ثنائيات مستحيلة
عز الدين العلام
كثُر الحديث عن الثنائيات التي يكون فيها “الإسلام” طرفا: الإسلام والاشتراكية، الإسلام والديموقراطية، الإسلام والرأسمالية، بل وحتّى الإسلام والعلم، الإسلام والطب… وقس على ذلك. ودونما طرح السؤال الجوهري عن الأسباب والدواعي التي تجعل الإسلام حاضرا بشكل مثير للاستغراب في كل كبيرة وصغيرة، ومعيارا واحدا وحيدا تُقاس عليه كلّ شؤون الدنيا والآخرة، فإنّي أعتقد، والحديث هنا يخصّ ثنائية الإسلام والليبرالية (أو لنقل تبسيطا، الإسلام والحرية)، أنّ مفهوم الإسلام، مهما تعدّدت تجلّياته، وسواء نظرنا إليه من خلال نصوصه التأسيسية (القرآن الكريم والحديث النبوي)، أو كتراث سياسي خلّفه لنا فقهاء وأدباء ومؤرخون، أو نظرنا إليه كوقائع تاريخية عاينتها الحضارة العربية الإسلامية، مشرقا ومغربا، فإنّ النتيجة تكون واحدة، وهي التعارض الجذري مع القيم الليبرالية.
فعلى مستوى النصوص التأسيسية، يمكن الإقرار باستحالة المقارنة أصلا بين مفهومين متباعدين. إذ الإسلام دين، والليبرالية مذهب وفلسفة. يكفي تصفّح التاريخ الفكري الليبرالي (من لوك وموننتسكيو إلى سبنسر ومن عقبهم…) ليتبيّن لنا استحالة الرّبط بين كلّ هذه الإنتاجات الفكرية المدافعة عن الحرية والمنفعة والفرد والمصلحة… وبين النصين، القرآني والنبوي، المبنيين على أسس مغايرة تماما. وكيف يتسنّى لنا الجمع بين خطاب ديني بكلّ أبعاده الرمزية والروحية، وخطابات ذات الطبيعة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
والواقع أنّ الهدف من هذا “الجمْع” الذي لا يجتمع، لا يتعدّى البرهنة اللفظية عبر استشهادات من نصوص دينية، على أنّ الليبرالية، بل وربّما كلّ المذاهب السياسية الحديثة، تأسّست مع مجيء الإسلام، وأنّ كل الاجتهادات الفكرية الإنسانية، لا تعدو أن تكون سوى استخراج للحكمة من أصولها، وأصل الأصول طبعا هو الإسلام وليس غيره!
ليس هناك أدنى علاقة (اللهم إلاّ بليّ عنق النصوص)، يمكن أن تربط التصوّرات الليبيرالية مع كل المنتوج الفكري السياسي الإسلامي. وكيف يمكن لتصورات سياسية تقوم على طاعة أولي الأمر، واستبداد الراعي بالرعية، ومبدأ التملّك الذي يجمع الحاكم بالمحكوم، أن تتماشى مع مبادئ الحرية والفردانية والدولة الحيادية وحرية الاعتقاد التي يقوم عليها الفكر الليبرالي.
لو أخذنا بعين الاعتبار الوقائع التي صاحبت ميلاد الليبرالية، من صراعات اجتماعية، وإصلاحات سياسية، وخلق مجالس تمثيلية، وتوسيع الدائرة الانتخابية… لاتّضح بما لا يدع مجالا للشّك، بُعد المسافة مع الصورة التي تقدمها لنا الدولة المسّماة “إسلامية” باعتبارها استبدادا سلطانيا لا يحتمل المعارضة، ولا قيم الحرية والفردانية، وهي الأسس التي لا يمكن تصور الليبرالية في غيابها.
