عندما قاد نوبير الأموي كومندو لتهريب أمقران وكويرة من السجن
موح نوبير الأموي
لتاريخ 25 أبريل 1974 مكانة خاصة في وجداني، ففي مثل هذا اليوم تم إطلاق سراح الوالد، بعد اعتقال دام 16 شهرا قضاها سجينا بالمعتقلين الرهيبين السريين: “دار المقري” في الرباط و”الكوربيس” في الداربيضاء.
وهو نفس اليوم الذي انطلقت فيه “ثورة القرنفل” في البرتغال، إيذانا بمرحلة جديدة يعرفها العالم.
اعتقال الوالد تم في الدار البيضاء يوم 16 دجنبر 1972، بعد أشهر من التخفي ومراوغة أجهزة البوليس التي كانت تتقفى أثره وتترصد تحركاته.
ظاهر الاعتقال كان “إضرابات نقابية”، ولكن بعد سنوات سأعرف السبب الحقيقي، وهو محاولة تهريب الضابطين في القوات المسلحة محمد أمقرآن والوافي كويرة من السجن العسكري في مدينة القنيطرة.
بدأت المحاولة بزيارة السجن العسكري لإيصال أدوية أرسلتها زوجة أحد الضباط، وهي صيدلانية من عائلة الراشدي. خلال تلك الزيارة تم التعرف على المكان، وجرى الاتصال بأحد الحراس، المدعو “زعيرو”، على أساس أن يسهل تهريب الضابطين، إلا أن أمره اكتشف، فاعترف بكل شيء.
للإشارة فإن ابن عمي محمد، وهو ضابط صف، في ليلة الانقلاب صرفه رئيسه الذي يعمل تحت إمرته، ولم يكن غير العقيد امقرآن…
من شهود تلك المرحلة الصديق الكبير الطيب منشد، الذي لم يكن مطلعا إلا على الجانب النقابي في القضية، هو من أخبرنا أن الوالد قد خرج سالما من معركة “ندوة التعليم” بالمعمورة، وقد التقى منشد بالوالد مرات أخرى خلال تخفيه، وقال إنه نصحه بتسليم نفسه، وأن يهرب إلى الخارج.
كان الكومندو يتكون من الوالد ومحمد زخباط، مناضل نقابي بنقابة البريد، وأعضاء آخرين لا أعرفهم، ولم يعترف عليهم الوالد، رغم قسوة التعذيب. ومن الطرائف أنه خلال إحدى زياراتي للمناضل زخباط، الذي بقيت تربطنا بعائلته صداقة كبيرة، حدث أنه جرى الحديث عن اعتراف أحد معتقلي الحق العام بما بدر منه بعد تهديده بالكهرباء، عندها ضحك زخباط، وقال: اسألوا الأموي عن التعذيب بالكهرباء.. هل ستزعزع شعرة في مفرقه؟!
كان زخباط يقول للجلادين: “أنا لا أعرف أي شيء، فكل الأمر من تحت رأس الأموي، فهو التنين صاحب سبعة رؤوس”. ويحكي أيضا أنه لما اقترب موعد إطلاق سراحهم، لم يعرف كيف التحق به الأموي في المرحاض، وأوصاه بما يجب قوله خلال آخر جلسات الاستنطاق…
في تلك المرحلة كان الأموي مركز تقاطع للعديد من الخلايا الحزبية والنقابية وخلايا التنظيم السري، وكان صلة الوصل مع أصدقائه في المقاومة الفلسطينية، وقد ربط العديد من العلاقات النضالية خلال سفرياته إلى الجزائر وسوريا و اسبانيا وغيرها. ومعلوم أن تلك المرحلة تميزت بالمد القومي.
أذكر هنا بالخصوص ديوان الشاعر العربي السوري الكبير عمر أبو ريشة، الذي كان يتنقل بين أيدي العديد من أصدقاء الوالد من الأطر في الرباط سنة 1970. كنت أعتقد في البدء أنه ديوان أشعار غزلية، إلى أن وجدت الوالد ما زال محتفظا بنسخة من ذلك الديوان، وفي إحدى جلسات السمر سنة 2006، قرأنا القصيدة الشهيرة التي ألقاها عمر أبو ريشة بنادي الضباط في حلب، فألهمت الضباط الأحرار الذين قاموا بأول انقلاب غداة ذلك اليوم في سوريا.
***
كان المغرب سيعرف تمردات مسلحة في كل أنحاء البلاد، مثل ما حدث في منطقة “مولاي بوعزة”، إلا أنها لظروف معينة لم تنطلق في نفس اليوم، فتم إخماد انتفاضة “مولاي بوعزة”، وتفكيك العديد من الخلايا المسلحة.
رغم أن الأموي، كان على خلفية المعركة الدستورية سنة 1970، قد نفي من مدينتي خريبكة وبني ملال بحكم قضائي يمنعه من المكوث لأكثر من 24 ساعة في المنطقة، فإنه بقي على اتصال بالخلايا المسلحة التي نظمها بالمنطقة إلى غاية اعتقاله.
وتقول الأسطورة أن شحنة سلاح مرت عبر ميناء أغادير، وأخرى عبر ميناء القنيطرة وكان يديره المهندس الاتحادي محمد آيت قدور، الذي كما يتردد، كان وراء تنظيم لقاء بين الزعيم الاتحادي عبد الرحيم بوعبيد والكولونيل محمد أمقرآن، الذي حضر متنكرا بجلباب نسوي عند انتقاله لبيت عبد الرحيم بوعبيد.
