سيد ماكرون.. الأزمة أعقدُ من المواعظ التي تُلقيها فينا
عبد السلام بنعيسي
استشاطت كثيرا حمية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الأزمة الأوكرانية، بات يتظاهر بأنه مهمومٌ بتداعياتها السلبية على الأوكرانيين. في كل مرة صار الرئيس الفرنسي يدلي بتصريح حول الأزمة، أو يقوم باتصال هاتفي بالرئيس الروسي فلادمير بوتين ليستحثه على العناية بالأوكرانيين، ويَطمئن منه على أحوال المدنيين منهم خاصة، ويطلب عدم تعريضهم للخطر، التزاما بالقانون الدولي.
ووفقا لما أوردته الصحافة، فلقد دخل ماكرون في سجال حادٍّ مع نظيره بوتين في مكالمة هاتفية جرت بينهما، حول ما اعتبره بوتين عدم سماح المسلحين الأوكرانيين للسكان بمغادرة المدن المحاصرة، إذ قال رئيس فرنسا إن “الجيش الذي يهاجم هو الجيش الروسي، ولا سبب لديه للاعتقاد أن الجيش الاوكراني يعرض المدنيين للخطر”.
ولم يكتف الرئيس الفرنسي بذلك، بل إنه بادر إلى إدانة ما أسماه “استهزاء” نظيره الروسي بالمبادئ “السياسية والأخلاقية” باقتراحه إقامة ممرات إنسانية لسكان مدن أوكرانية عدة “لنقلهم إلى روسيا”. ففي مقابلة أجرتها معه قناة إل. سي. إي الفرنسية، دان الرئيس الفرنسي ما بدا له أنه “الخطاب المنافق القائل: سنحمي الناس لنقلهم إلى روسيا”، منتقدا “عدم جدية الطرح الروسي”، قائلا: “إنه استهزاء على الصعيدين الأخلاقي والسياسي، لا يُطاق بالنسبة لي”.
كم كنا سنصدق هذه النزعة الإنسانية التي تحاول أن تبدو حريصة على سلامة وأمن الإنسان الأوكراني، النزعة التي لَبِسها بشكل مفاجئ أمامنا الرئيس الفرنسي، كنا سنصدقها لو لم تكن لدينا ذاكرة وأرشيف في دواخلنا، نحافظ فيه على بعض المواقف المعلنة من ماكرون، والمختلفة كليا عن المظهر الإنساني الذي يحاول تسويقه لنا حاليا. إيمانويل ماكرون، بدمه ولحمه، وبصفته رئيس فرنسا، اتصل، في بداية معركة “سيف القدس” التي اندلعت بين المقاومة الفلسطينية والكيان الصهيوني، برئيس وزراء الكيان وقتها بنيامين نتنياهو، وقال له في ذلك الاتصال، كلاما متعارضا تماما مع ما يقوله في هذه الأزمة لبوتين.
فلقد أعلن الرئيس الفرنسي لنتنياهو عن دعمه الكامل لإسرائيل في الحرب التي تشنّها على الشعب الفلسطيني، وقام بتقديم التعازي له في من أسماهم، “ضحايا إسرائيليين”، سقطوا نتيجة قذائف أُطلقت من غزة. وأفاد بيان للإليزيه، بأن ماكرون جدَّد حينئذ التزام فرنسا الراسخ بأمن إسرائيل و”حقها” في الدفاع عن نفسها. فلقد كانت القوات الإسرائيلية هي المهاجمة في غزة، مثل القوات الروسية في أوكرانيا، وكان الضحايا الفلسطينيون الذين يسقطون جراء القصف الإسرائيلي في غالبيتهم الساحقة، من المدنيين، وبينهم أطفال ونساء وشيوخ، وكانت الطائرات الإسرائيلية تقصف الأبراج السكنية الشاهقة وتدمرها على رؤوس أهلها، وتطمرهم تحت التراب، وكان كل ذلك يُنقلُ على شاشات الفضائيات بطريقة مباشرة.
لكن الطابع الإنساني في ماكرون لم يتحرك في فؤاده وقتها، ويا ليت ماكرون اكتفى باستئصال الطابع الإنساني من دواخله وتجرَّدَ منه فحسب، بل إن الأمر تجاوز ذلك، إذ حضرت الغلظة، والشدة، والبأساء، والعنف في نفس ما كرون، واتصل برئيس وزراء الكيان الصهيوني ليدعمه في الجرائم التي يقترفها ضد الفلسطينيين، وليقلب الحقائق رأسا على عقب، متحدثا، في كذب مكشوفٍ، عن دفاعٍ إسرائيلي عن النفس.
