعدما كان حديث العهد بالتوظيف بأحد المصالح التابعة لوزارة الأشغال العمومية. وقد ارتقى سلم المسؤوليات النقابية إلى أن انتخب في الكتابة الوطنية ذات مؤتمر عام. ومن هذا الموقع شارك في صنع القرارات المصيرية للاتحاد إلى جانب الأمين العام المحجوب بن الصديق وقياديين آخرين، مثل محمد عبد الرزاق ومحمد التباري وعبد القادر أواب.

 وبفضل تعلقه بالثقافة منذ صغره وشغفه بالمسرح والسينما فقد كان شخصية متفتحة، بشوشة وتلقائية. وقد استفاد في توسيع مداركه من خلال تجربته الميدانية، ومن احتكاكه بالعمل الصحفي في الاتحاد المغربي للشغل، من خلال جريدتي “مغرب إنفورماسيون” و”الطليعة”. وكثيرا ما حدثني عن تلك الفترة السحرية من حياته، حينما عمل جنبا إلى جنب مع مثقفين بارزين، من أمثال حسن بنعدي وأندريه أزولاي وأبو بكر مونقاشي. وكان من كبار المعجبين بالممثل المغربي محمد الحبشي، وخاصة في دوره في الفيلم السينمائي الشهير “حلاق درب الفقراء”.

 وقد لاحظ الراحل، كما جاء في كتابه- الشهادة، الصادر بالفرنسية سنة 1993، تحت عنوان “الاتحاد المغربي للشغل، الحلم والواقع”، أن المحجوب بن الصديق لم يكن يرتاح للمحيطين القريبين منه في الكتابة الوطنية، فكان يمارس تجاههم سياسة الإبعاد على شكل تكليف بمهمة محلية أو جهوية، أو بتعطيل الاجتماعات، أو بعدم تحديد اختصاصات كل من الكتاب الوطنيين. 

وهذا بالفعل ما حصل مثلا مع المؤسس محمد التباري والمؤسس بنسماعيل صدقي.

مصطفى اجماهري رفقة حسن بزوي في مدينة الجديدة

 وكانت سنة 1985 هي بداية تصدع علاقة الراحل حسن بزوي مع المحجوب بن الصديق. واستمرت الأمور تسوء تدريجيا بينهما إلى أن حصلت القطيعة النهائية في أبريل 1990، حين صدر قرار بطرد الراحل من صفوف النقابة.

 لم يستسغ حسن بزوي قرار طرده، على اعتبار أنه انتخب للكتابة الوطنية من طرف المؤتمر العام وليس بواسطة التعيين. ومن هنا سيدخل الراحل تجربة الكتابة كرد للاعتبار. وقد توخى من الكتابة ليس فقط فضح الاختلالات التي عاشها في المركزية النقابية، بل ترك شهادة للأجيال، سرد فيها مسار حياته، بدءا من طفولته بمدينة الجديدة وتعلقه بالأدب والثقافة ووعيه المبكر بفكرة النضال السياسي. 

 ويجب التذكير، في هذا السياق، بأن الراحل ظل وفيا لفكر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، معتبرا إياه الحزب الحقيقي في المغرب. فحين سأل أحد الصحفيين الراحل بزوي عن حقيقة تشبثه بالاتحاد الوطني للقوات الشعبية، أجابه بأنه حينما يكون المرء مناضلا في الاتحاد فذلك يعني اصطفافه إلى جانب الجماهير الشعبية. والدليل في رأيه على ذلك أن “هذا الحزب بقي متمسكا بمبادئه ولم يشارك أبدا في أي شيء من شأنه المساس بالبلد أو بالجماهير”.

 لم تكن للمرحوم، كما كان يقول، مشكلة مع الاتحاد المغربي للشغل، بل فقط مع زعيمه. فقد استمر، حتى بعد طرده، وفيا لمبادئ الاتحاد، معتبرا إياه الإطار الأمثل للدفاع عن حقوق الشغيلة. كان الرجل والنقابي معا يتجسدان فيه كجسد واحد، كما يقول الصحفي عبد اللطيف بنمنصور. وقتها عرضت عليه بعض الهيئات النقابية الالتحاق بها لحاجتها إلى خبرته، ولكنه اعتذر لها بلباقة، لأنه كان ضد التعددية النقابية. بل كان أيضا ضد اليسار الراديكالي العاطفي، حيث أدان من أسماهم “بالذئاب الذين دفعوا كثيرا من الشباب في الستينيات والسبعينيات إلى التطرف حتى يتخلصوا منهم ويستغلوا تضحياتهم لتلميع أنفسهم”.

