بورخس الصهيوني (2 ـ 2)

بورخس الصهيوني (2 ـ 2)

رضا الأعرجي

“أنا جميع الكتب التي قرأتها، وجميع الأشخاص الذين قابلتهم، وجميع النساء اللواتي أحببتهن، وجميع المدن التي زرتها، وجميع أسلافي”

خورخي لويس بورخس

الكاتب لا ينفصل عن أعماله..

والكتب لا تنزل من السماء فهي مكتوبة من قبل أشخاص وضعوا فيها أفكارهم وذكرياتهم ومعتقداتهم ومصادر إلهامهم..

ومع ذلك، فإن الكاتب الذي لديه آراء متعصبة أو لا تنسجم مع بعض المعايير الأخلاقية لن يخلق دائماً عملاً سيكون بالضرورة متعصباً أو مجانباً للأخلاق ذلك أن الكتّاب ليست لديهم سيطرة كاملة على معاني أعمالهم ودلالاتها، والموضوعات الخلافية قد لا تظهر بوضوح في كتاباتهم على الرغم من مواقفهم الشخصية المعلنة.

نحن كقراء ندرك أن كل منتج ثقافي نستهلكه يحتوي على نصوص فرعية وتفسيرات تتجاوز ما كان يقصده المؤلف (ولكن قد يكون ذلك أيضاً متعمداً في بعض الأحيان) . فإذا كنا نقرأ رواية لكاتب لديه آراء مثيرة للجدل سنكون عندها شديدي اليقظة لمعرفة ما إذا كانت هذه الآراء ستظهر في الرواية، وكيف؟

القراء أحرار في انتقاد أي كاتب ولأي سبب من الأسباب، كما أنهم أحرار في اختيار عدم قراءة أي كتاب يعتقدون أن لمؤلفه مواقف مرفوضة من قبلهم، أو حثهم على مقاطعة هذا المؤلف، وبالمقابل، هناك قراء آخرون قد يختلفون وإياهم من منطلق حرية التعبير عن الأفكار ونشرها، حتى لو كانت مثيرة للجدل أو مسيئة للبعض.

والتجارب تثبت أن قمع الأفكار والمواقف المؤذية لا يقضي عليها ولن يمنعها من الانتشار والظهور بطرق أخرى، وأن جوهر الحرية أن نفكر كما نشاء، ونتحدث كما نشاء، ونكتب كما نشاء، ونقرأ كما نشاء، فلا يوجد كاتب في العالم يمكن تفصيله أو تفصيل كتاباته على مقاساتنا ووفقاً لمقاييسنا، والمقياس الذي ينبغي اعتماده والأخذ به هو الإبداع، ولا شئ آخر سوى الإبداع.

على سبيل المثال، نال الروائيان البريطاني الهندي الأصل ف. س. نايبول والنمساوي  بيتر هاندكه جائزة نوبل لأهميتهما ككاتبين متميزين بغض النظر عن مواقفهما السياسية أو الفكرية، فنايبول معروف بكراهيته للنساء والانتقاص من شأن المرأة الكاتبة عدا مواقفه المعادية للمسلمين فيما كان هاندكه من أشد المؤيدين للزعيم الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش الذي توفي داخل محبسه في لاهاي بينما كان يمثل للمحاكمة بتهم ارتكاب جرائم حرب.

وهناك ت. س. اليوت المعادي للسامية، وعزرا باوند الفاشي، لكن لا أحد من النقاد مستعداً لتجاهل أعمالهما الشعرية..

هناك بالطبع كتاب موهوبون يمكن أن يستحقوا اللوم وبورخس واحد من هؤلاء نظراً لمواقفه الصريحة المؤيدة لإسرائيل ولكن هل هذا يقلل من قيمة أعماله؟ وحتى لو لم تكن مكتوبة على ذوق الجميع وبما يوافق قناعاتهم فان من الصعب إنكار قوتها وقوة تأثيرها.

بالنسبة لي، وحسب اطلاعي على بعض ما قرأته من كتابات بورخس انتهى الأمر بي للشعور بأن تحيزاته لا تكاد تكون واضحة وضوحها في بعض حواراته بل تمنّع من الكشف عنها، فالبصيرة تجعل الكاتب حكيماً حقاً بدلاً من مجرد شخص ذكي يستطيع التسلل بتحيزاته إلى مساحات الترميز والتشفير والغموض.

وتبدو لي مواقفه من اسرائيل شخصية أكثر منها سياسية، كما أنها أقل أيديولوجية وبالتالي أقل صلة بأعماله، وعلى كثرة اهتمامه بالأديان بما فيها الإسلام والمسيحية والبوذية لم يكن متديناً أو من مرتادي الكنيسة، والمرة الوحيدة التي مارس فيها طقساً دينياً كمسيحي كانت عندما توفيت والدته، وأعترف أنني تسرعت حين وصمته بـ “الصهيوني” في حين كانت التقاليد اليهودية لا سيما التقاليد الصوفية الممثلة بالكابالا محور اهتماماته وليس اليهودية كدين، اضافة إلى اعجابه بالفلاسفة اليهود الذين تأثر بهم.

وبهذا القدر كان بورخس مهتما بالثقافة العربية الإسلامية لاسيما بالتصوف الاسلامي وبفريد الدين العطار أحد أهم شعراء المتصوفة المسلمين وكتابه “منطق الطير”، وقد دفعه افتتانه بالكتاب إلى توظيفه في حكاية “الدنو من المعتصم” التي تضمنها عمله الذائع بنفس الإسم (ترجمه للعربية الكاتب المغربي إبراهيم الخطيب) وهي تتحدث عن رحلة وهمية للبحث عن الحقيقة. ويتكرر هذا النوع من الافتتان بالتجربة الصوفية الإسلامية في العديد من النصوص البورخسية كما في قصة “الظاهر” التي وردت في كتاب “المرايا والمتاهات” بترجمة الخطيب أيضاً.

و”الألف” التي وردت ضمن الكتاب الصادر بهذا الإسم بترجمة محمد أبو العطا حكاية بورخسية أخرى تقوم على التأمل الصوفي الذي يربط هذه الحكاية بالثقافة الإسلامية وعنوانها الحرف الأول من الأبجدية العربية، حيث يرى بورخس في هذا “الألف” الكون اللامتناهي الذي يتبع نفس النظام الذي وضعه الممارس الصوفي المسلم.

والسؤال الآن: هل ينبغي إحراق بورخس؟

قبل الاجابة على هذا السؤال لابد من هذا التوضيح:

ليس كل الصهاينة يهوداً، وليس كل اليهود صهاينة..

اليهودية دين اما الصهيونية فهي حركة سياسية تضم اليهودي وغير اليهودي. وسبق للجمعية العامة للأمم المتحدة أن صوتت عام 1975 لصالح قرار يعتبر الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري..

نورمان غاري فينكلشتاين أستاذ جامعي أمريكي يهودي مختص في العلوم السياسية وهو أيضا كاتب وناشط سياسي، معروف عنه مساندته للقضية الفلسطينية وكره استخدام اليهود للمحرقة كوسيلة لجذب التعاطف العالمي والتغطية على جرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين..

في حين أعلن جو بايدن الكاثوليكي المتدين في أول خطاب له في حفل تصيبه رئيساً للولايات المتحدة: أنا صهيوني!

بورخس لم يكن صهيونياً انما كان مسيحياً منجذباً إلى الثقافة اليهودية، وهي ثقافة لم تكن سطحية ولا عابرة إذ تركت تأثيرها الجلي على الديانتين المسيحية والإسلامية، وقد عكس بورخس علاقته بها على هذا النحو: أعتقد أن تقاليدنا هي ثقافة غربية بالكامل، وأعتقد أيضاً أن لدينا حقاً في هذا التقليد، أكبر مما قد يتمتع به سكان هذه الدولة الغربية أو تلك. كما أعتقد أننا نحن الأرجنتينيين، نحن الأمريكيين الجنوبيين بشكل عام يمكننا التعامل مع جميع الموضوعات الأوروبية كأوربيين.

وليس من قبيل المصادفة أن يتحدث بورخس بهذا الشكل رغم كونه أرجنتينياً، إذ لا يمكن أن يكون الأمر غير ذلك، لأن الأرجنتين الذين يتكلمون إحدى اللغات الأوربية (الإسبانية) اعتادوا أن يعتبروا أنفسهم جيباً أوروبياً في نصف الكرة الجنوبي، وكانوا في أربعينات القرن الماضي يرون بونس آيرس هي عاصمة العالم، وتأتي باريس بعدها في المرتبة الثانية.

كان بورخس يرى نفسه مثقفاً أوربياً مندمجاً في ثقافة الغرب وليس أرجنتينياً فقط، كما يرى أن من المستحيل تخيل الحضارة الغربية بدون اليهود أو اليونانيين. وإذا كان يؤخذ عليه زيارته لإسرائيل كمثلبة فهو زار كذلك مصر والمغرب. و”جائزة القدس” التي نالها عام 1971 ليست مثلبة حتى لو عدها منتقدوه واحدة من مثالبه إذ نالها العديد من كتاب العالم مثل الفيلسوف الانجليزي برتراند رسل (1963) والكاتب المسرحي الألماني مارك فريش (1965) والكاتب المسرحي الفرنسي الروماني الأصل أوجين يونيسكو (1973) والكاتبة والفيلسوفة الفرنسية سيمون دو بوفوار (1975) وبين من نالها هناك الشاعر المكسيكي اكتافيو باث، الروائي الانجليزي غراهام غرين، الروائي الفرنسي التشيكي ميلان كونديرا، الروائي الياباني هاروكي موراكامي. وكان آخر من رست عليه الجائزة الروائية الامريكية جويس كارول أوتس.

المعضلة، اننا نميل دائماً الى اعتبار الكاتب شخصاً لطيفاً وحساساً بما يكفي للتصرف بطريقة تتناسب ومثلنا وقيمنا الأخلاقية، وأن يعبر عنها في كتاباته ومواقفه وحتى في أحاديثه اليومية، بينما لا يزال هناك الكثير مما يمكن قوله لتجاوز هذه النظرة المثالية للكتّاب عرباً كانوا أو أجانب، لأن معظمهم مثل معظم الناس مزيج مما هو مستحسن ومستهجن.

ومثلما تتطلب حياتنا الإجتماعية التعامل مع عيوب الآخرين بواقعية تتطلب حياتنا الثقافية أيضا أن نتعامل مع عيوب الكتاب على أساس واقعي وليس على أساس أنها خيانة صارخة لا تطاق.

كان ماركيز عبر عن اعتقاده أن الفكر السياسي لبورخس يتعارض تماماً مع فكره، لكنه تحدث في كتابة “كيف تكتب الرواية ومقالات أخرى” عن بورخس بما يليق بمكانته، وكيف لم يتوقف عن قراءة أعماله بذهول. كان أعجابه به فوق خلافاته الأيديولوجية، وكانت قصصه في متناول يده دائماً.

قال مرة: أرهبني بورخس كثيراً. أشعر حياله باحترام كبير ودهشة كبيرة. دائماً أقرأه. لدي كتبه على رأس السرير في أية لحظة أشاء التقط كتاباً وأقرأ قطعة كاملة. لكتاباته ميزة مهمة لأنها قطع قصيرة.ـ

الصور:
1ـ بورخس في مصر
2ـ بورخس في المغرب
Visited 14 times, 2 visit(s) today
شارك الموضوع

رضا الأعرجي

صحفي وكاتب عراقي