لقد حوّل ماكرون الجلاد الذي هو الكيان الصهيوني المحتل لفلسطين، إلى ضحية، والشعب الفلسطيني الضحية، والمحتلة أرضه، والذي يُسفكُ يوميا دمه، منذ ما يفوق السبعين سنة، حوّله ماكرون إلى جلاد وإلى معتدي، وأجاز للكيان الصهيوني، إبان معركة سيف القدس، عدم التردد في سحق هذا الشعب وإبادته، فلماذا حضرت الإنسانية والعطف مع الأوكرانيين، في حين غابت مع الفلسطينيين؟
أليس هذا تمييزا بين بني البشر، وهم في وضعية متماثلة؟ ألا يرقى هذا التصرف إلى مستوى العنصرية البغيضة؟؟؟
وليس الرئيس الفرنسي الحالي ماكرون وحده الذي يعاملنا، كعرب ومسلمين، بهذه الطريقة البهلوانية والمنافقة، فالرئيس الأسبق جاك شيراك الذي، كما قال عنه رئيس حزب الكتائب السابق كريم بقرادوني: إنه كان يقبض “مصاري” من رفيق الحريري، شيراك هو الذي كان رفقة جورج بوش الابن وراء إصدار القرار 1559 الداعي لتجريد المقاومة اللبنانية من سلاحها، وهو القرار الذي شكَّل غطاء لاغتيال رفيق الحريري، لإخراج القوات السورية من لبنان، وهو القرار الذي، من أجل تنفيذه، شنت إسرائيل على لبنان عدوان تموز 2006…
كما أن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي حصل على أموال طائلة من معمر القذافي لتمويل حملته الانتخابية الرئاسية، هو نفسه الذي انقلب على الرئيس الليبي سنة 2011، وقادت قواته الفرنسية الوحدات العسكرية للناتو لتدمير ليبيا، وقتْل القذافي والتمثيل بجثثه، وتسليم ليبيا للمجاميع التكفيرية والإرهابية التي قامت بتفتيتها، وتحويلها إلى دولة فاشلة، وأتاحت للبنوك الغربية الاستيلاء على الأموال الليبية الضخمة التي كانت مودعة فيها، وساهم الرئيس الفرنسي أيضا، فرانسوا أولاند، في تدمير سوريا، وتخلى حين كان رئيسا لفرنسا، في لحظة ذروة الأزمة السورية، عن كل اللياقات المفروضة في رئيس دولة، وتكلم بلغة الشتم والشوارع عن الرئيس السوري بشار الأسد…
فما يقوم به الرئيس الفرنسي الراهن إيمانويل ماكرون هو امتداد لما اقترفه أسلافه الرؤساء الآخرون من جرائم في منطقتنا وفي العالم أجمع، وعليه فإن ماكرون غير مؤهل ليحاضر فينا خلال الأزمة الأوكرانية، عن الإنسان والإنسانية والأخلاق والقانون الدولي، فالغرب، وفرنسا على رأسه، ما عاد يجيد سوى النهب والاستحواذ على ثروات الشعوب الفقيرة لاستغلالها من طرف كبريات الشركات العابرة للقارات، وتوظيف جزء منها في الحروب، وفي الإعلام والدعاية، لتأبيد السيطرة على مناطق شاسعة من الكرة الأرضية، لكي تتمتع الأقلية الغربية في بحبوحة من العيش الرغيد مترفة متنعمة، وتفرض الفقر، والحرمان، والمجاعة، والمرض على الأغلبية المطلقة من سكان الكرة الأرضية، في قطبية أحادية ظالمة..
وكل حاكم من عالم الجنوب يرفض هذه القطبية الأحادية، ويحاول التمرد عليها، ليحقق لدولته استقلالا اقتصاديا، وسياسيا، وثقافيا خاصا بها، وفي مصلحة أبناء بلده، تُفبركُ له الملفات، وتُوجَّهُ له الاتهامات، وتُفرضُ عليه العقوبات والحصارات، ويُتَّهمُ، بالتطرف، وبالإرهاب، وحتى بالجنون، وقد تشنُّ عليه الحروب، ويُدمَّرُ بلدُه فوق رأسه، وقد يُعتقلُ، ويساق إلى المحاكم لإدانته بارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية…
الأزمة العالمية، ومنها الأزمة الأوكرانية، أعمق بكثير من المواعظ والمحاضرات التي تُلقيها فينا يا سيد ماكرون. فلقد طلّق الغرب بالثلاث القيم الإنسانية النبيلة، وبات عدوانيا وشرسا في افتراس لحم العالم المحيط به، لكن مع نمو وعي شعوب دول الجنوب، وازدياد إدراكها بما يفعله فيها الغرب، من نهب واستغلال، ومع ارتفاع حاجتها لتحقيق تنميتها، والتمتع بخيراتها وثرواتها، فإن من المستحيل أن تستمر هذه الوضعية الشاذة على حالها.
إن لم يتمَّ تدارُكها ومراجعتُها، فقد يكون في ذلك انتحارٌ، للغربيين، ولغير الغربيين، بسببها. وما التهديد المتبادل باستعمال الأسلحة الذرية في الأزمة الأوكرانية، إلا التجلي البارز للأخطار المروعة التي أضحت محدقة، فعلا، وبشكلٍ جدي، بالبشرية.