جرائم الحرب ضد النساء اللبنانيات والاغتصاب الممنهج … من تجرؤ على الاعتراف والمحاسبة؟
فاطمة حوحو
ليس من السهل على اللبنانيين في أزماتهم الراهنة، التي زادت تعقيدا باكتوائهم بنار الجحيم الذي يعيشيون فيه، إعادتهم الى مآسي ماضي الحرب الأهلية، وإستذكار أحداث ومجازر ارتكبت لم تمح آثارها بعد.
أشارت صحيفة “الغارديان” البريطانية إلى تقرير وضعته جمعية الحركة القانونية العالمية (LAW) وهيئة الأمم المتحدة للمرأة، وجاء تحت عنوان “اغتصبونا بجميع الطرق الممكنة بطرقٍ لا يمكن تصوّرها: جرائم النوع الاجتماعي خلال الحرب الأهلية اللبنانية”، موردة شهادة إحدى النساء، التي تقول فيها إنها شهدت اغتصاب الفتيات في “كفرمتى”، حيث كانت تعيش عام 1982. وكانت القرية مسرحا للمذبحة المشهورة للمدنيين الدروز .
وتضيف: “اعتادوا على ربط الأب والأخ وجعلهم يشاهدون الفتيات يتعرضن للاغتصاب”، مضيفة أنه نظرا لأن الاغتصاب كان يعتبر عارا على الأسرة، فغالبا ما يتم نبذ النساء والفتيات إذا تحدثن عن تجاربهن.
لقد أثارت هذه الشهادة تساؤلات عدة من قبل أهالي “كفرمتى” الذين بحسبهم يريدون الحفاظ على العيش المشترك اليوم في البلدة التي شهدت نزاعا طائفيا، وتعزيز المصالحة الأهلية، ولكن بما أن الموضوع له حساسية كبيرة، كونه يعني النساء بالدرجة الأولى، فهو مرتبط بمفهوم “العرض”، قد يكون السكوت عن عمليات العنف الجنسي والاغتصاب الذي تعرضت له النساء اللبنانيات خلال الحرب أمر ليس مستغربا في مجتمع عانى من الصراعات الطائفية، خصوصا وأن العائلات والضحايا أنفسهن يسعين إلى السترة، وليس الكشف عن المعاناة، لذا كان السكوت سائدا، ما قبل انتشار ثقافة العلنية والمجاهرة بتعرض النساء للعنف، سواء خلال الحرب او قبلها وما بعدها، فالعنف مرتبط بالمقاهيم الاجتماعية والدينية، وبانعدام القوانين التي تحمي حقوق الانسان، لا سيما حقوق النساء، نتيجة عدم مساواتهن مع الرجال. أما اليوم فيبدو أن الفرصة سنحت من أجل الكشف عن الخفايا، وإن حاول البعض التستر عليها.
هل يستر النسيان العنف؟
أثناء محاولتي معرفة صحة ما ورد في التقرير المعني، بشأن ما ورد عن اغتصاب ممنهج لنساء لبنانيات أثناء الحرب، وذلك بالتواصل مع بعض الأهالي الذين عرفتهم شخصيا، وكنت بصفتي صحفية شاهدة على تبعات ما سمي في حينه مجزرة كفرمتى في العام 1983، لا أتذكر أن من قابلتهم لدى “تحرير منطقة الشحار الغربي” بحسب تعبير ذلك الزمن، تحدثوا عن عمليات اغتصاب للنساء، بل تكلموا عن توقيف وحجز مجموعة كبيرة، من بينهم شيوخ ونساء وأطفال، عانوا من عنف ممارسات العناصر الميليشاوية، سواء بالضرب والإذلال والتجويع والعطش. وهو ما يؤكده صديق رافقني في جولتي آنذاك، نافيا ما أورده التقرير: “هذا الخبر غير صحيح، أنا تابعت تفاصيل التقرير بدقة. الاغتصاب أمر لم يحصل، هناك أشخاص ماتوا من العطش وهم محتجزين، هذا أقسى موقف واجهوه”.
وينصحني صديقي بعدم تناول الموضوع، قائلا: “هذا موضوع حساس جدا، أنا عايشت مرحلة الحرب، وكنت من اللاعبين الأساسيين في عمليات ترتيب عودة المهجرين. وأثناء بحث موضوع العودة وضعت شروط عديدة، حتى أنه وصلنا إلى قرار إن أي شخص ارتكب جرائم قتل في كفرمتى، ممنوع عليه أن يرجع، فكم بالحري لو أن ذلك الموضوع الذي يحكى عنه قد حصل”.
وباعتباره أن إثارة مثل هذا الموضوع في هذه المرحلة نكأً للجراح، ويخلق جوا سلبيا، وسواء كان هناك نفيا له أو تأكيدا فهذا يعني “بلغوصة”.
ويعتبر صديق آخر ان للبعض نوايا خبيثة بإثارة مثل هذا الموضوع، ويقول: “جميع من تم اعتقالهن تزوجن وأنجبن بل وأصبحن جدات ربما، ويعشن حياة طبيعية، وأنا أعرفهن شخصيا، وقد استغربن ما ورد في هذا التقرير”. ويشير إلى أن من قدمت شهادتها تركت المنطقة منذ زمن طويل، ولا يعرفها أحد هنا”.
الضجيج الذي أحدثه إطلاق التقرير هدف إلى التعامل مع الماضي ليبقى ذكرى للمستقبل. وهو تحدث عن مخفيات الحرب الأهلية والتستر على جرائم إنسانية حصلت ولم يحاسب مرتكبوها وفقا لقانون العفو عن جرائم الحرب الصادر في العام 1991 بعيد الطائف الذي أرسى السلم الأهلي.
شهادات مروعة
وقد أورد التقرير شهادات مؤلمة، إذ يقول رجل سبعيني: “أثناء فرارنا من منزلنا سمعنا اِمراة تصرخ، كانت مستلقية على الأرض ويقوم رجل باغتصابها. وقد ّشوه فمها بطريقة وحشية. وأوقفت عائلتها عند الحائط ثم أردوها قتيلة واختطفوا أحد أطفالها”.
وتقول إحدى الضحايا: “أجبرت على خلع حجابي وصعقوا حلمتي بالكهرباء. كانت المسؤولات يعذبنني بإجباري على الركوع على الصخور، وهدد مسؤولون باغتصابي، لمسوا ثديي وأعضائي التناسلية، وعندما كنت في الدورة الشهرية ضربوني على بطني، وقالوا إنهم لا يريدون لي أن ألد”.
واوضحت أخرى في الـ 75من عمرها: “رأيت حوالي 19 فتاة تتراوح أعمارهن بين 9 و15 سنة يتم اصطحابهن اإلى الخيم، كُنّ في حالة لا يمكن وصفها، ملابسهن وأرجلهن ملطخة بالدم. تعرضن للاغتصاب بواسطة القوارير، رأيت رجلا يبكي، أخبرني بأن اِثنتين منهن ابنتاه، وبأن الصغرى ماتت. لقد تم اغتصابها بواسطة قارورة انكسرت بداخلها”.
وشاهدت إحداهن “خمس فتيات يتدلين من الأشجار، كنّ من العائلة نفسها… اغتصبن ثم علقن على الأشجار”.
وأعترفت أخرى: “كانوا يربطون الفتاة بسيارات، ويقودونها أحيانا في اتجاه معاكس. رأيت فتاة ماتت بعد أن فعلوا ذلك بها. كانت تبلغ من العمر 12 أو 13 عاما”.
وروت إحداهن: “كان القناصون يطلقون النار على الأشخاص الذين يذهبون إلى البئر لإحضار الماء، ذهبت مرةً باتجاه البئر، كانت هناك امرأة حامل تريد الحصول على الماء أصيبت برصاصة وسقطت في البئر،. انت من المخيم. ولم نعد نشرب من البئر بسبب الجثة التي بداخلها”.
وقال أكاديمي: “ألقوا بالأطفال في الهواء وأطلقوا النار عليهم أمام أمهاتهم، ثم اغتصبوا الأمهات وقتلوهن”.
***
ويشير التقرير إلى أن النساء والفتيات اضطررن إلى ممارسة الجنس، أو إقامة علاقات جنسية مع مسلحين من الميليشيات الموالية للدولة وتلك غير الموالية للدولة، مقابل الغذاء أو الحماية، كما تم إنشاء شبكات دعارة لفائدة رجال الميليشيات
معظم هذه الجرائم المرتكبة حصلت أثناء المجازر وخلال فترات الحصار، وعند الحواجز وفي الشوارع، وكانت أغلبيتها تقع في الليل عندما يقتحم مقاتلون أماكن من غير المناطق التي ينتمون إليها.
البزري: بين الحقيقة والمغالاة
وضعت الباحثة دلال البزري كتاباتها عن الحرب اللبنانية، ومنها مؤلفها الذي بعنوان “سنوات السعادة الثورية”، وهي تعكس فيه تجربة الشباب اللبناني، مع اندفاعهم نحو اليسار خلال الحرب الأهلية، وتقول لـنا إنها لم تسمع عن حصول عمليات اغتصاب للنساء خلال انغماسها تلك الفترة بالعمل السياسي والتنظيمي، سواء عبر الإعلام أو من المحيط أو شخصيا، مؤكدة: “لم يكن يجر الحديث أبدا عن هذا الموضوع، أو كان هناك كلام عن حوادث حصلت وتم ذكرها، هناك كثير من الأشخاص كانوا يتعجبون ويتكلمون، ويمكن عن جهل، عن إطراء المجتمع اللبناني، لكونه خلال الحرب، ومع كل المعاناة التي عاناها اللبنانيون من انهيار الدولة وانتشار الميليشيات، لم تحصل عمليات اغتصاب، وكانوا يحيلون السبب إلى أن الطوائف كانت تحمي نساءها، ولا أعرف ما إذا كان هذا التفسير صحيحا أم لا، بناء عليه هل كان هناك اغتصاب أم لم يكن واردا في الذهن، لأن ثقافة إدانة العنف الجنسي، من تحرش واغتصاب، لم تكن موجودة في ذلك الوقت، واذا كانت موجودة فهي كانت خافتة”.
وترى البزري إنه مع كل إيجابيات حملة “مي تو”، التي انطلقت من أميركا ضد العنف الجنسي والتحرش والاغتصاب بشكل أساسي، لا سيما في أماكن العمل والأماكن التي كانت فيها شروط الضغط متوفرة ضد النساء، إذ تم رفع الصوت عاليا بعد الصمت، ولكن كان هناك نوع من المغالاة، أو من أخذ الثأر، أو لفت النظر والانتباه، أو مواءمة الموضة، لمن اعتقد أنها كذلك، أو مجرد مواءمة الصواب السياسي، ومن هنا لا يجب الكلام عن هذا الموضوع بما يتجاوز الدقة والموضوعية، أي الغلو في الموضوع”.
وبحسبها، إنه “كلما طرح موضوع الاغتصاب يأتي إلى ذهني سؤال هل هناك وثائق وشهادات تدل على حدوثه، وهل الاغتصاب لم يكن موجودا في المجتمع ونشأ بفعل الحرب، أو زاد بعدها، أم إن الاغتصاب كان مقتصرا على الجيوش الغابرة أثناء الغزو فقط، ولم يدخل في قلب العائلة بين الأب وابنته والاخ وأخته … إلخ”.
وداد يونس: الحفر في الجراح
أما المحامية وداد يونس، وهي ناشطة في المجتمع المدني، فتشير إلى أن اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية في العام 1989، وأقر المصالحات الوطنية، كما قام المجلس النيابي في العام 1991 بإصدار قانون العفو العام، الذي بموجبه لا تحصل مقاضاة كل جرائم الحرب، ولا مساءلة حول انتهاكات حقوق الانسان خلالها. وقد أصدر مجلس النواب اللبناني في تشرين الثاني- نوفمبر 2018 قانونا أقر بإنشاء هيئة وطنية مستقلة مهمتها التحقيق في مصير مهمة إنسانية للتحقيق في مصير مفقودين أو مختفين قسرا”.
وتلاحظ أن إثارة الموضوع في هذا الوقت قد يكون له اهداف سياسية، متخوفة من يكون تناوله اليوم مشروع فتنة جديد، وتقول: “في كل الحروب بالعالم حصلت عمليات عنف ضد النساء، لكن إثارة هذا الموضوع في هذا الوقت حفر في الجراح التي لم تندمل بعد، يمكن إن الشهادات التي قدمت أن تكون صحيحة، كل القوى السياسية عبر ميليشياتها، والقوى النظامية أحيانا، مارست أشكالا من العنف ويمكن الاغتصاب في الحرب التي دارت، لكن هذا الموضوع في لبنان من الصعب إثارته، في ظل النظرة الاجتماعية لمن قد يكن قد تعرضن لهذا الفعل، ولا معنى لأي حديث يفضح ما حصل في الماضي ويتسبب بمشكلة في الحاضر”.
وتشير الى أن “الاغتصاب في المجتمعات موجود وهو يحصل في البيوت، ونسمع كثيرا عن سِفاح القربى لكن من دون رفع الصوت ومحاربته”.
وداد حلواني: الدولة مغتصبة والعدالة مسروقة
من جهتها، تلاحظ رئيسة “لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان” وداد حلواني، الفورة الإعلامية منذ اطلاق التقرير في بيت بيروت، حول ما تناوله التقرير”، معتبرة أن على “الاعلام عدم تناوله فقط في المناسبة ونسيانه بعد ذلك، بل لعب دور تثقيفي ولا اشعر انه يقوم به، و”الهيصة” الحاصلة حاليا ستنتهي دون متابعة حقيقية ودون عقاب، ثم ان البلد كله مغتصب والعدالة مسروقة. وكل يوم هناك ضحايا جديدة، هناك اغتصاب ومفقودين في البحر وهناك ضحايا المرفأ وهناك مخطوفي الحرب وكل هذه الجرائم تمر دون محاسبة”.
وعن إمكانية معاقبة المغتصبين تقول حلواني: “لا يوجد محاسبة اليوم ولا اي فعل اجرام تم بالحرب جرت المحاسبة عليه، ووصلنا لمرحلة ان البلد كله مغتصب، واللبنانيون يهجرون وطنهم، لا يوجد محاسبة على اي جريمة ارتكبت بالحرب ولم تحصل مساءلة او حتى يجري الكشف عنها والدليل ان قضية المفقودين ما تزال تجرجر حتى اليوم، صحيح عملنا انجاز وطلع قانون من 4 سنوات ولكن ما زالت الهيئة الوطنية التي تشكلت بموجب هذا القانون غير فعالة، ولم تعط لها اي صلاحيات ينص عليها القانون لتنفيذ مهمتها وبذلك جرى فرملة عملها منذ ولادتها، ونحن نرى ان الحرب لم تنته بل جمدت مؤقتا، وهي مستمرة لأن كل قيم وثقافة الحرب ما تزال قائمة وخير مثال على ذلك تفجير مرفأ بيروت، فهم أوقفوا عمل القضاء وكأن التحقيق في الجريمة ممنوع، وعندما تجري المطالبة بالعدالة يهددونا بالحرب”.
وتساءلت “عما اذا كانت المغتصبات يعرفن الفاعلين ليتابعن القضية، ويجب تحفيزهن على ذلك، يعني الحصول على العدالة ولو بالحد الادنى”.
فاطمة شحادة: الضحايا يردن الاعتراف والاعتذار
وردا على التشكيك بما ورد في التقرير، تقول مديرة برنامج لبنان في LAW المحامية فاطمة شحادة، أنه “تم اتباع منهجية صارمة، في تقصي حالات العنف الجنسي، حيث لا يتوفر مصدر ثان مستقل للمعلومات، وقبلت LAW الشهادة المباشرة للضحية ـــ الناجية بما يتماشى مع ملاحظات المحاورين الخاصة. خلافًا لذلك، اعتبرت LAW أن الحالة أو الحادث تم إثباته، عندما حصلت على رواية مباشرة لثلاثة من شهود العيان أو الضحايا، والتي اعتبرت أنها ذات مصداقية ومتسقة مع ما كان معروفًا عن الحادث أو الأنماط الثابتة للحوادث المماثلة في المنطقة، وبما يتوافق مع ملاحظات المحاور الخاصة”.
وتؤكد “قمنا بمراجعة 44 وثيقة ذات صلة، و36 مقابلة مع ضحايا وشهود عيان وشهود من مواقع جغرافية مختلفة وسجلنا اعترافات وأجريت ست مناقشات جماعية مركزة مع 59 امرأة، كما أجري 150 استبيانًا كميًا عبر الإنترنت كما أجرينا مقابلات مع 23 خبيرًا بما في ذلك الأكاديميين والصحفيين والمحامين وعلماء النفس”.
وعما كيفية المتابعة لمعاقبة الفاعلين أجابت شحادة: “في الواقع، هذا يعود إلى الضحايا والناجيات أنفسهن. ما فعلته LAW هو وضع الحقائق من تحقيقها الأولي ولكن يمكنني أن أقول ما يلي، هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها الكشف عن حجم ونطاق العنف الجنسي خلال الحروب الأهلية اللبنانية، بما في ذلك الاغتصاب والاغتصاب الجماعي. وقد تم ارتكاب هذه الجرائم كأسلوب من أساليب الحرب، وتم تنفيذ الجرائم الجنسانية بطريقة منهجية من أجل ترهيب الضحايا وفضحهن وإذلالهن وإضعافهن وإيذائهن جسديًا وعاطفيًا”، معربة عن إعتقادها بأن الضحايا يريدن الحقيقة يردن الاعتذار والاعتراف. وهذا التقرير هو الخطوة الأولى نحو العدالة، وهو بمثابة نقطة انطلاق للمرحلة التالية التي نأمل أن تكشف الحقيقة وتعتذر الحكومة”.