المجتمعات الفردية.. هل تتنصر الهوية الاستهلاكية على الهوية الوطنية؟ الدنمارك نموذجاً.. (2-2)

المجتمعات الفردية.. هل تتنصر الهوية الاستهلاكية على الهوية الوطنية؟ الدنمارك نموذجاً.. (2-2)

حسن العاصي

كانت سياسة دوقية “شليسفيغ” Slesvig المحاذية لألمانيا، الوطنية الليبرالية هي التي قادت الدنمارك إلى حافة الهاوية في عام 1864. وشكلت هذه الهاوية فيما بعد إحدى الدعائم  الأساسية في السياسة الدنماركية لأكثر من 100 عام.

 فقد كانت لعدة قرون جزءًا من مملكة الدنمارك. وفي عام 1864 احتلت مملكتا بروسيا والنمسا دوقية “شليسفيغ” وحكمتا المنطقة بشكل مشترك حتى الحرب النمساوية البروسية عام 1866 حيث استحوذت بروسيا على “شليسفيغ”. انضم البروسيون إلى “شليسفيغ” مع المنطقة الواقعة إلى الجنوب مباشرة، وخلقوا مقاطعة “شليسفيغ هولشتاين”. استمرت المقاطعة عندما انضمت بروسيا إلى دول أخرى لتصبح الإمبراطورية الألمانية في عام 1871.

 في نهاية الحرب العالمية الأولى، تم إجراء استفتاء عام في منطقة “شليسفيغ” في عام 1920 لتحديد الحدود بين ألمانيا والدنمارك. تم تقسيم منطقة استفتاء “شليسفيغ” إلى منطقتين: المنطقة الأولى وهي الجزء الشمالي والأكبر من “شليسفيغ”، كانت مأهولة بأغلبية من الدنماركيين العرقيين. والمنطقة الثانية تقع في وسط الدوقية، تتألف من حوالي 80 ٪ من الألمان. كانت هناك منطقة ثالثة في الجنوب، ولكن نظراً لأن المنطقة كانت مأهولة بالأساس من قبل العرق الألماني، لم يتم إجراء تصويت فيها. تسبب رسم الحدود بين المنطقتين في جدل كبير ونقاش ساخن بين الدنمارك وألمانيا، ولكن في النهاية تم الاتفاق على حل وسط على أساس عدد السكان، وكانت النتائج كما كان متوقعاً. اختارت المنطقة الأولى بأغلبية ساحقة أن تصبح جزءًا من مملكة الدنمارك. واختارت المنطقة الثانية البقاء مع ألمانيا.

 عندما تولى الشعب

 خلال أول خمسون صفحة من كتاب “بو ليديجارد” تدور الأحداث حول القرن التاسع عشر، وبشكل أكثر تحديدًا عن الفترة من 1864 إلى 1901. وخلال هذه الفترة وضع الفلاحون والعمال، الأساس للدنمارك الحديثة. وحدث ذلك تحت شعار “ما يضيع في الخارج يجب كسبه من الداخل”.

 لقد تم إنشاء الكليات والجامعات، وإنشاء التعاونيات لمنتجي الألبان واللحوم. ومع تغيير النظام السياسي عام 1901، تولى الحزب الليبرالي المسؤولية السياسية لقيادة البلاد. 

منذ منتصف عشرينيات القرن الماضي، تولى العمال الدنماركيون تحت شعار “طالب بحقك وقم بواجبك” دور القوة الطليعية للمجتمع. وبالتعاون الوثيق مع اليسار الراديكالي، بدأ الاشتراكيون الديمقراطيون في بناء دولة الرفاهية، التي جاءت انطلاقتها الأخيرة في السبعينيات. في الوقت نفسه، ظهرت النساء في الميدان بفعالية كقوة دافعة في زيادة تطوير المجتمع الدنماركي.

  لم يكن انضمام الدنمارك إلى السوق الأوروبية المشتركة في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول عام 1972، ثم إلى الاتحاد الأوروبي هو الذي شكّل بداية حقبة جديدة، بل كانت أيضاً استقالة “ينس أوتو كراج” Jens Otto Krags  من منصب رئيس الوزراء في الثالث من أكتوبر بنفس العام.

 وخلافاً لوجهة النظر واسعة الانتشار، يشير “بو ليديجارد” إلى “ينس أوتو كراج” باعتباره مدافعاً شرساً عن تقاليد الحزب الاشتراكي الديمقراطي، على عكس خليفته “أنكر يورجنسن” Anker Jørgensen الذي مثلت فترة رئاسته للحكومة قطيعة مع تقاليد الحزب.

 الشيء الهام في سرد “بو ليديجارد” ليس اعتباره أن “الشعب” هم الفلاحون أولاً، ثم العمال الذين يُنظر إليهم على أنهم القوة التي شكلت الدنمارك، خلال معظم القرن العشرين. بل نظرته إلى أن الدنمارك هي نتاج عوامل داخلية وخارجية. حيث تم تأسيس الدنمارك الحديثة، ليس فقط من قبل الأشخاص الذين يعيشون فيها، ولكن من قبل الأشخاص الذين يعيشون في الخارج أيضاً، وفي المقام الأول من قبل أقرب الجيران (ألمانيا).

 الجبهة الداخلية

 النقطة الحاسمة في الكتاب، هي أن قدرة الدولة الدنماركية على الحفاظ على سيادتها خارجياً يعتمد على تنظيم الدولة للمجتمع داخلياً، على سبيل المثال، كيف يمكن للمجتمع إنشاء مجموعة من القيم المشتركة، وكيفية ضمان ولاء الأفراد، وإحساسهم بالمواطنة، والمحافظة عليهم، هو السؤال الأساسي في فن حنكة الدولة. 

