نقْد الصِرَاعَات الحَدِيثَة في اليَسَار المغربي (2-3)

نقْد الصِرَاعَات الحَدِيثَة في اليَسَار المغربي (2-3)

عبد الرحمان النوضة*

 2- تَــحًـلِـيل وَنَــقْـد الصِــرَاعَــات السياسية الحديثة فيما بين أحزاب اليسار بالمغرب 

قد سَبَق لِـقيادات أحزاب اليسار الثلاثة، المُتحالـفة في إطار فيديرالية اليسار الديمقراطي بالمغرب، أن وَضَعَت تصريحا لدى هَيْئَة (تَابِعَة لِوزارة الداخلية) تُشْرِفُ على تـنظيم الانتخابات في المغرب. وَيُخَوِّلُ هذا التصريح للأحزاب الثلاثة (وهي الحزب الاشتـراكي الموحد ، وحزب الطليعة ، وحزب المؤتمر) تَـكْوِين تحالـف سياسي، وانـتخابي. ويسمح هذا التصريح للأحزاب الثلاثة بِتَرْشِيح أعضائها بشكل مُشتـركَ، في إطار لائحة انتخابية واحدة، خلال الاستحقاقات الانـتخابية المقبلة، والتي كانت سَتُجْرَى في شتـنبر 2021.

 وبعد مُرور عدّة شهور على إِيدَاع هذا التصريح (المُتعلّق بالانتخابات)، واعتبارًا لِحُدُوث أفعال، واعتبارًا لِتَرَاكُم رُدُود أفعال، أَثَارت خِلافات، وصراعات مُتَوَتِّـرَة، فيما بين قِيَادَات الأحزاب المُكَوِّنَة لِـ فيديرالية اليسار الديموقراطي ، ذَهَبَتْ فَجْأَةً نـبيلة مُنيب (الأمينة العامة للحزب الاشتـراكي الموحد) إلى السُلطات الإدارية المُشرفة على تـنظيم الانتخابات، وَسَحَبَت توقـيعها مِن التَصريح المُشتـرك، المُتَـعَـلِّق بِـ «لائحة التحالـف الانـتخابي»، الذي سبق أن تَسَجَّلَت به فيديرالية اليسار الديموقراطي في عملية الانـتخابات المحلية والبرلمانية المُـقبلة. وَيُجَسِّدُ سَحْب تَـوْقِـيع نَبيلة مُنِيب فَـكًّـا للتحالـف الذي كان قائمًا بين المُكوّنات الثلاثة لِـ فيديرالية اليسار (وهي: الحزب الاشتـراكي الموحد ، وحزب الطليعة ، وحزب المؤتمر الاتحادي ).

 وفي يوم الثلاثاء 29 يونيو 2021، اجتمعت الهيئة التـنفيذية لِـ “فيديرالية اليسار”، بحضور الأمناء العامين للأحزاب الثلاثة. وخلال هذا الاجتماع، فَاجَأَت نَـبيلة مُنيب المُجتمعين مِن بين قـيادتي الحزبين الآخرين، حيث أخبرتهم بأنها سَحَبَتْ توقـيعها من الاتـفاق المشتـرك (الذي كان قد وُضِعَ لَدَى الإدارة المشرفة على الانتخابات، بهدف خَوْض غِمَار الاستحقاقات الانـتخابية بِلَائِحَة مُوَحَّدَة). ويَعْنِي عَمَلِيًّا سَحب توقـيع نـبيلة منيب اِنْسِحَابَ حزبها (الحزب الاشتـراكي الموحد) من فيديرالية اليسار الديمقراطي ، ومن هيئاتها التنظيمية الوطنية، والمحلية.

 وفي 4 يوليوز 2021، اِجتمع المكتب السياسي لحزب المؤتمر الوطني الاتحادي ، والكتابة الوطنية لحزب الطليعة الديمقراطي الاشتـراكي ، وقرّرا استمرارَ تحالـف فيديرالية اليساري الديمقراطي ، ولو بعد اِنسحاب الحزب الاشتـراكي الموحد منه. وَقد أَعْلَن كلّ من عبد السلام العزيز (الأمين العام لِـ “حزب المؤتمر الاتحادي”)، وعلي بُوطُوَّالَة (الكاتب العام الوطني لِـ “حزب الطليعة”)، عن «بَرْمَجَة اجتماع اللّجنة التحضيرية للمؤتمر الاندماجي لأحزاب فيديرالية اليسار الديمقراطي، في موعد سيُحدد لاحقا، وذلك تـنفيذًا لتوصية سابقة اِتَخَذَتها الهيئة التـقريرية الأخيرة لِـ فيديرالية اليسار، مع إشراك كل المكونات اليسارية والتـقدمية، ومع الانـفتاح على كل النشطاء في الحقـول المختلـفة، الذين يتـقاطعون مع مشروع الـفيديرالية، بالموازاة مع التحضير للانـتخابات العامّة المقبلة في شتـنبر 2021».

 وكانت الانـتخابات العامة (المُتـعلّقة بِالغُرَف المِهَنية، وبالجماعات المَحلية، وبالجِهَات، وبالأقاليم، وبالبرلمان) مُبَرْمَجَة لكي تُجْرَى في 8 شتنبر 2021. وخلال عشرة أيام الأخيرة من شهر يونيو 2021، حدثـت عِدّة صِدَامَات، وَخُصُومَات، وَصِرَاعَات، داخل “الحزب الاشتراكي الموحّد”، وكذلك داخل الهيئة التَـقْرِيرِيَة لِـ “فيديرالية اليسار الديموقراطي”. ولا يُعْرَف من هذه الخُصومات والصراعات سوى الجزء القليل. وَدَفَعَت هذه الصراعات نـبيلة منيب (الأمينة العامّة للحزب الاشتراكي الموحّد ) إلى اِتِّخَاذ عدّة قَرارات سَرِيعة.

 وَأَدَّتْ قرارات نبيلة مُنيب أوّلًا إلى اِنْسِحَاب “الحزب الاشتراكي المُوَحَّد” مِن «فيديرالية اليسار الديموقراطي». حيث اِنْـقَسَمَت هذه «الفِيديرَالية» في يوم 29 يونيو 2021 إلى طَرَفَيْن مُتناقضين. وأَدَّت ثانيًّا قَرارات نبيلة مُنيب إلى حدوث انـقسام في الحزب الاشتـراكي الموحد . حيثُ اِنْشَطَرَ هذا الحزب إلى تِيَّارَين سِيَّاسِيَّيْن عَدُوَّيْن، أو مُتَـنَاحِرَيْن. واحتـفظ تِيَّار نبيلة مُنيب (الذي هُو الأغلبية) بِجِهَاز “الحزب الاشتراكي المُوحّد”. واضطرّ تِـيَّارَيْ الأقلية، وهما تِـيََارَي «حركة الوفاء للديموقراطية»، وَتِيَّار «حركة الديموقراطيين المُستقلّين»، إلى الانفصال عن «الحزب الاشتراكي الموحّد».

 وَضِمْنَ أحداث شهر يونيو 2021، ظهر تِيَّار اليسار الوَحْدَوِي . وهو التِـيَّار الذي يقـوده محمد الساسي (مُنَسِّق سِكْرِتَارِيَة المَجلس الوَطني للحزب الاشتـراكي الموحد”)، ومحمد أمجاهد (الأمين العام السابق لنـفس الحزب). وقد عقد تيار اليسار الوحدوي اجتماعا خلال يوم السبت 3 يوليوز 2021. و قرّر الانسحاب من الحزب الاشتـراكي الموحد، والالتحاق بِمَا تَبَـقَّى في تَحالـف فيديرالية اليسار الديموقراطي (الذي لم يَعُد يجمع سِوَى “حزب المؤتمر الاتحادي”، و”حزب الطليعة”).

وقد انسحب فعلًا من «الحزب الاشتراكي المُوحّد» قرابة 200 عضو وإِطَار. ومِن بين هؤلاء المُنْسَحِبِين، يُوجد 120 فردًا هُم أعضاء في «المجلس الوطني» التابع “للحزب الاشتراكي المُوحّد”. وَالْتَحَـقُوا بِـمَا تَـبَـقَّى في «فِيديرالية اليسار الديموقراطي». وَكان مِن ضِمْنِهِم مُصطفى الشَنَّاوِي (برلماني سابق)، ومحمد السَّاسِي، وَعُمر الحَيَّانِي. وَحَدَثَت هذه الانقسامات في ظَرْف شَهْرَيْن قبل اِنْطِلَاق الانتخابات البرلمانية المُبَرْمَجَة في شهر شُتَنْبِر 2021.

وَزَعَم بعض أنصار نـبيلة مُنِيب أن هذه الأخيرة «لم تَتَّخِذ أيّ قرار فردي بالانسحاب من لائحة التحالـف الانتخابي لـفيديرالية اليسار». وزعموا أن «مُنيب جمعت المكتب السياسي لحزب الاشتـراكي الموحد، وعرضت عليه مُنِيب المشاكل، فصوّتت أغلبية هذا المكتب السياسي لصالح تَـفْوِيضِ مُنِيب صلاحية تصحيح العلاقة مع الحزبين الآخرين المشاركين في فيديرالية اليسار». واتّهمت نـبيلة مُنِيب “حزب الطليعة”، و”حزب المؤتمر الاتحادي”، بأنهما «تَحَالَـفَا مع تِـيَّار محمد السَّاسِي ومحمد مجاهد، الذي يُنافس تِيَّارِهَا داخل الحزب الاشتـراكي الموحد». كما اِتَّهَمَت نبيلة مُنيب الحزبين المذكورين بِكَوْنِهِمَا «حَاوَلَا القـيام بِانْـقِلَاب للإطاحة بِنَـبِيلة مُنِيب من مَنْصِب الأمينة العامة لِلحزب الاشتـراكي الموحد». وَتَحَدَّث عبد الوهاب الـبَقَّالِي، بِاسم “الحزب الاشتراكي المُوحّد”، في وَسَائِل الإعلام، وَاتَّـهَمَ عَلَنِيَّةً، هو كذلك، حِزْبَـي “الطليعة” و”المؤتمر الاتحادي” بأنهما قاما بِـ «محاولة فاشلة لِقَرْصَنَة الحزب الاشتـراكي الموحّد»(2). وأضاف عبد الوهاب البقالي أن حزبه (الحزب الاشتراكي المُوحّد) «إِقْـتَــنَـعَ بِوُجود محاولة فاشلة لِقَرصنة الحزب»(3). والحاصل أن تِـيَّار نَبيلة مُنِيب ساند هذه الأخيرة، بينما التيارات البَاقِيَة في “الحزب الاشتراكي المُوحّد” عارضت اقتراحها.

 وَنُسَجِّل أن أغلبية أعضاء المكتب السياسي للحزب الاشتـراكي الموحد لم تَـقُم بِأَيّ تَحَرُّك لِنَـقد مَزَاعِم نَبيلة مُنِيب، أو لِمُعارضة مُبادراتها، أو لِإِيـقَاف قَرَارَاتِهَا المُفَاجِئَة.

 وَقد دَافعت نبيلة مُنيب، وكذلك بعض أنصارها (مثل عبد الوهّاب البقّالي)، على انسحاب حزبهم من فيديرالية اليسار الديموقراطي. واعتبروا هذا الانسحاب كَـ «إنجاز نضالي»، و«تاريخي»، و«عظيم». وهذا عَبَثٌ عَـقِيم. لأن المُهِم، ليس هو أن «تدخُل» إلى فيديرالية اليسار الديموقراطي ، أو أن «تَخْرُجَ» منها. بل المُهم هو : ما هي إنجازاتك في ميدان تنظيم النضالات الجماهيرية المُشتـركة؟ وما هي مُساهماتك في مجال خدمة مصالح الشعب الاستراتيجية ؟ أمّا الأمور الباقية، فهي ثانوية، أو تَافِهَة.

وحينما اِتَّهَمَت نـبيلة مُنِيب حزبي “الطليعة” و”المؤتمر” بالقـيام بِـ «محاولة انـقلاب»، فإنها لم تُوَضِّح لَنَا: مَتَى، وكيـف، عرفت أن الأمر يتـعلّق بِـ «محاولة انـقلاب»؟ ولم تُـقَدِّم لنا نـبيلة مُنِيب، ولا أنصارها، المُعطيات، أو العناصر، التي اِعتمدت عليها لكي تـقول أن الأمر يتـعلّق بِـ «محاولة انقلاب». ولم تـقدّم لنا نـبيلة مُنِيب، ولا أنصارها، ولو حُجَّة واحدة مُـقنـعة على وجود «محاولة انـقلاب» في الحزب الاشتـراكي الموحد . وهذه هي المرة الأولى التي نَسمع فيها كلاما عن محاولة «القـيام بانـقلاب داخل حزب يساري». وتـزداد الـقضية غرابةً حينما نـعرف أن الحزب المعني، أو المُستهدف، يصف نـفسه بأنه «يساري»، و«اشتـراكي»، و«مُوَحّد». فنجد أنـفسنا مضطرّين إلى محاولة تصوّر الكيـفية التي يمكن أن يحدث بها «انـقلاب» داخل حزب سياسي يقول عن نفسه أنه «اِشتـراكي»، و«يساري». هل هذا «الانـقلاب» سيحدث عبر إنزال عَسكري مُفاجئ؟ أو هل سيحدث هذا «الانـقلاب» عبر عقد مؤتمر استـثنائي، ومستـعجل، وَمَغْشُوش، وَمَضْمُون النتائج ؟ أو هل سيحدث هذا «الانـقلاب» عبر انتـفاضة مُفَاجِئَة لِلمكتب السياسي، وللمجلس الوطني، ضد الأمينة العامّة نـبيلة مُنِيب، بهدف تـعويضها بِشخص آخر؟ أَلَا يَمنع القَانُون الداخلي للحزب كل هذه الأنواع مِن المُناورات ؟ وكيـف يُعقل أن يحدث «انـقلاب» ضد نـبيلة مُنِيب، وضد تيّارها السياسي، الذي يُفتـرض فيه أنه هو «صاحب الأغلبية المُطلقة» في “الحزب الاشتـراكي الموحد”؟ وهل يمكن لِتِـيَّار نـبيلة مُنِيب، صاحب «الأغلبـية»، أن يتـرك «محاولة الانـقلاب» هذه تَمُرُّ، وَتَـنْجَح، ودون أن ينتـفض ضدّها، ودون أن يُـفشلها ؟ فَـكُلّ هذه المزاعم حول «الانـقلاب» المزعوم، لا تتوفّر على أيّة حُظُوظ لكي تحدث في الواقع. فبالأحرى أن تنجح. وحتى إذا اِفتـرضنا، على عكس ما سبق، أن «محاولة الانـقلاب» وقعت فعلًا، ألم يكن من واجب نـبيلة مُنِيب، كَكاتبة عامّة، ومن أنصارها، أن يَتَرَيَّتُوا في ردود أفعالهم، خلال فتـرة مُعيّنة من الوقت، في انـتظار الرجوع إلى هيئات الحزب الشرعية، بدلًا من أن تـذهب نـبيلة مُنِيب، وبسرعة البرق، إلى السلطة الإدارية المُنَظِّمَة للانتخابات، وأن تَسحب توقـيعها الشخصي من لائحة التحالـف الانـتخابي الذي سبق أن تَسَجَّلَت بها فيديرالية اليسار لِخوض الانـتخابات المحلية والبرلمانية المُـقبلة؟ ولماذا فضّلت نـبيلة مُنِيب، وكذلك أنصارها، التـعجيل بِتَـكْسِير فيديرالية اليسار؟ ولماذا لم تُعِرْ نـبيلة مُنِيب أيّة أهمّية لِـ «التحالـف» المُسْتَدَام الذي كان قائمًا بين الأحزاب الثلاثة داخل فيديرالية اليسار (وهي: الحزب الاشتـراكي الموحد، و حزب الطليعة ، وحزب المؤتمر الاتحادي)؟ وَالتَـفْسِيرَات التي صَرَّحَت بها قيادات هذه الأحزاب، وكذلك تِـيَّاراتها المعنية، لِتَبْرِير مَواقِـفِـهَا، أو لِشَرْح هذه الانشقاقات، أو العَدَاوَات، كانت غامضة، أو مُتَحَيِّزَة، أو مُتَنَاقِضَة، وغير مُـقْنِعَة. ومن الصّعْب على قيادات أحزاب اليسار أن تَـعْتَرِف أنه مِن بين الأسباب التي تُـفَـسِّرُ هذه الأحداث السَلْبِيَة، نَجِدُ المُنافسة الحَادَّة على مَنْصِب التَرَشُّح على رَأْس لَوَائِح الانتخابات البرلمانية في سنة 2021. وقد تَبَيَّنَ فعلًا فيما بعد أن نَبِيلة مُنِيب هي الوحيدة (من “الحزب الاشتراكي الموحد”) التي حَصَلَت على مقعد في البرلمان أثناء انتخابات شُتَنْبٍر 2021.

 وحول العُيُوب المَزْعُومَة، التي اِدّعَت نَبيلة مُنِيب (وكذلك أنصارها)، في شهر يونيو 2021، أنهم اِكَتَشَـفُوهَا بَغْتَةً في قِيادات “حزب الطليعة”، و”حزب المُؤتمر الاتحادي”، والتي تَتَجَلَّى في «التَحَايُل»، أو «المُنَاوَرَة»، أو «الغِشّ»، أو «الخِدَاع»، أو مُحاولة القِيَّام بِـ «اِنْـقِلَاب»، أو بِـ «قَرْصَنَة»، نَسْأَل نَبيلة مُنيب (وأنصارَها): لماذا لم تَكْتَشِـفُوا هذه العُيُوب المزعومة، خلال فَتْرة 14 سنة مِن العَمَل المُشترك مع هذه القِيَادَات (حيثُ اِمْتَدَّتْ هذه الفَتْرَة مِن سنة 2007 إلى سنة 2021)؟ ولماذا لم تَنْتَـقِدُوا، كِتَابِيًّا وَعَلَنِيَّةً، هذه العُيُوب مِن قَبْلُ ؟ ولماذا أَجَّلْتُم نَـقْدها، واِنتظرتم حتى اِقترب مَوعد الانتخابات البرلمانية في شهر يونيو 2021؟ أم هَل تعتـقد نَبيلة مُنيب (وأنصارُها) أن هذه العُيُوب لم تَكن مَوْجُودة قَبل شهر يونيو 2021 في قِيَادَتَي “حِزْبَ الطليعة” و”حزب المؤتمر الاتحادي”، وَأَنَهَا ظَهَرَت فَجْأَةً خلال شهر يونيو 2021، بسبب قُرب الانتخابات البرلمانية؟ وفي هذه الحالة، مَا هي أسباب الظُهُور المُفَاجِئ لهذه العُيُوب؟ والآن، بعد اِنْشِطَار “فيديرالية اليسار”، وبعد انشقاق “الحزب الاشتراكي المُوَحَّد”، مَا العَمَل؟ هل نَكْتَـفِـي بأن يَعُود كل واحد إلى بَيْتِهِ المُعتاد، وأن ننتظر حُدُوث مُعْجِزَة مَا ؟ هَل تُعِيد قِوَى اليسار الانطلاق من نقطة الصِّفًر؟

مِن السّهل أن نُركّز على نَـقْد أخطاء نَبِيلة مُنِيب، لأن أخطاءها بَارِزَة وكبيرة. لكن سيكون من الخاطئ الاعتقاد أن نبيلة مُنيب هي وحدها التي ارْتَكَبَت (أو ترتكب) الأخطاء. لأن الحقيقة المُرَّة، هي أن مُجمل قِيَادات وَأُطُر أحزاب اليسار الأربعة، تَرْتَكِبُ أخطاء مُمَوَّهَة، أو مَخْفِيَة، أو مَسْتُورَة. ولأن قِيَادَات وَأُطُر أحزاب اليسار الأربعة هي في مُجملها مِن الصِنْف البورجوازي الصغير. وكفاءاتها بعيدة عن أن تكون كافية. وأنها كلها ترتكب أخطاءً مُتعدّدة، ومُتنـوّعة، وَمُتَوَالِيَة. ولا تختلف قِيَادات وَأُطُر أحزاب اليسار الأربعة في النَوْع، وإنما تَتَـفَاوَتُ في الدَرَجَات. والانتـقادات الحالية هي مُوَجَّهَة، في جَوْهَرِهَا، ليس فقط إلى نبيلة مُنيب وَتِـيَّارِهَا السياسي، وإنما إلى قيادات وأطر مُجمل أحزاب اليسار.

 إن حِدَّة الصراعات فيما بين أحزاب اليسار، وَطَابَـعُهَا الذَّاتِي، أو حتّى الانتهازي أحيانًا، لا يَعْنِي بالضَرُورَة وُجُود مُحَاوَلَات «اِنْـقِلَاب»، أو «قَرْصَنَة». وإن اتهام حزبي “الطليعة”، و”المؤتمر الاتحادي”، بِتُهمة محاولة الـقِيَّام بِـ «قَرْصَنَة» “الحزب الاشتـراكي المُوحّد”، أو بِتُهْمَة إِنْجَاز «اِنْـقِلَاب» داخل هذا الحزب الأخير، يَدُلّ على أن أعضاء قـيّادة تِـيَّار نـبيلة مُنِيب آمَنُوا، أو رُبَّمَا مَا زَالوا يُـؤْمِنُون، أنه بإمكان فاعل سياسي أَجْنَبِي عن حزبهم أن يُسْـقِطَ نَبِيلة مُنِيب من مَنْصِب الأَمِينَة العَامَّة للحزب، وأن يُعَوِّضها بشخص آخر. وإذا كان هذا الاعتـقاد صحيحًا، فسيعني أن أعضاء الحزب الاشتـراكي الموحّد هم أشخاص سَاذَجِين، أو مُغَفَّلِين. حيث يمكن، في هذه الحالة المُفترضة، أن يَتَلَاعب فاعل سياسي أَجْنَبِـي عن الحزب بِعقـول أغلبية أعضاء “الحزب الاشتـراكي الموحّد”، وأن يُحوّلهم مِن مُناصرين لِلكاتبة العامة للحزب (نـبيلة مُنِيب) إلى رافضين لها، أو حتّى مُعَادِين لَها. ويعني أيضًا هذا الاِتِّـهَام، أن نـبيلة مُنِيب وأنصارها، يُحِسُّون أن أوضاعهم في “الحزب الاشتـراكي الموحد” هي أوضاع هَشَّة، أو ضعيـفة، أو مهزوزة، أو مُهَدَّدة، أو غير قارّة. وهذا الاعتـقاد مُبالغ فيه، وَمُتَسَرِّع، وناتج عن انـفعال ذاتي، وظرفي. والغرض من هذا الاتهام (بمحاولة القـيّام بِـ «انـقلاب»، أو «قرصنة» الحزب)، هو فـقط التهويل من أَخْطَار وَهْمِيَة، أو مُصْطَنَعَة، لتبرير اِتِّخَاذ قرارات غير عادية، بَلْ غير شرعية، وغير عقلانية. والخطير هو أن قـواعد هذا الحزب بَـقِيَت غَائِبَة. حيث أنها لم تُذْرِك خُطورة هذه السُلُوكِيَّات، ولم تَنْتَـقِدْهَا، ولم تُـقَـوِّمْهَا. كما أن “حزب الطليعة” بِقيادة علي بُوطُوَّالَة، و”حزب المؤتمر الاتحادي” بِـقِيّادة عبد السلام لعزيز، وكذلك قواعد هذين الحِزْبَيْن، لم يَـكُونُوا في مُستوى نـقد هذه السُلوكيّات، منذ ظهور عَلَامَاتها الأُولَى، بين سنوات 2007 و 2017. ولم يكونوا في مُستوى تَوْقِيـفِهَا، وَتَصحيحها، قبل أن تُصبح هَدَّامَة. وحتّى قـيادة “حزب النهج” (تحت قِيّادة مصطفى البراهما) بَقِيَت غائبة عن هذه الصِرَاعات الشَرِسَة، وغير مُبَالِيَة بها. ولم تَتَدَخَّل فيها بِأيّ شكل من الأشكال. كأن هذه النِزَاعَات السياسية الحَادَّة، التي تُخَرِّبُ قِوَى اليسار، لَا تَعْنِيها بأيّة حال مِن الأحوال ؟ بينما كان الواجب الثوري يَفْرِضُ التعليقَ على هذه الأحداث في وقتها، ويستوجب التَدَخُّلَ لِتَـقْلِيص حِدَّة التَـفَاعُلَات الذَّاتِيَة. كما يَتَطَلَّبُ الواجب الثوري نَـقْد كل السُلُوكِيَّات التي تظهر خاطئة، أو غير مَبْدَئِيَة، أو هَدَّامَة، وَلَوْ كان فَاعِلُهَا مِن حزب مُخالف لِحِزْبِنَا. لكن قيادة “حزب النهج” لم تُحَرِّك سَاكِنًا.

 فَتُصْبِحُ التَسَاؤُلَات المَطروحة هي التالية: هل حَقًّا أحزاب اليسار هَشَّة إلى درجة أنه يُمكن لحزب مُحدّد أن يقوم بِـ «اِنْـقِلَاب» داخل حزب آخر ؟ وهل يُمكن حقًّا لحزب أن يتعرّض لِـ «القَرْصَنَة» من طرف حزب مُنَافِس؟ وإذا كان هذا التَدَخُّل العنيف (المَزْعُوم) لحزب يساري في الشؤون الداخلية لِحزب يساري آخر مُمكنًا، أَلَا يُصبح مثل هذا التدخّل أكثر سُهولة بالنسبة لِفَاعِل سياسي آخر قَوِي، مِثل النظام السياسي القائم، والذي يَتَوَفَّرُ على أجهزة قَمعية وَمُخَابَرَاتِيَة مُتَطَوِّرَة ؟ وهل يُمكن حَـقًّا لِفَاعل سياسي خَارِجِـي أن يَتَلَاعَب بِعُـقُول أعضاء حزب يساري بهذه السُهُولَة ؟ أَلَا تُجَسِّدُ هذه التُهْمَة اِحْتِـقَارًا فَجًّا لأعضاء هذه الأحزاب ؟ وهل يحقّ لِـ “المكتب السياسي لحزب يساري” مُعَيَّن، أن يُغَيِّرَ بَغْتَـةً استـراتيجية حزبه، دون الرجوع إلى مؤتمر الحزب ؟ وهل يحق لِتِـيَّار واحد (هو تِيَّار نبيلة مُنيب)، بِدَعْوَى أنه يتوفّر على الأغلبية في أيّ تصويت مُحْتَمَل، أن يُغَيِّر توجّه “الحزب الاشتراكي المُوحّد” بشكل مناقض للاختيارات الأساسية التي قَرَّرَهَا آخر مُؤتمر لِهذا الحزب (مثل خيارات المُشاركة في “فِيديرالية اليسار الديموقراطي”، وتوحيد الأحزاب اليسارية الثلاثة، والاندماج في حزب مُوَحَّد، والمشاركة في الانتخابات بِلَائِحَة واحدة مشتركة، الخ)؟ وأين هو الالتزام بِالديموقراطية الداخلية للحزب ؟ وأين هو الانضباط للاختيارات الأساسية للحزب؟ وإن كانـت هذه الصراعات الشَرِسَة تَـدُورُ حول أفكار سياسية نَبِيلة (كما اِدَّعَى البعض)، فما هي هذه الأفكار، وما هي الخلافات النظرية فيما بينها ؟ وهل كان قَادَة أحزاب “فيديرالية اليسار” يتصارعون حول أطروحات فلسفية، أو حول خُطَط نِضَالية، أو حول أَسَالِيب تنظيمية، أم أنهم كانوا يتصارعون حول طُمُوحات شخصية، وحول مُنافسات ذاتية، أو زَعَامِيَة(4)؟ وَإذَا كانت حقيقةً هذه المُوَاجَهَات مُجَرَّد صِرَاعَات بين أفكار سياسية رَاقِيَة، وليست مُنَافَسَات حَادَّة بين شخصيّات مُفْرِطَة في طُمُوحاتها الذَاتِيَة والزَعَامِيَة، نَرْجُوكم أن تُوَضِّحُوا لَنَا: أين يمكننا العثور على مراجع هذا النقاش الفِكْرِي المزعوم، وأَيْنَ يُمكننا أن نَجِدَ وثائق النَـقْد السياسي المُفْتَرَضَة، التي كان يجب على هذه الشخصيات والتِـيَّارَات الحزبية أن تَـتَـبَادَلَهَا، ومنذ زمان ؟ ولماذا كلّ هذا التَنَازُع والتَـعَادِي بين أشخاص مُفْرِطِين في الذَاتِيَة البورجوازية الصغيرة؟ ولماذا كلّ هذه العَصَبِيَة التَنَاحُرِيَة؟ ولماذا كلّ هذه العَجْرَفَة في المَواقف، أو الغَطْرَسَة في السُلُوكِيَّات؟ وأين هي قِيَم اليسار؟ وأين هي مبادئ النِضَال، والتَوَاضُع، والمُرُونَة، والاستعداد لِلتَضْحِيَة ؟ ولماذا تُعَوِّضُ بعض قيادات هذه الأحزاب مبادئ «التَـقَارُب، والتَعَاوُن، والتَكَامُل» فيما بين قِوَى اليسار، بِمَبَادِئ «الكَوْلَسَة، والمُنَاوَرَة، والخِدَاع، والانتهازية»؟ ولماذا تَغْلِيب الطُمُوحات الذَاتِيَة على الواجبات الثورية؟ ولماذا هَذْر الطَاقَات في تَعَارُك ذَاتِي، بَدَلًا من استعمال هذه الطاقات في إِنْجَاز المَهام الثورية؟ وما الفائدة من المنافسات الذّاتية؟ وأين هي تدخّلات العُـقَلَاء في قيادات أحزاب اليسار لِوَقْف هذه النِزَاعَات الذاتية وَتَـقْوِيمِهَا؟ والتَبْرِيرَات التي قَدَّمَتْهَا الأطراف المُتصارعة لِتَبْرِير سُلُوكِيَّاتها الذاتية بَـقِيَت غير جِدِّيَة. بَلْ هذه التَبْرِيرَات هي مَزَاعِم غير مُقْنِعَة، وَغير عَـقْـلَانِيَة. وَمَنْهَج التَـفْكِير الذي اِسْتَـعْمَلَتْهُ هذه الأطراف المُتصارعة هو في جَوْهَرِه نَمَط التفكير البورجوازي الصغير. كما أن تَصَرُّفَاتِهَا تَدْخُلُ ضِمْنَ نَمَط السُّلُوك البورجوازي الصغير، الذي يُؤَدِّي بالضرورة إلى الذَاتِيَة المُفْرِطَة، وإلى الرَدَاءَة، وإلى مُنَافَسَة بين شَخصيّات «مُتَأَلِّـقَة»، لكنها عَبَثِيَة. إنها مَظَاهِر الاِسْتِلَاب (aliénation) لَدَى شخصيات بورجوازية صغيرة، وَانْتِهَازِيَة، وغير مَبْدَئِيَة. وَلَا أَنوِي تَجْرِيح أحد، لكن هذا التَوْصِيف هُو ما تَـقْتَضِيه الصَرَاحَة الثورية.

وكانت أسباب هذه الصّراعات الحادّة، والمُنَافَسَات العَصَبِيَة، والانـقسامات المُخَرِّبَة، التي وقعت، سواءً في الحزب الاشتـراكي الموحد ، أم في فيديرالية اليسار الديموقراطي، أم في عُمُوم قِوَى اليَسَار الحالي بالمغرب، مُتـعدّدة، ومُتـنوّعة، ومُزمنة، ومتـرابطة فيما بينها. لكن مُعْظَم هذه الأسباب تَرْجِعُ إلى غَلَبَة العنصر البشري “البرجوازي الصغير”، وإلى هَيْمَنَة “نَمَط التَـفْكِير البُورجوازي الصغير”، داخل هذه الأحزاب.

 ومن بين مِيزَات الأشخاص المُنْتَمِين إلى فِئَات “البورجوازية الصغيرة”، نذكر: الذَّاتِيَة المُفرطة، والغُرُور في الطُمُوحَات الشخصية، وَحُبُّ التَأَلُّـق الشخصي، والزَعَامِيَة، والسُلُوكِيَّات غير المبدئية، والنُـفُور مِن بَذْل أيّ مَجْهُود مُتْـعِب، وَرَفْض التَضْحِيَة بِأَيّ مَكْسَب شخصي، والتَـذَبْذُب في المواقف السياسية، والتعامُل مع المبادئ ومع الحقائق بِانْتِـقَائِيَة انتهازية، والتهرّب من النضالات الجماهيرية المشتركة، وَتَلَافِي كل عمل ثوري، ورفض كل نضال يستوجب تضحيّات شخصية، والتعويل على قِوَى سياسية ضَعيفة، أو مُبْهَمَة، أو وَهْمِيَة، مثل «قِوَى المُجتمع المَدَنِي»، أو «النقابات»، أو «الجمعيات»، أو «الحركات النضالية العَـفْوِيَة». وَمُعْضِلَة الأشخاص البورجوازيّين الصّغار، هي أنهم يَهْتَمُّون بكلّ ما هو شَخصي، أو خُصُوصِي، أو نَـفْـعِـي، وَيَنْـفُرُون مِن كلّ ما هو عُمُومِي، أو جَمَاعِي، أو مُشترك. فَيُهْمِلُونَه، أو يَرْفُضُونه. وَمُعْظَم العَنَاصِر “البورجوازية الصغيرة” تَـتَـوَهَّمُ أنه بِإمكانها أن تَـكون «مُنَاضِلِة»، و«ثوريّة»، دُون الحاجة إلى أن تَـكون «ماركسيّة»، أو «اِشْتِرَاكِيِّة». وَدُون الحاجة إلى ضرورة الرَّبْط بين الأقوال والأفعال، وبين النظرية والمُمَارَسَة، وبين المَزَاعِم السياسية والحياة الشخصية. بَل تَتَمَيَّزُ نِسبة هَامَّة مِن العناصر “البورجوازية الصغيرة” بِـ «عدم الإِيمَان بالثورة المُجتمعية»، أي أنها تَـنْـكُـرُ إمكانية تَغْيِير أو تَثْوِير المُجتمع. وَتَـرْفُضُ الماركسية الثورية، أو تَــكْرَهُ الشيوعية.

 والانشقاق الذي حدث في الحزب الاشتراكي الموحّد في يُونيو 2021، هو الانشقاق الحزبي الأكثر غرابةً، واِنفعالًا، وَعَـفْوِيَةً، وسطحيةً، في تاريخ الانشقاقات الحزبية في تاريخ المغرب. حيث أنه لم يَكُن مُبَرْمَجًا، وَلَا مُهَيَّـئًا، وَلَا مُرَادًا، ولَا عَـقْـلَانِيًّا. بل تَـقَرَّرَ وَنُـفِّـذَ بين عَشِيَّة وَضُحَاهَا. وهذا الانشـقاق هو أيضًا الأكثر سُرعةً، وَفَوْقِيَّةً. فقد اِتَّخَذَ بعض «الزعماء» قرارات حَاسِمَة، وَمُطْلَـقَة، بَيْنَمَا عَامَّةُ القواعد الحزبية، أو أنصار هؤلاء «الزعماء»، بَـقُوا مُفَاجَئِين، أو مَصْعُوقِين، أو مُنْدَهِشِين، أو حَائِرِين.

 ويُثْبِتُ انـفجار هذه الأزمة الحزبية، على شكل صدامات حادّة، فيما بين أشخاص قِيَّادِيِّين وَأُطُر أحزاب اليسار، وُجُودَ سِبَاق جَامِح، أو مُنَافَسَة شَرِسة، على التَسجيل على رأس لَوَائِـح الانتخابية البرلمانية. وَتُؤَكِّد هذه الصِرَاعَات وُجُود سِبَاق مُـعْـتَـلٌّ نَحْو مَوَاقِـع «الزَعَامَة». وَتُوَضِّح وُجُود منافسات شديدة، أو تـناقضات تـناحرية، أوّلًا فيما بين تِيَّارات قائمة داخل “الحزب الاشتـراكي الموحد”، وثانيا فيما بين قَادَة وَأُطُر الأحزاب المكوّنة لِـ “فيديرالية اليسار الديموقراطي”.

________

(2) عن استجواب عبد الوهاب البقالي، من طرف موقع أنـفاس بريس، منشور في 3 يوليوز 2021. (3) نـفس المصدر السابق. (4) أنظر فصل “نَـقْد الزَعِيم والزَعَامِيَة”، في كتاب: رحمان النوضة، “كَيْف (في فُنُون النضال السياسي الثوري”، الصفحة 10. ويمكن تَنْزِيلُه مِن مُدَوَّنَة الكاتب: https://livreschauds.wordpress.com/2012/06/04/كيف ؟ (في فنون النضال السياسي الثوري).

*مهندس وكاتب مغربي

Visited 8 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة