بورخس الصهيوني (1 ـ 2)
رضا الأعرجي
لم يولد بورخس رجعياً متعاطفاً مع اسرائيل ..
لقد بدأ مساره الأدبي شيوعياً، وأصدر ديوان شعر في مديح الثورة البلشفية قبل أن يتخلى عن شيوعيته ويعتبرها “لعنة” على حد قول البرتو مانغويل، أحد أبرز مريديه، في كتابه “فن القراءة”.
يومها كان شاباً، وكانت اسرائيل مجرد فكرة في ذهن هرتزل..
لكن حين قامت اسرائيل لم يخف بورخس تأييده لها، وكان كثيراً ما يعلن عن شغفه بها، ويعزو ذلك الى جدته الإنجليزية التي كانت بروتستانتية قارئة للكتاب المقدس، وهذا يعني أنه نشأ في بيئة توراتية، أي في بيئة يهودية.
وفي حواراته ومحاضراته كشف عن علاقاته الوثيقة التي أقامها مع العديد من اليهود لاسيما مع سيمون جيتشلينكي وموريس ابراموفيتش اللذين التقاهما عام 1914 أثناء دراسته في كلية “كالفن” في جنيف وظلا صديقين له طوال حياته. ويقر في إحدى رسائله الى ابراموفيتش بيهوديته حيث يقول لصديقه: لا أعرف كيف أحتفل بتيار الدم اليهودي الذي يجري في عروقي.
خلال إقامته في إسبانيا تعرف على الشاعر والكاتب والروائي والمترجم الذي يجيد حفنة من اللغات رفائيل كانسينوس. كان كانسينوس كاثوليكياً لكنه اعتنق اليهودية وتزوج من امرأة يهودية لكي ينجب منها ابناً يهودياً، ولطالما اعتبره بورخس معلمه، وأهم من أثر عليه في سنواته الأولى، وهو من دفعه للبحث في المصادر اليهودية واستكشاف جذوره.
ولد خورخي فرانسيسكو إيسيدورو لويس بورخس أسيفيدو عام 1899، وكان يعتقد أن لقب “أسيفيدو” يتصل باليهود السفارديم الذين لديهم جذور في إسبانيا قبل طردهم منها، نهاية القرن الخامس عشر، في أعقاب سقوط الأندلس أو حروب الاسترداد والاستعادة كما تُعرف في المصادر الإسبانية.
في 16 تشرين الأول (أكتوبر) 1966، أرسل بورخس، الذي كان قد أصيب بالعمى تماماً، رسالة إلى دافيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل أعرب فيها عن مدى الانجذاب الذي شعر به دائماً تجاه بلاده وشعبها، واعجابه الكبير بالفلاسفة اليهود أمثال باروخ سبينوزا، مارتن بوبر، سي أجنون، وجرشوم شولم.
قرأ بن غوريون الرسالة وكتب على الفور ردأ بالعبرية تُرجم لاحقاً إلى الإسبانية:
إلى السيد خورخي لويس بورخس الموقر.
أقدر رسالتك بعمق. سمعت الكثير من سفارة إسرائيل في بوينس آيرس عن شخصيتك وأعمالك الرائعة وموقفك تجاه إسرائيل وتراثها الروحي. أرى من رسالتك أننا على مسار واحد على الأقل: أشبهك في الإعجاب باليونان والحكمة اليهودية. سيكون من دواعي سروري أن تزور بلدنا، وأن تقابلني في منزلي، في كيبوتس سديه بوكير في النقب. مع خالص التقدير.
لبى بورخس الدعوة وقام بزيارة اسرائيل والتقى ببن غوريون، وكتب بعدها مباشرة قصيدة بعنوان “إسرائيل، 1969”.
هذه القصيدة واحدة من قصيدتين عن اسرائيل أولهما كتبت في أعقاب هزيمة حزيران 1967 حيث لم يخف بورخس تأييده لاسرائيل في حرب الأيام الستة، وقد صرح أكثر من مرة أنه وجد نفسه يتخذ جانبها على الفور بينما كانت النتيجة لا تزال غير مؤكدة، ليكتب قصيدته بعد أسبوع بعدما تحقق لها الانتصار.
وهناك قصيدة ثالثة كتبها بورخس بعنوان “اسرائيل” وأهداها إلى بنيامين بن إليعازر الفيلسوف اليهودي ومؤسس الطائفة الحسيدية الحديثة.
والقصائد الثلاث منشورة في كتاب “مديح الظل” لبورخس بترجمة محمد أبو العطا.
ثم قام بورخس بزيارة ثانية الى اسرائيل لاستلام “جائزة القدس”، أرفع جائزة أدبية إسرائيلية.
تجدد لقاء بورخس وبن غوريون بداية عام 1969 ولكن هذه المرة في مدينة بوينس أيرس حين كان المسؤول الاسرائيلي يقوم بزيارة قصيرة للأرجنتين. ويقول اليهودي الارجتنيني باروخ تينيمباوم: كان لي شرف تنظيم اللقاء بصفتي مؤسس المنظمة غير الحكومية “مؤسسة راؤول والنبرغ الدولية” المسماة على اسم هذا الدبلوماسي السويدي الذي أنقذ حياة أكثر من مائة ألف يهودي في المجر من المحرقة النازية، بالإضافة إلى تولي الترجمة بين الإسبانية والعبرية أن بورخس لم تفته فرصة التعبير لبن غوريون عن ميله للثقافة اليهودية واعجابه بالفلاسفة اليهود.
وكان نقاد بورخس اشاروا إلى تأثره بالثقافة اليهودية وانعكاسها على كتاباته ونصوصه الشعرية، ومن بينهم الناقدة البرتغالية ليسلي دي سوزا ناسيمنتو التي بحثت في هذه الكتابات والنصوص لتخلص الى نتيجة مفادها أن بورخس طور اهتماماً عميقاً بالتقاليد اليهودية وكان يرى في الكابالا أو القبلانية، وهي معتقدات وشروحات روحانية فلسفية يهودية، كإمكانية للمقاومة والحفاظ على الذاكرة.
اثار ارتباط بورخس الشديد بالثقافة اليهودية حفيظة الكثير من مواطنيه الارجنتينيين الذين اتهموه بأنه يهودي. وبدلاً من كبح جماح مشاعره أو إخفائها، رد على منتقديه في مقال يعلن فيه عن تمنيه أن يكون يهودياً. ويفرد البرتو مانغويل فصلاً كاملاً في كتابه “فن القراءة” بعنوان “بورخس وأمنيته لو كان يهودياً” يروي فيه تفاصيل ما حدث بين بورخس ومنتقديه وذلك عام 1934.
استمر هذا الارتباط طوال حياته، وظلت الأحداث والأمثال التوراتية دائماً أبطالاً في قصائده وكتاباته. وعندما سأله الصحفي الاسرائيلي عوفيد سفير عن حضور الموضوع اليهودي في أعماله، أجاب: ربما يأتي ذلك من اكتشافي أسماء بين أسلافي مثل أسيفيدو أو بينيدو، والتي كما تعرف بالتأكيد، كانت عائلات يهودية – إسبانية. وأضاف: حتى لو كانت هذه حقيقة ليست موكدة، أريد أن أكرر ما قلته عدة مرات: من المستحيل تخيل الحضارة الغربية بدون اليهود وبدون اليونانيين. لقد بذلت قصارى جهدي لأكون يهودياً. فإذا كنا ننتمي إلى الحضارة الغربية، فكلنا، على الرغم من اختلافات الدم العديدة، يونانيون وعبرانيون. في كثير من الأحيان أفكر في نفسي كيهودي ولكني أتساءل عما إذا كان لدي الحق في فعل ذلك.
ولم يكتف بورخس بذلك بل أخذ يوسع من قناعاته متأثراً بعمق بأرض “اللبن والعسل”: بدون إسرائيل سيكون التاريخ مختلفاً. إسرائيل ليست فقط فكرة ضرورية للحضارة، إنها فكرة لا غنى عنها. لا يمكننا تخيل الثقافة بدون إسرائيل.
الصورة: بورخس على حائط المبكى.