إنّ الليبرالية جزء لا يتجزّأ من منظومة قيم شاملة تقوم على ثلاثة أسس هي الاقتصاد (الملكية والثروة والمنفعة والدولة الدركية)، والسياسة (الحكومة التمثيلية ونفي استبداد الدولة أو الأغلبية)، والثقافة (التسامح والتوافق). وهذه طبعا هي الأسس التي قامت عليها الدولة الحديثة. وفي الغياب الواضح لهذه الأسس على مستوى الواقع السياسي العربي-الإسلامي، ماضيا وراهنا، لا يسع المرء إلاّ التساؤل عن سرّ الجمع بين هذين المفهومين، لا أقول المختلفين، ولكن المتعارضين تماما…
والحال هذه، كيف لنا أن نوافق بين الليبرالية والإسلام، خاصة حين يتعلق الأمر بقضايا تهمّ المرأة وحرية الاعتقاد ووضع الأقليات وحرية الإبداع الأدبي والفني؟
كلّ هذه القضايا التي أثرتها، هي بالضبط القضايا الشائكة التي يصعب، دون ليّ عنق النصوص، إيجاد التوافقات الممكنة حولها. ألا يكفي أن تقارن بين جغرافية “الإسلام” وجغرافية “اضطهاد المرأة” لنجد الجواب، ناهيك أنّ مجمل مسار التاريخ الإسلامي، والوقائع تثبت ذلك، يبرز أنّ المرأة، كانت، بل ولا زالت، في وضعية دون الرجل. يقولون إنّ الإسلام حرّرها مقارنة مع ما كانت عليه قبل الإسلام، وأقرّ لها حقوقا عدّة. غير أن هذه الحقوق المقرّرة على علاّتها، ولنعد لما دوّنه الفقهاء في شأنها، أصبحت متجاوزة أمام حجم التغيرات التي نعيشها اليوم.
أما عن حرية الاعتقاد، فعلينا ألا نغالط أنفسنا. لنفتح صفحات التاريخ لنرى مصير من كانت “الزندقة” تهمته، ولنستقصي ما دوّنه الفقهاء لنعرف حكم “المرتد”، أي من أراد ممارسة حرية تدينه. والواقع أنه لا أدري لماذا نحن مختلفون (بالمعنى السلبي) عن سائر المعمور. إننا نسمع كثيرا عن عدد من “الغربيين” المشهورين، بدءا من المغني المعروف “كات ستيفنس” إلى المفكر التّائه “روجيه غارودي”، وغيرهم ممّن “ارتدّوا” عن دينهم، ودخلوا غانمين إلى “دولارات” الإسلام “النفطي”. فبالله عليكم، هل سمعتم يوما أن إحدى “الكنائس” أو “البابا” بوصفه أعلى سلطة دينية، أصدر بيانا مندّدا في حق هؤلاء، أو أمر بمحاكمتهم، وبالأحرى الإفتاء بقتلهم، كما جاء في حكم “المرتد”! فما بالنا نصرخ ونزعق حينما يعلن هذا الشاب المهمّش، أو ذاك، في بلد عربي ما اعتناقه للمسيحية! وكم هو أمر ذو دلالة حينما تضع بعض الديانات الأسيوية شروطا تعجيزية للالتحاق بها، ولا تضع أدنى شرط حال مغادرتها، إذ لا معنى عند أصحابها أن تُحسب عليهم، وأنت غير مقتنع بديانتهم، ولا قادر على مستلزماتها …
لا أريد أن أطيل في هذا الباب، وأكتفي فيما يخصّ حرية الإبداع بالإحالة على النهاية المأساوية لعدد من الفلاسفة والأدباء والشعراء قديما، وما وقع لعلي عبد الرازق وطه حسين وجلال العظم ونصر أبو زيد وفرج فودة ومحمد شكري، واللائحة طويلة …
المنطلق والمنتهى في تصوري هو الحرية والحق ومصلحة عباد الله، وليس، ولا ينبغي أن يكون، نصوصا ميتة تكتم أنفاسنا إلى الأبد. إنّ التشبث بمثل هذه المقارنات، إنّما يبطن سؤال الإسلام الراهن، وما يطرحه من ضرورة نقد الفكر الديني. وهذه ملاحظة تنطبق أساسا على كل أولئك الذين يُجهدون أنفسهم لإيجاد علاقة ما بين الإسلام والديموقراطية والاشتراكية، بل والعلم والقانون والحريات العامة…