الكثير من الاتحاديين لا يعرفون، ولا يتقبلون الوجه الآخر للزعيم الاشتراكي الديمقراطي. ولكن الحقيقة أن عبد الرحيم بوعبيد لم يتقبل أبدا إقالة حكومة عبد الله إبراهيم في ماي 1960، وانقلاب المخزن على الديمقراطية. حيث اعتبرها طعنة في الظهر وإخلالا بالتعاقدات الوطنية بين الحركة الاتحادية والمخزن، الذي لم يعد ممكنا الثقة فيه، خصوصا بعد التعامل القمعي مع الإضراب العام، والمجزرة الدامية لانتفاضة مارس 1965، واغتيال المهدي بنبركة في أكتوبر من العام نفسه.
بالنسبة للحركة الاتحادية كانت حالة الاستثناء، وإلغاء العمل بالدستور خمس سنوات، تكريسا لطبيعة النظام الاستبدادية، وتمنح الشرعية للمقاومة الشعبية ولكل ما سيتبع، بما أن المخزن هو من بدأ بفك التعاقد. ورغم محاولة المخزن العودة إلى “المنهجية الديمقراطية” بدستور 1970، إلا أن المبادرة جاءت بعد فوات الأوان…
***
تُعرف “ثورة القرنفل” أيضًا باسم “ثورة 25 أبريل”. كانت في المنطلق انقلابا عسكريا جرى في 25 أبريل 1974 في لشبونة، قامت به حركة القوات المسلحة المؤلفة من الضباط الأحرار للإطاحة بنظام إستادو نوفو السلطوي. ولكن سرعان ما اقترن الانقلاب بحملة مقاومة مدنية شعبية غير متوقعة. أدت الثورة إلى سقوط نظام سلازار الاستبدادي، منهية بذلك حروب البرتغال الاستعمارية، ثم تحولت إلى عملية ثورية كان من شأنها أن تؤدي إلى تحول البرتغال إلى الديمقراطية.
كانت إشارة إطلاق الثورة هي أغنية grandola villa morena، التي بثت على أمواج الإذاعة على الساعة الثانية عشرة والربع ليلة 25 أبريل 1974. وهي أغنية تمجد بطولات مدينة جنوبية معروفة بانتصار ساكنتها لليسار وبمقاومتها للنظام الدكتاتوري الاستبدادي.
وعلى الرغم من المناشدات الإذاعية المتكررة من قِبل الثوار، الذين طالبوا السكان بالبقاء في منازلهم، إلا أن الآلاف من المواطنين البرتغاليين نزلوا إلى الشوارع واختلطوا بالمتمردين العسكريين.
أعاد الانقلاب الديمقراطية إلى البرتغال، وأنهى نظام إستادو نوفو وشرطته السرية، التي كبحت الحريات المدنية والسياسية.
***
الربيع، هو الإشارة إلى الآباء المؤسسين، وإلى رسالة توماس بين إلى لافاييت، في كتابه حقوق الإنسان، حيث يحثه على بدأ حملة الربيع بألمانيا لإسقاط الاستبداد ودعم الثورة الفرنسية.
وللإشارة فإن كتاب بنجامين فرانكلين الشهير، أسس لإسقاط الأنظمة الملكية الاستبدادية، فالآباء المؤسسون كانوا يساريين وثوريين حقيقيين وذوي رسالة إنسانية. ورغم التوجه الانتهازي الاستبدادي بقي صدى أفكارهم يسري في الدولة العميقة التي ساهمت في إشعال عدد كبير من الثورات عبر العالم…
***
أعتقد أن الحدثين مرتبطان، ذلك أنه بعد أن تبين لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، استحالة وقف المد اليساري بالعالم، وكبح حركات التحرر الوطني في افريقيا، و بعد الانقلاب الفاشي الدموي في الشيلي، والتأكد من الهزيمة في فيتنام. وقتها قام هنري كيسنجر بتغيير السياسة الخارجية الأمريكية وقواعد اللعبة من المواجهة العسكرية إلى المواجهة السياسية، ودعم الديمقراطية الاجتماعية العالمية التي كان يقودها المستشار الألماني ويلي براند، الذي رفض إعادة تجربة الشيلي في البرتغال وفي المغرب. فكان الاتفاق التاريخي مع عبد الرحيم بوعبيد، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين الذين قدم أسماءهم القائد الاتحادي.
سنة بعد ذلك نالت المستعمرات البرتغالية استقلالها، بما في ذلك أنغولا والموزمبيق. كما تم تهييء الانتقال الديمقراطي في اسبانيا…
***
كانت سنة 1974 نهاية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، باعتباره “استمرارا للمقاومة وحركة التحرر الوطني”، بتحوله إلى حزب سياسي يمتلك أدوات “التحليل الملموس للواقع الملموس”، وبداية “استراتيجية النضال الديمقراطي”، التي قطعت مع العمل المسلح والمعارضة الراديكالية في الخارج، وانطلق تراكم عبر بناء ميزان القوى بتأطير المجتمع وتأسيس تنظيمات جماهيرية. وكان الإيمان بهذه الاستراتيجية قطعيا، رغم سقوط كوكبة من الشهداء عبر هذا الدرب الطويل، مثل الشهيد عمر بن جلون و الشهيد محمد كرينة…