 عاد المرحوم إلى مدينة الجديدة، في فترة أسميها المرحلة الثانية من حياته، وهي المرحلة التي تعرفت عليه فيها. جاء ذات يوم، لحضور ندوة فرع اتحاد كتاب المغرب بالجديدة، في موضوع “الجديدة في الكتابات الأجنبية”، مرفوقا بصديقة مشتركة هي الكاتبة نيلسيا دولانوي، مقدمة كتابي حول الطائفة اليهودية بمدينة الجديدة. من ذلك اليوم استمرت علاقتنا وطيدة، فكنت أحيانا أقضي معه الساعات في نقاش قضايا السياسة والفكر والثقافة. ثم فتح له ذ. عبد المجيد نوسي المجال في فرع اتحاد كتاب المغرب، حيث شارك في لقاءاتنا الدورية. كما نظمنا له لقاء مفتوحا لتقديم كتابه الثاني باللغة الفرنسية “تسعة قرون في الدوامة”، وهو الكتاب الذي صدر سنة 2010 عن دار أبي رقراق بالرباط. وبخلاف موضوع كتابه الأول، فقد تطرق في كتابه الثاني إلى قضايا سجالية لم أكن أظن أنه، بخلفيته النقابية تلك، قد يغامر بالتطرق إليها. ففي هذا الكتاب أدان ما أسماه الغرب المنافق وكذا الصهيونية والماسونية، معتبرا الغرب مصدر كل الشرور والانحرافات والأكاذيب. وقد أجريت معه نقاشا حول هذا الكتاب الذي لم يتداول تقريبا في السوق ولا في الإعلام. كنت أفضل شخصيا لو أماط اللثام عن قضايا خبرها عن قرب ويمكن أن يضيف فيها مثل التاريخ النقابي في المغرب، ولكنني تيقنت، فيما بعد، بأن الإشكالات التي عالجها في كتابه الثاني مثلت مجموعة هموم فكرية حملها معه منذ كان محررا في “مغرب إنفورماسيون” و”الطليعة”.

 ويعتبر بعض قدماء النقابيين في الاتحاد المغربي للشغل بأن حسن بزوي لو لم يتم إبعاده عن المنظمة لكان ربما سيكون من أكبر المرشحين لخلافة المحجوب بن الصديق بعد رحيله. بل سمعت من هؤلاء من عاتبه مباشرة وصراحة على عدم ليونته وتفضيله للمواجهة بدل استعمال سياسة “تمسكن حتى تتمكن”. لكن الراحل كان يرد على هذه الفرضيات بأن من يعتقد في هذا الكلام كان يجهل طبيعة الكولسة النقابية والسياسية، ودليله على ذلك أن بعض من اختاروا المهادنة لم يسلموا هم أنفسهم من الإبعاد المباشر أو التهميش الداخلي. ثم إنه كان ضد سياسة الأقنعة لأن خاصية الوضوح التي طبعته ووفاءه لمنظمته لم تكن لتسمح له بسلوك طريق أخرى غير تلك التي سلكها. 

 وفي وقت لاحق سوف يوجه إلى رئيس المجلس الأعلى للحسابات، ذ. أحمد الميداوي، رسالة يتهم فيها قياديين نقابيين بالتورط “في الاختلاس والارتشاء”. وهي الرسالة التي كانت قد تطرقت لها جريدة “المساء” بالصفحة الأولى في أحد أعدادها.

 كان المرحوم يحس دائما، كما تبين لي، بأنه أدى دوره كقائد نقابي، وأنه ككاتب ومفكر يمكنه أن يستمر في الدفاع عن نفس المبادئ التي آمن بها. لكنه كان يشكو من التجاهل الإعلامي، وكانت له عبارة مفضلة يرددها أمامنا بشأن هذا التهميش حيث يقول، “إنهم يدخلونك إلى غرفة ويطفؤون الضوء”. وبكل تأكيد فقد كان راضيا على مساره، وهو ما أكده بوضوح أكثر من مرة حيث قال: “لو كتبت لي حياة أخرى لاخترت ذات الطريق التي سلكتها بلا زيادة ولا نقصان”.

 في 2013، كنت مكلفا بتقديم دروس في مادة “صحافة التعليق” لفائدة منتسبي الإجازة المهنية بكلية آداب الجديدة، وعندما كنت بصدد تقديم حصة حول “المقال الافتتاحي”، فقد دعوت الراحل مرة للحديث عن تجربته الصحفية في “مغرب إنفورماسيون” و”الطليعة”. حضر في الموعد المحدد ومعه نماذج من افتتاحيات كان قد كتبها. وضعت له كرسيا في مواجهة الطلبة، ورأيت الانشراح وقد بدا على محياه لأنه، كما قال، كان يغبط الطلبة على وضعيتهم كباحثين عن المعرفة. وبعد نهاية الدرس استضفته على فنجان قهوة دون أن يفتأ عن شكري على الفرصة التي منحتها له للحديث عن ماضيه مع الطلبة.

 رحم الله الفقيد وأكرم مثواه.

 *كاتب وناشر “دفاتر الجديدة”

Visited 6 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة