العودة إلى أوفلّا

العودة إلى أوفلّا

حسن عثمان

عندما يستعير المكان، أي مكان، شكل القصيدة وهندستها الماتعة، كيف لنا أن نأسره في توصيف جامد ك “المدينة” ولا نكتفي بقولنا إنه ذاك المكان القصيدة؟ أو ذاك المكان الذي يفتح شرفاتنا كل صباح ويقول: قوموا إلى حياتكم بارككم الخالق؟ ولم لا نقول عن أكادير، مثلا، إنها قصيدة في المكان وأن وزنها، في قلوب المحبين، أخف من ريشة من حمامة؟

غير أن خروج أكادير من أسر التصنيف المديني إلى تقاسيم القصائد كان فاجعا فوق حدود الاحتمال البشري، بعد أن عبرت ليلة 29 فبراير 1960 أنهارا من الدم وجبالا من ركام البيوتات المتساقطة كقلاع الرمل، ليلة ضاقت الأرض بما حملت وأزاحت أكادير عن أكتافها المرهقة، ليلة فاض الحزن وغمر ما بين الجبل والبحر. ولكن المدينة، أي مدينة، تظل آخر الأمر، مصداقا لقول باتريك غيديس، “أكثر من مكان في الفضاء لأنها مأساة في الزمان”.

الآن، وبعد اثنين وستين عاما لم تعد المدينة أسيرة ذكرياتها الحزينة، التي لم يبق منها غير الترحم على الموتى الأحباء، الذين ذهبوا ذات زلزال غافل أحلام أوفلّا (بتشديد اللام) وردها حفنة من تراب نثرها فوق أجساد خمس عشرة ألف، ممن انتهت رحلة حياتهم تلك الليلة، لأن أوفلّا التي تعني “الحصن” بالأمازيعية، لم يكن حصينا بما يكفي للوقاية من قضاء الله وقدره. ولكن، على امتداد الأسى، ثمة ذكريات لا تكف عن النزيف.

تلك الليلة، كانت إحدى الممثلات الأمريكيات تقضي عطلتها في كازابلانكا، وخطر لها أن تشاهد أحد أفلامها المعروض في إحدى الصالات، لترى كيف يتفاعل متفرج عالمثالثي مع رؤى هوليود وتوهماتها وخطاباتها المستترة والمكشوفة. فجأة أمسكت بيد زوجها وصرخت “ضرب الزلزال مدينة ما”. لم تقل إنه ضرب أكادير على بعد سبعمائة كيلومتر، ولكن الأخبار التي كانت تأتي على مهل في غياب الهواتف الذكية أكدت أن قصبة أكادير أوفلّا دفعت تلك الليلة ضريبة غضب الأرض وانفتاح الصدع البركاني. ولكن من يدري فربما عرف بعض نيام الرائين عن بعد، كما الممثلة، أن الزلزال قد بلغ باب المدينة، وأن الأسى سيكون سيد الوقت أعواما وأعمارا طويلة.

ومع أن ما أصاب أكادير لم يكن فصلا جديدا في مخطوطة كوارث الطبيعة ومآسي البشر، إلا أنها أرست معايير مغايرة للإصرار والتحدي وإرادة التجاوز، بدءا بإعادة غرس أوتادها في ذات الموقع الذي هجرته الطيور وخلدته المراثي.

ترى هل كان ايرنست هيمنغواي يشير إلى ملحمة بناء أكادير بعد الزلزال عندما رأى أن “الحياة تكسر الجميع، وأن البعض يظلون أقوياء في الأماكن المكسورة”؟

بالطبع لم تكن قصيرة أو يسيرة رحلتها من المكان/المدينة إلى المكان/القصيدة، وهي تهندس عمرانها وشوارعها/ الحدائق، وتستعيد شاطئها حيث ترسو الآن اليخوت بين رحلتين، ويتنزه القلب على إيقاع الشجن الأمازيغي البديع.

قد تكون أكادير الآن أصغر شقيقاتها المغربيات سنا، ولكن قامتها تعلو وتعلو بقدر طموحاتها في إثراء فضاءات المال والأعمال والثقافة والريادة الحداثية، بنفس من عبقرية سوس العالمة العاملة.

وإذ تذهب إليها، كلما استبد بك الشوق ورأفت بك الأحوال، ستظل تسترجع ما قاله ت.س إيليوت من أننا لن نكف عن الاستكشاف، وأننا في نهاية استكشافاتنا سنعود إلى ذات المكان الذي بدأنا منه، وسنعرف المكان لأول مرة.

Visited 6 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

حسن عثمان

صحفي وكاتب سوداني