… وأعطاه ألف دينار!!

… وأعطاه ألف دينار!!

عز الدين العلام

كثُر الحديث في هذه السنوات الأخيرة عمّا أسماه باحثون اقتصاديون وأيها الناس بـ”اقتصاد الريع”. تجلّى للبعض في رُخص للنّقل تُعطى مجانا لمن يملك ألف وسيلة نقل. 

 ورآه آخرون في رخص للصّيد في أعالي البحار وأسفلها تُعطى محاباة لمن لا تخلو مطابخهم وموائدهم من فواكه بحر لا تجد طريقها للعديد من أسواق المغرب وأفواه المغاربة. 

 ورآه الكثير في استغلال مقالع للرمال تُهدى لوجه الله لأناس يملكون قصورا من حديد مسلّح لا رمال هشّة فيه.

  ورآه آخرون في وظائف، بل ومؤسّسات تُخلق خلقا من أجل مخلوق رضي الله عنه، ومؤخرا رآه البعض في تقاعد استثنائي لرئيس وزراء استثنائي أيضا، لا يتجاوز مبلغه تسعة ملايين سنتيم في كلّ شهر، علما أنّ أمعاءه لم يحدث لها أن “غرغرت”، حسب ما قال عمر بن الخطاب الذي لا يملّ أخونا في الإسلام من الاستشهاد به.  

  وأنا أسمع ما قيل، وأقرأ بعض ما كُتب في الموضوع من وقائع وتعليقات، تذكّرت جملة قلّما خلا منها مصدر من مصادر تراثنا المغربي الإسلامي، التاريخي والسياسي والأدبي، ونصّها بالحرف: “… وأعطاه ألف دينار”.

   غالبا ما تأتي هذه الجملة الشّديدة السّخاء في نهاية حكاية من عشرات الحكايات المروية بين دفّتي الكتاب الواحد. 

 والسؤال:

 – من يُعطي هذه الآلاف من الدّنانير؟ 

 – من أين له ببكلّ هذه الدنانير؟ 

 – متى يعطيها؟ 

 – لمن ولمَ يعطيها؟

  أمّا صاحب العطاء، فلن تخطئه العين، بل كلّ أعين الرّعايا، خواصها وعوامها، موجّهة إليه. هو الخليفة أو الملك أو السّلطان، سمِّه كما تشاء.

    وأمّا عن مصدر كلّ هذه الأموال من آلاف الدّنانير التي يعطيها ذات اليمين والشّمال، فتوضّحه جملة أخرى تراثية شهيرة مؤداها أن “لا دولة إلاّ بجيش، ولا جيش إلاّ بمال، والمال رزق تجمعه الرّعية، والرعية عبيد يتعبّدهم السّلطان”. 

بيد أنّ الأهم هنا هو أنّه لكي تعطي، يجب بداهة أن يكون في جيبك ما تعطيه، يعني أن تكون أخذت مسبقا ما ستعطيه لاحقا. ولكي تعطي باستمرار وسخاء، كما كان يفعل الخلفاء والملوك والسّلاطين، عليك أن تأخذ وتأخذ، إن لم أقل أن تنهب باستمرار. فلكي يحافظ الحاكم المعطاء على كرمه وسخائه، عليه أن يكون غنيا على الدّوام، ولكي يبقى غنيا على الدّوام، عليه أن يبحث عن المال باستمرار، بل وأن يصبح مبتزّا يقدم على كلّ عمل يؤدّي إلى كسب المال، بدءا من فرض إتاوات ومكوس وجبايات على الأسواق والحوانيت والغلات، إلى مصادرة الأملاك والأراضي. 

 هكذا إذن تختفي وراء خصلة الكرم السّلطاني “الحميدة” حقيقة الجشع “الرهيبة” حينما نعلم، كما بيّن لنا ذلك كتاب “الأمير” لماكيافلي، أنّ العطاء يتطلّب الأخذ أوّلا، وأن الحفاظ عليه بشكل دائم يؤدّي إلى نهْب الرّعايا مسبقا.

   ومتى ينطق الخليفة أو الملك أو السّلطان بهذه الجملة الكريمة والآمرة في آن؟ تتعدّد السياقات حسب الحكايات والمواقف. فقد ينطق بأمره المُطاع في لحطة نشوة فتّقتها أبيات شاعر مسترزق قال في حقّه ما في الله. وقد يحنّ قلبه ويتدفّق سخائه بسماع موعظة فقيه يتدلّل بعلمه، فيعطيه تلك الألف دينار يقوى بها على الزّمان. وقد يجزل العطاء على رجل من الأشراف المعروفين، أو من الأعيان المتحكّمين، هبة منه جزاء ولائه، والأهمّ من ذلك، جزاء له على ضبط تابعيه، عملا بالقاعدة السّلطانية المأثورة القائلة “لا يصلح التّابع إلاّ بالمتبوع”…

   واليوم، وأمام ما قيل في موضوع الريع، الذي أجّجه مؤخّرا التقاعد “الاستثنائي” لرئيس الوزراء “الاستثنائي” أيضا، وما شابهه، وما نُشر من وقائع، وما قد ينشر مستقبلا، يحقّ لنا التّساؤل: ما ذا تغيّر في المغرب الحديث؟ لست متشائما، ولكنّها وقائع وعلامات تحبس أنفاس تفاؤلي. حينما تُهدى رخص لمن يركنون في قصورهم منتظرين مداخيل لم يحرّكوا من أجلها ساكنا، أليس ذلك قمّة السّخاء الحاتمي؟ وحينما تُخلق مديريات ومجالس، إن لم أقل وزارات ومندوبات على المقاس، ألا يكون ذلك نوعا حديثا من عطاء ملايين الدّراهم، وليس آلاف الدنانير كما كان بالأمس؟ حينما تُخلق وظائف وهمية، أو لا حاجة للمغرب بها، يستفيد منها الأقارب والأباعد، أليس ذلك عطاء في سبيل الله؟ 

 وبماذا نسمّي تفويت عشرات الأراضي بآلاف الهكتارات بدراهم رمزية تتحوّل في شهور معدودة إلى ملايين الأورو الحقيقية؟

ما الفرق إذن بين “اعْطِيه ألف دينار… ” البارحة، وأعطيه اليوم ما به يجني آلاف، بل وملايين الدراهم؟

  أطرح السؤال، وأترك الجواب لما تحبل به سنوات المغرب القادمة.

Visited 50 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

عز الدين العلام

باحث وأكاديمي مغربي