 من وجهة نظر “بو ليديجارد” كان لأشخاص مثل وزير الدفاع والخارجية السابق، اليساري الراديكالي “بيتر روشيجون مونش”، وزير التعليم سابقاً “هارتفيج فريش” Hartvig Frisch، ورئيس الوزراء السابق، الديمقراطي الاشتراكي “ثوركيلد ستونينج”  Thorkild Stauning دوراً خاصاً في تلك المرحلة. لقد فهموا أهمية بناء مجتمع وطني وديمقراطي، وجبهة داخلية يمكن أن تصمد أمام تهديد خارجي وربما احتلال.

 مع هزيمة عام 1864، أصبحت الدنمارك دولة صغيرة في أوروبا، وجارة لأقوى قوة عسكرية في العالم، في شكل ألمانيا الموحدة. فكيف تعيش مع هذا الجار؟ الجواب على هذا السؤال، هو القاسم المشترك في قصة الدنمارك في القرن العشرين. 

 بينما كانت منطقة “شليسفيغ” Slesvig وخاصة الجزء الذي نسميه “جوتلاند الجنوبية” Sønderjylland التي انضمت إلى الدنمارك فيما بعد، كانت في تلك المرحلة مشكلة ساخنة للغاية استمرت حتى الحرب العالمية الثانية.

 كانت جزيرة “جرينلاند” Grønland التي استعمرتها الدنمارك عام 968، وتقع بين القطب الشمالي والمحيط الأطلسي، شرق أرخبيل القطب الشمالي الكندي، وتُعتبر أكبر جزيرة في العالم، هي التي احتلت تدريجياً على مكان “شليسفيغ”. إذ لا يُنظر إلى مصالح الولايات المتحدة في “جرينلاند” على أنها تهديد للسيادة الدنماركية، بنفس الطريقة مثل مصالح ألمانيا السابقة في “شليسفيغ.”

 قرن الازدهار

 يُقدم الكتاب أمثلة مهمة على تفرد البرلمان الدنماركي باتخاذ قرارات هامة أحياناً، دون أن يُشارك السكان في القضايا الحيوية المتعلقة بالسيادة الدنماركية. على سبيل المثال، حصل في عام 1906 أن تولى رئيس الوزراء الليبرالي “ينس كريستيان كريستنسن” Jens Christian Christensen إيفاد نواب دنماركيين إلى برلين، لإجراء مفاوضات سرية للحصول على ضمان ألماني، بهدف أن تظل الدنمارك محايدة.  وفي عام 1957 قام رئيس الوزراء الاشتراكي الديمقراطي “هانز كريستيان هانسن” Hans Christian Hansen بعقد اتفاقية سرية، سمحت الدنمارك بموجبها للولايات المتحدة استخدام “ثول” Thule في جريلاند كقاعدة للطائرات النووية.

 ترسم قصة “بو ليديجارد” عن الدنمارك في القرن العشرين، صورة لما يقرب من مئة عام من التقدم المستمر. لم يُفض هذا التقدم إلى زيادة الازدهار المادي فحسب، بل أدى إلى زيادة الفردية في المجتمع أيضاً.

  إن دولة الرفاهية هي التي ساهمت إلى حد كبير في هذه الفردية. هذه الدولة، التي يتهمها العديد من النقاد بأنها مشروع اشتراكي وجماعي، قد حررت ـ من وجهة نظر بو ليديجارد ـ الفرد من قيود الأزمنة السابقة، إلى درجة يصعب العثور عليها في أي مكان آخر في العالم. 

 على عكس الحكمة التقليدية، يدعي “بو ليديجارد”  أن الفردية لم تؤد إلى أنانية مدمرة اجتماعياً، بل على العكس من ذلك، أعطت الفردية في مجتمعات الرفاهية في الشمال تماسكاً أكبر مما هو موجود في العديد من المجتمعات الأوروبية الأخرى.

 قوة التماسك

يقول “بو ليديجارد” في الفصل الأخير من الكتاب: “نحن مجتمع من أنصار الفردية الأقوياء”. ومع ذلك، يقوم بالتحذير أيضاً. لأنه على الرغم من أن زيادة النزعة الفردية قد ساهمت في زيادة التماسك في الدنمارك، إلا أنه ليس من المسّلم به أنه يمكن الحفاظ على هذا الارتباط، لأنه يقع تحت ضغط من “عدم الرضا عن التوقعات المتزايدة”. /// الإجماع الوطني والتوافق على كل شيء، يبدو أنه يشكل عائقاً أمام الازدهار، مما أدى إلى نضال الجميع ضد الجميع من أجل “مزيد من الحرية، وواجبات أقل وفرص استهلاك أكبر”.

 وبالتالي، يُشار إلى أن التهديد الأكبر للديمقراطية الدنماركية يأتي الآن من انتصار الهوية الاستهلاكية على هوية المواطن.

 في النهاية، يستخلص “بو ليديجارد” من التاريخ الدنماركي في القرن العشرين فيما يلي: بدلاً من الاعتقاد بأن هناك نموذجاً دنماركياً فريداً، يجب أن يستمر في الدنمارك خلال القرن الحادي والعشرين، يجب أن نبني على التجارب الفريدة التي قُمنا بها من خلال بناء المجتمعات على أساس التماسك، والرفاهية، والديمقراطية.

Visited 9 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. حسن العاصي

أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا