ضجَّةٌ حول مسلسل فتحُ الأندلس… ليست رمانة وإنما قلوب ملآنة
عبد السلام بنعيسي
أثيرت ضجة كبيرة حول عرض مسلسل ” فتح الأندلس” في القناة الأولى المغربية. تعرَّض المسلسلُ لهجومٍ كاسح من طرف أقلام عديدة، وطُرِح سؤال من جانب نائب برلماني حول دوافع عرض المسلسل المذكور، ورفع محامٍ دعوى قضائية ضد القناة التي تعرض المسلسل، وتقدم أساتذة جامعيون لمادة التاريخ بطلب يحرِّضُ على وقف عرضه، ويمكن تلخيصُ الحيثيات التي يستند إليها مهاجمو المسلسل، في كونه يقوم بتبخيس دور المغرب في عملية فتح الأندلس، ويظهره تابعا للمشرق في عهد الأمويين، ومن الكتاب من هاجم المسلسل انطلاقا من عنوانه، رافضا كلمة فتح، معتبرا أنها تزييفٌ للحقيقة التي هي غزو عربي، نتجت عنه مظالم كثيرة لذوي الأرض الأصليين…
من موقعي كمغربي لا يعنيني بتاتا الدخول في سجال حول تسمية ما حصل في الأندلس إن كان فتحا أو غزوا، فذلك ماضٍ سحيق ولّى إلى غير رجعة، لكن الذي يهمني هو أن المولى إدريس الأول المنحدر من آل البيت جاء هاربا من موقعة فخ في المشرق العربي، ووصل وحيدا إلى الديار المغربية، وبايعه، عن طيب خاطر، الأمازيغ سلطانا عليهم، وشكل الدولة العربية الأمازيغية الإسلامية في المغرب الأقصى، وحين بعث الخليفة العباسي هارون الرشيد من يغتاله في المغرب، فإنه ترك زوجته الأمازيغية المسماة كنزة ،حاملا في شهرها السابع، وحين وضعت وكان المولود ذكرا، سمَّاهُ الأمازيغُ إدريس على اسم والده، ورعوه واعتنوا به، وانتظروه إلى أن نضج، وبايعوه كإدريس الثاني سلطانا عليهم، وبنى مدينة فاس، وامتدت في عهده، وأبنائه من بعده، الدولة الإدريسية التي سترثها لاحقا الدولة المرابطية، ثم الموحدية، ثم المرينية، فالسعدية، فالدولة العلوية..
فسواء كان وصولُ العرب إلى المغرب فتحا أو غزوا، فلقد حدث في ظل هذه الدول مجتمعة التي تعاقبت على حكم المغرب التناغمُ والانسجام والتصاهر والتزاوج والاندماج بين العرب والأمازيغ، وكانوا على تفاعلٍ وعلاقة طيبة بامتدادهم المشرقي، وحافظوا متكتلين متضامنين للمغرب على استقلاله، وسيادته إلى حدود سنة 1912، حيث وقع البلد تحت الحماية الفرنسية، وناضلوا جميعا، إلى أن طردوا المحتل من أرضهم، وكانوا شركاء في الوطن، في السراء والضراء، وإخوانا بالإسلام، وبقيمه السمحة التي رحب بها الأمازيغ، وتبنوها، ونشروها في إفريقيا ما وراء الصحراء الكبرى…
الذين يهاجمون مسلسل فتح الأندلس بسبب كلمة فتح بدل غزو، هم أنفسهم الذين لم يتفوهوا بكلمة واحدة عن الغزو الأمريكي للعراق ولأفغانستان، وتدمير الناتو لسوريا وليبيا، بل إنهم لا يخفون، إلى حدود الساعة، شماتتهم وتشفيهم فيما حصل لهذه الدول العربية والإسلامية من غزو، وتدمير، وقتل، وتهجير، والبعض منهم يفتخر بأنه كان يلقي الخطب إلى جانب برنار هنري ليفي في ليبيا أثناء تدميرها من طرف الناتو، زاعما أنه كان يساند الثورة الليبية، ويجاهر ويفاخر بذلك إلى يومنا هذا…
لا يُخفي هؤلاء حقدهم على الفلسطيني لأنه يطالب بحقوقه المشروعة، ويناضل من أجل استرداد أرضه المغتصبة من دولة الاحتلال، ولا يتورعون في الإعلان عن تعاطفهم مع الكيان الصهيوني، وتأييدهم لكل ما يقترفه من جرائم ضد الفلسطينيين، ويُوجِدون لها المبررات والأعذار، وهم الذين يساندون تطبيع المغرب مع الكيان الصهيوني ويدافعون عنه بشراسة منقطعة النظير…
فقلوبهم التي يتظاهرون أمامنا أنها تنفطر، ألما وحسرةً، لما تعرّض له القوطُ من مظالم على أيدي العرب بالأندلس في القرن الثامن الميلادي وما بعده… قلوبهم تبدو صلدة وقاسية كالصخر، أمام المجازر والمذابح التي تُقترَفُ من طرف أمريكا والغرب في حق العرب والمسلمين، ونحن في القرن 21…
وإذا كان هؤلاء يتظاهرون بالغيرة على تاريخ المغرب المُشوَّهِ في نظرهم في مسلسل فتح الأندلس، فإنهم لا يتركون مناسبة تمرُّ دون الهجوم على تاريخ الحركة الوطنية المغربية ونضالاتها وتضحياتها من أجل طرد المستعمر الفرنسي من المغرب، وكلهم يكِدُّون ويجتهدون مطالبين الدولة المغربية بشطب الاحتفال بتاريخ 11 يناير من كل سنة، على أساس أنها يوم عطلة مؤدى عنها، لأنها كانت التاريخ الذي قدم فيه ثلة من الوطنيين المغاربة وثيقة المطالبة بالاستقلال للمستعمر الفرنسي… وسبق لرئيس مجلس النواب الحالي رشيد الطالبي العلمي أن أدلى بتصريح صحافي في هذا الشأن، داعيا فيه إلى التخلص من تقليد الاحتفال بمناسبة تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، ورميها في سلة المهملات.
فهذه المناسبة الوطنية التي شكلت الأرضية التي انطلق منها المغاربة قاعدةً للنضال ضد المستعمر، وأوصلتهم للحصول على استقلالهم، يتصرف أولئك الذين يدَّعون الغيرة على تاريخ المغرب المهدور في مسلسل فتح الأندلس، وكأن لديهم مشكلا كبيرا مع هذه المناسبة، وأنها تمثل مصدرا لغضب كبير يخزنونه في دواخلهم تجاهها، إنهم يريدون إلغاءها وشطبها بتاتا من الذاكرة الوطنية. فعن أي غيرة على التاريخ المغربي يتحدث هؤلاء؟ هل يعقل أن غيرتهم على تاريخ المغرب لم تظهر إلا مع مسلسل فتح الأندلس، أما قبله وبعده فإنها غيرة تدخل في سبات عميق، ويتجردون منها بهدوء وببرودة أعصاب؟
وفقا لهذا المنطق الخالي من المنطق، فإن مكانة المغرب التاريخية أمام المشارقة يتعين أن تكون محفوظة ومصانة، وأن تتم العناية بها وعدم السماح بخدشها من جانبهم، حتى عندما يتعلق الأمر بارتباطها بوقائع وأحداث تاريخية مرت عليها قرون وقرون، أما مكانة المغرب التاريخية في علاقتها بالمستعمر الفرنسي والإسباني، فلا بأس إن أهينت ووقع تمريغها في الوحل والطين…. هل يمكن لعاقل أن يقبل بأن تكون كرامته مصانة أمام المشارقة، ولكنه لا يمانع في أن تصبح كرامته مهانة أمام الفرنسيين والإسبان بالتبخيس من التضحيات المقدمة من جانب الأجداد لطردهم كمحتلين من أرضنا؟ أليست هذه انتقائية تسكن مشاعر هؤلاء تجاه الأحداث التاريخية المغربية، بحيث يتبنون بعضها ويهللون لها، في حين يهاجمون بضراوة أحداثا تاريخية أخرى؟؟ أليست هذه مشاعر خالية من الصدق وأنها مشاعر مصطنعة ومشبوهة؟؟
لسنا أمام رمانة وإنما أمام قلوب ملآنة، فالمشكل في المغرب أعمق من حكاية مسلسل فتح الأندلس، إننا في حضرة تيار انعزالي فرانكفوني ترعاه الدولة وتدعمه، ويعمل جاهدا على فصل المغرب عن محيطه العربي الإسلامي، لتغيير هويته الحضارية كما تبلورت منذ قرون خلت، فرغم أن الدستور المغربي ينصُّ صراحة على أن هوية المغرب عربية وإسلامية وأمازيغية وحسانية صحراوية وبروافد أخرى، فإن كل ما له علاقة بالعروبة والإسلام بات في السنوات الأخيرة مجالا للاستهداف ويتم التصويب عليه من مختلف الاتجاهات، في حين يتم الاحتفاء بالمكونات والروافد الأخرى، خصوصا المكونين الأمازيغي والعبري، ولا اعتراض على هذا الاحتفاء، على أساس ألا يكون مرفقا بالتحامل، على المكون العربي الإسلامي في الهوية الوطنية…
فهل نحن أمام مغرب جديد مختلف عن الذي عهدناه يتم توضيبه، وتعليبه، وإعداده لإخراجه بشكل تدريجي إلى النور؟ هل سينجح القائمون على هذا المسلسل في مسعاهم؟ هل تغييرُ هوية بلد ما يمكن أن تتحقق بهذه البساطة؟ ألا يمكن أن يؤدي هذا التلاعب بمصير الشعب المغربي وبهويته إلى إضرام نار الفتنة المدمرة بين أبنائه؟؟؟؟