خذ الكتاب بقوّة
علي كرزازي
” بيت بلا كتب جسد بلا روح ”
شيشرون، (فيلسوف روماني)
يحتفي المغرب بالكتاب من خلال المعرض الذي تنظمه وزارة الشباب والثقافة بالرباط، وهي العادة التي دأب المغاربة على إحيائها كل سنة، مثلهم في ذلك مثل جميع الدول عربها وعجمها. جميل أن نخصص للكتاب عيدا سنويا يلتئم فيه الكتاب والقراء والناشرون والمثقفون، وكل من لهم صلة بالكتاب، لكن ماذا عن القراءة عندنا: هل نحن شعب يقرأ؟ وهل استطعنا أن نجعل من القراءة فعلا وجوديا وطقسا يوميا، به نبني ذواتنا ونرمم ما انشرخ في دواخلنا؟ أم أن القراءة تبقى حكرا على من دُفع دفعا إلى مضايق الدراسة، في أفق الحصول على عمل أو وظيفة ليس إلا؟ هل يمكن لوزارة الثقافة أن تحدد لنا معدل القراءة عند المغاربة؟ كم كتابا يقرأون في السنة؟ وماذا عن صناعة الكتاب: تأليفا وطبعا ونشرا؟
في الحقيقة لسنا في حاجة إلى مثل هكذا إحصائيات، كي نستوعب بأننا شعب لا يقرأ والقراءة تأتي في آخر اهتماماتنا، اللهم إذا استثنينا هذه الزمرة القليلة من المثقفين التي اكتوت بجمرة القراءة، وتمكن حُبّ الكتاب من قلوبها. ومع ذلك فلا يخفى على العين عدد المكتبات التي اختفت بالقوة أو بالفعل في الكثير من مدننا، شأنها في ذلك شأن دور السينما والمسرح. وبحسب بعض الدراسات فإننا لا نتوفر في المغرب إلا على مكتبة لكل 134 ألف نسمة، بعجز يصل حسب معايير اليونسكو إلى 4 آلاف مكتبة بالمغرب، هذا عدا عن بناء المكتبات العامة توقف منذ مدة طويلة. وأصبحت المكتبة مشروعا تجاريا محكوم عليه بالفشل منذ البداية،… وبعد كل هذا نتحدث عن الكتاب والثقافة وشؤونها…
الكتاب الورقي يشبه آخر جندي لم تطاوعه نفسه كي يهرب من أرض المعركة، ولذلك فهو لا يزال مصمّما على المقاومة والصمود ولسان حاله يقول:
قال أصيحابي الفرار أم الردى قلت هما أمران أحلاهما مر.
إن الغريم الحقيقي للكتاب الورقي ليس هو الكتاب الإلكتروني، ولكنه الهاتف، هذا الذي يسمّونه بالخطأ محمولا وما هو بمحمول، إنه حامل بامتياز، حامل لصورنا وذكرياتنا وأفكارنا، وحتى لتفاهاتنا وحماقاتنا. لقد استأسد على الجميع وأصبح سيّدا مطلقا، يحملنا إلى حيث شئنا ونحمله معنا أينما حللنا وارتحلنا… كما وأن تجارته أصبحت رائجة فيما بارت تجارة الكتاب وأصابها الكساد. لن أبالغ إذا قلت: إن عددا كبيرا من منازل المغاربة يفوق فيها عدد الهواتف النقالة عدد الكتب، وبإجراء حسبة بسيطة، فإن ما ننفقه على الهواتف ولوازمها واكسسواراتها يفوق بكثير ما أنفقناه وما سننفقه على الكتب طيلة حياتنا. إن سعر الواحد من هذه الهواتف التي تنعت بالذكية يفوق ثلاثة آلاف درهم. والسؤال الذي نثيره ها هنا: ماذا لو أن كل أسرة أنفقت مثل هذا المبلغ في تأثيث مكتبة وتزويدها بالكتب. عفوا لقد قلت آنفا: إننا شعب لا يقرأ. فالواحد منا حينما يضع تصميما لمنزله لا يُفرد لما يسمّى المكتبة ولو مترا واحدا من مساحة منزله ذاك، وبالمقابل تراه حريصا على ضمان وجود مكان فسيح للمطبخ والصالون، أي كل ما له صلة بالأكل والنوم. وليس بمستغرب أن تنجح في بلادنا المشاريع المرتبطة بالمطاعم والمقاهي والملاهي… ولا أدل على ذلك من أن الأجيال الحالية من شبابنا استعاضت عن معرفة أمهات الكتب بمعرفة قاموس الأكلات الغربية fast Food والألعاب الالكترونية.
