غرب بيلاروسيا وغرب أوكرانيا وكيف انتزعت من الاتحاد السوفييتي

غرب بيلاروسيا وغرب أوكرانيا وكيف انتزعت من الاتحاد السوفييتي

د. زياد منصور

تتزايد في هذه الأيام حدة الخطابات السياسية حول الحرب الأوكرانية-الروسية، ويتم استحضار محطات تاريخية يقوم بعضها على مسح الوقائع التاريخية، ويستخدم بعضها بهدف الإشارة إلى أن روسيا الطامعة تحتل أرضاً غريبة عنها، وتمارس فعل الاحتلال لدولة ذات سيادة. 

لكن التاريخ يدحض الكثير من هذه الترهات والتي تظهر أن جزءاً كبيراً من أوكرانيا وبيلاروسيا قد انتزع من روسيا والدولة السوفييتية انتزاعا إثر حروب واتفاقيات مذلة فرضتها الظروف وضعف الدولة السوفييتية الفتية آنذاك. 

انتهت الحرب البولندية-الروسية قبل حوالي مئة عام ونيف بتوقيع معاهدة ريغا للسلام، والتي ربما كانت لن تحدث. لقد كان البلاشفة فيما يتعلق ببولندا آنذاك أكثر مرونة، وكانوا يتطلعون إلى حل القضايا الخلافية على طاولة المفاوضات. لكن الزعيم البولندي جوزيف بيلسودسكي أحبط هذه المحاولات، إذ كانت لديه خطط جيوسياسية طموحة، حاول الأخير حينها أن يعلن عن إعادة إنشاء الكومنولث الليتواني البولندي، وهو دولة سابقة تشكلت بعد اتحاد لوبلين بين مملكة بولندا ودوقية ليتوانيا في 1569، أو ما يسمى بالريتزبوسبوليتا (Rzeczpospolita). 

ظهرت بولندا على الخريطة السياسية للعالم فور انتهاء الحرب العالمية الأولى. 

أثار سهولة الحصول على الدولة حالة من النشوة لدى بعض الرؤساء مثل بيلسودسكي وغيرهم من السياسيين، فسارعوا على الفور لدفع حدود بولندا في جميع الاتجاهات. نشأت الخلافات الإقليمية بين البولنديين ليس فقط مع الألمان، ولكن أيضًا مع تشيكوسلوفاكيا – بسبب منطقة تيشين، مع ليتوانيا – بسبب منطقة فيلنو، مع جمهورية أوكرانيا الشعبية – بسبب لفوف، وغاليسيا الشرقية، منطقة خولم وغرب فولين. 

على الرغم من أن بيلسودسكي شن حربًا ضد روسيا، إلا أن بعض المؤرخين البولنديين وصف البلاشفة بالمعتدين – المارقين، في إشارة إلى أن الجيش الأحمر وصل في أب- غشت 1920 إلى وارسو. كل شيء بدأ في تشرين الثاني 1918، وصولاً إلى شهر آذار 1919، إذ توجهت موسكو إلى وارسو وبعشرات المرات ودون جدوى باقتراح إقامة علاقات طبيعية بين الدولتين. اعتبر بيلسودسكي الأمر علامة ضعف. 

في ربيع عام 1919، استولت القوات البولندية المجهزة بالسلاح من قبل الحلفاء على كوفيل، بريست ليتوفسك، سلونيم، بينسك وغيرها من المدن الأوكرانية والبيلاروسية والليتوانية. كان على الجيش الأحمر، الذي كان يقاتل في شرق البلاد ضد جيوش الأدميرال ألكسندر كولتشاك، وفي الجنوب ضد قوات الجنرال أنطون دينيكين، القتال ضد البولنديين. قبل 100 عام، كما اليوم، كان البولنديون مقتنعون بأنهم أكثر ثقافة وحضارة من جيرانهم الشرقيين. 

حول هذا، اتحدت النخبة البولندية. قام منافس بيلسودسكي منذ فترة طويلة، زعيم الديموقراطيين الوطنيين رومان دموفسكي، بتمجيد “الإمكانات الحضارية لشعب عظيم” واعتبر العنصر الاثني البولندي في الأراضي الليتوانية والبيلاروسية والأوكرانية “القوة الحضارية المهيمنة والوحيدة القادرة على الانتظام السياسي “.

 ورغم هذه الصيغ الرنانة اقتحمت القوات البولندية فيلنو في 19 نيسان. من المهم أنه في تشرين الأول 1919، وفي ذروة المواجهة بين البيض والحمر، عندما كانت قوات الجنرال نيكولاي يودينيتش تتقدم في ضواحي بتروغراد، وكانت قوات دينيكين تندفع إلى تولا، كان البولنديون غير نشطين. لكنهم أصبحوا أكثر نشاطًا في بداية عام 1920، عندما أصبح من الواضح أن البلاشفة سينتصرون في الحرب الأهلية. 

في 7 أيار- ماي، احتل البولنديون كييف، التي انسحب منها الجيش الأحمر دون قتال.  وفي عاصمة “أم المدن الروسية” كييف، أقيم استعراض للقوات البولندية وقوات بيتليورا (جيش جمهورية أوكرانيا الشعبية – القوميين الأوكران). 

لم يحالف الحظ مدينة بوريسوف. ففي نهاية شهر أيار – ماي، قصف مسلحون بولنديون المدينة بقذائف حارقة وكيماوية لمدة يومين. دمرت المدينة بالكامل تقريبًا، وقتل حوالي خمسمائة مدني، وشرد 10 آلاف شخص.

 أرسلت الحكومة السوفيتية مذكرة حول هذه الجريمة في 2 حزيران – يونيو 1920، توجهت بها إلى حكومات بريطانيا العظمى وفرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة. فجاء رد الفعل وكأن شيئاً لم يكن. طارد الجيش الأحمر البولنديين إلى وارسو. ولإيقاف هروب القوات البولندية، استخدم بيلسودسكي مفارز أجنبية وغريبة، كما هبّ لنجدة الأخير الحرس الأبيض.

 في 25 تموز، شنت قوات بيتر رانجل هجومًا من أجل هزيمة تجمع القوات السوفيتية في منطقة أوريخوف والاستيلاء على ألكساندروفسك (زابوروجيه الآن) وإيكاترينوسلاف (دنيبروبيتروفسك الآن).

 في 2 آب – غشت، استولى البيض على ألكساندروفسك. كانت هذه طعنة في الظهر، ومفاجأة غير سارة لجيوش الجبهتين الغربية والجنوبية الغربية للجيش الأحمر الذين اقتحموا وارسو ولفوف. في 19 آب – غشت، قرر المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي الروسي (ب) الاعتراف بـ “جبهة رانجل باعتبارها الجبهة الرئيسية”. 

عندها حدثت “المعجزة على نهر فيستولا” وهو اعتبر عاراً للجيش الأحمر ما سمي بمعركة وارسو 1919 -1921، والتي تمكنت فيها بولندا من وقف تقدم الجيش الأحمر وتحقيق نقطة تحول في مسار الحرب. أدت نتيجة معركة وارسو إلى الحفاظ على استقلال بولندا. وفقًا لمعاهدة ريغا، تم التنازل عن أراضي شاسعة من غرب أوكرانيا وغرب بيلاروسيا إلى بولندا. 

سرعان ما أصبح واضحًا أنه لا البلاشفة ولا البولنديين لديهم القوة لمواصلة الحرب. في 12 تشرين الأول- أكتوبر، توصل الطرفان إلى اتفاق هدنة وشروط سلام أولية. في شهر واحد فقط، هزم الجيش الأحمر قوات رانجل وأجبرهم على مغادرة شبه جزيرة القرم. لم يأت الدعم لبيلسوتسكي من البارونات  والتي انتظرها طويلاً. ما هي معاهدة ريغا للسلام (1921)؟ 

في تشرين الثاني- أكتوبر 1918، بعد إعلان استقلال بولندا، نشأ السؤال حول حدود الدولة الجديدة. كان الهدف الرئيسي للقيادة البولندية، بقيادة جوزيف بيلسودسكي، هو تجديد بولندا داخل الحدود التاريخية للكومنولث لعام 1772. 

خلال الفترة 1919 تحركت القوات البولندية، واحتلت المقاطعات الغربية للإمبراطورية الروسية السابقة، حيث انسحبت القوات الألمانية المحتلة منها مع نهاية الحرب العالمية الأولى. استولت بولندا على كل من غاليسيا وفولينيا. كانت السيطرة على هذه المدن الليتوانية والبيلاروسية، بما في ذلك فيلنو (الآن فيلنيوس وليتوانيا) ومينسك، تنتقل من يد إلى أخرى. في 25 نيسان – أبريل 1920، شن الجيش البولندي هجومًا على طول الجبهة بالكامل واحتل كييف في أوائل أيار. ولكن بالفعل في تموز، في ظروف هجوم مضاد ناجح للجيش الأحمر، طلبت بولندا وساطة أنجلو-فرنسية. اقترح وزير الخارجية البريطاني، اللورد جورج كرزون، أن يسحب الطرفان قواتهما على طول خط غرودنو بريست، غرب رافا روسكايا، شرق بريميشل (“خط كرزون” هو حد فاصل وخط تماس وضعه مجلس الحلفاء الأعلى مع نهاية الحرب العالمية الأولى لترسيم الحدود بين الجمهورية البولندية الثانية وروسيا البلشفية، وغالبيته من العرقية البولندية. ويتزامن عمليا مع الحدود الشرقية الحديثة لبولندا). 

رفضت روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية الوساطة، وأصرت على إجراء مفاوضات مباشرة مع بولندا. في منتصف أب، شن الجيش البولندي هجومًا مضادًا، وهزم قوات الجيش الأحمر بالقرب من وارسو، وبحلول تشرين الأول استولى على بياليستوك وليدا وفولكوفيسك وبارانوفيتشي ، وكذلك كوفيل ولوتسك وروفنو وتارنوبل. في 7 آب – غشت 1920، أعلنت الحكومة البولندية عن استعدادها لبدء المفاوضات، لكنها بدأت بعد عشرة أيام فقط، عندما شنت القوات البولندية هجومًا مضادًا.

 في 17 آب – غشت 1920، عقد الاجتماع الأول لممثلي روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية وبولندا في مينسك، والذي كان بمثابة بداية للعملية الحقيقية لتسوية السلام السوفيتية البولندية. في أيلول – سبتمبر 1920، تم نقل محادثات السلام من مينسك إلى ريغا (جرت الجولة الأولى من محادثات السلام في ريغا في 21 أيلول – سبتمبر 1920).

 قبلت القيادة البولندية اقتراح رسم الحدود الشرقية على طول “خط كرزون”، ولكن دون حماس. في 2 تشرين الأول – أكتوبر، قدم الوفد البولندي في ريغا مقترحاته بشأن الحدود، والتي كان خطها يمتد على طول نهر زروبتش روفنو-سارني، لونيتس -غرب مينسك، فيليكا ،ديينا، وعزل ليتوانيا عن روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية. وافق الوفد السوفياتي، بعد بعض الاحتجاجات، على هذه الشروط. في 12 تشرين الأول – أكتوبر 1920، في قصر شوارزكوف في ريغا، وقع ممثلو بولندا وجمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية والاتحاد السوفياتي الأوكراني اتفاقية هدنة وشروط سلام أولية.

 دخلت الهدنة حيز التنفيذ في 18 تشرين الأول – أكتوبر 1920. بموجب شروط الاتفاقية، تم تضمين أراضي الإمبراطورية الروسية السابقة، التي كان يسكنها بيلاروس وأوكرانيون، إلى بولندا. نص الاتفاق على التنازل المتبادل بين الطرفين عن التدخل في الشؤون الداخلية لبعضهما البعض من الدعاية المعادية. الأهم من ذلك تم الاتفاق على منح الروس والأوكرانيين والبيلاروس الموجودين على أراضي بولندا، والبولنديين – على أراضي جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية، وجمهورية أوكرانيا وروسيا وبيلاروسيا الاشتراكية السوفياتية، حقوقًا متساوية وضمان التطور الحر لثقافتهم ولغتهم، وحقهم في أداء الشعائر الدينية. وألزم الأطراف بعدم السماح بتشكيل منظمات إرهابية على أراضيها تكون أنشطتها موجهة ضد الجانب الآخر. تسبب ترسيم الحدود في الكثير من المشاكل للطرفين. بسبب التخريب الفعلي والمطالب البولندية المستمرة لتحريك الحدود على الأرض إلى الشرق، اكتمل ترسيم الحدود فقط في تشرين الثاني – أكتوبر 1922، وتم الانتهاء من عمل لجنة الحدود في آب- غشت 1924. ظلت معاهدة ريغا سارية المفعول حتى 17 أيلول – سبتمبر 1939، عندما ألغت الحكومة السوفيتية جميع المعاهدات والاتفاقيات المبرمة مع بولندا بسبب انهيار الدولة البولندية خلال الحرب الألمانية البولندية. أصبحت أوكرانيا الغربية وغرب بيلاروسيا، وفقًا لإرادة سكان هذه المناطق، جزءًا من الاتحاد السوفيتي. عن هذا الأمر في المقالة القادمة.

Visited 5 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. زياد منصور

أستاذ جامعي وباحث في التاريخ الروسي