إجمالا، لن نجافي الحقيقة إذا قلنا بأنه ليست لدينا تقاليد في القراءة، أو بالأحرى لم يعد لدينا وقت للقراءة، ما دامت القراءة في عرف الكثيرين وخاصة منهم الشباب، ليست إلا مضيعة للوقت. هذا في الوقت الذي استحكمت فيه قبضة تكنولوجيا الاتصالات، فلم يعد أحد يعكف على قراءة كتاب لساعات طويلة، وهو الذي يكتفي بنقرات بسيطة كي يلف العالم عبر الصوت والصورة وبأقل كلفة. ويكفي في هذا الصدد أن نعرف أن المغرب احتلّ – حسب تقرير ” بيرلز” الدولي المخصص لقياس مدى تقدم القراءة في العالم – المرتبة الأخيرة على مستوى القراءة، بمعدل 310 نقطة، بينما المعدل الدولي يتحدد في 500 نقطة، وهذا ما يفسّر انحسار عدد قراء الكتاب الورقي، وحتى قراء المجلات والجرائد، بحيث إن مبيعات الجريدة الأكثر قراءة لا تتجاوز 90 ألف نسخة يوميا، أما غالبية الجرائد فلا تتعدى نسبة قراءتها عتبة 379 نسخة يوميا. والحقيقة أن المغرب لا يشكل الاستثناء في وطننا العربي الممتد، إذ تشير الإحصائيات إلى أن العرب أقل أمة تقرأ، إذ نجد أن ربع سكان العالم العربي، نادرا ما يقرأون كتبا. ويحتل الكتاب في محرك جوجل google المرتبة 153 في ترتيب اهتمامات الإنسان العربي، فيما تتصدر الرياضة والجنس والأغاني والطبخ والحوادث/ الفضائح أولوياته على مستوى البحث..
و بإجراء مقارنة بسيطة مع الدول الغربية، نسجّل أن الدول العربية مجتمعة لا تُصدِر سوى 5000 كتاب سنويا، بينما تُصْدر أمريكا لوحدها ما يزيد على 290 ألف كتاب جديد في السنة، وهو ما يعكس عزوف العربي عن القراءة فكل 20 عربي يقرأ كتابا واحدا في السنة، بينما يقرأ الأوروبي 7 كتب في العام، ممّا ينعكس حُكمًا على معدل القراءة عندنا، فالعربي يبلغ معدل قراءته 6 دقائق في السنة مقابل 36 ساعة للإنسان الغربي.
بناء على ما سبق، يتضح أننا في حاجة اليوم وأكثر من أي وقت مضى إلى رسم سياسة جديدة على مستوى تسيير الشأن الثقافي ببلادنا، تتوخى إيجاد حل جذري لأزمة الكتاب الناجمة عن أزمة القراءة، هذه الأخيرة التي تعد واحدة من أعطاب منظومتنا التربوية والتعليمية ككل، ولنكن صرحاء مع أنفسنا ونعترف بأنه يلزمُنا وقت طويل كي نتصالح مع الكتاب، ذلك التصالح الذي لن يتم إلا من خلال تصالحنا مع ذاتنا وحضارتنا التي تأسست على فعل القراءة، وكذلك مع تاريخنا المجيد الذي أنجب قامات كبرى كانت تدرك أهمية القراءة وجلال الكتاب. ألم يقل المتنبي:
وخير مكان في الدنا ظهر سابح وخير جليس في الزمان كتاب.