جانيت بوغراب وجرح الطفولة (عن كتاب “صمت مميت..”)
منال جدير / طنجة
لا تنتهي الحروب يوم اتفاق السياسيين على إنهائها والتوقيع على المعاهدات، بل تستمر الجراح في الأفئدة والأرواح. ولا يعاني من تلك الجراح ويشعر بوطأتها غير الذين وشمت على ذاكرتهم أو أجسادهم. ذلك وضع الفئات العريضة التي سميت بالحركيين في تاريخ الجزائر.
والحركيون فئتان: الأولى ويمثلها الجزائريون الذين كانوا مجندين في صفوف الجيش الفرنسي إبان الثورة الجزائرية واستعملتهم فرنسا من أجل قمع المجاهدين الجزائريين والتجسس عليهم. وكان أعضاء هذه الفئة ملزمين عند انطلاق حرب التحرير، بإتمام الخدمة في صفوف الجيش الفرنسي، بينما انضم أعضاء الفئة الثانية عن طواعية واختيار إلى الجيش الفرنسي.
مصير ثمرة زواج حَرْكِيَيْنِ
في منطقة شاتورو، وسط فرنسا، ولدت جانيت بوغراب ابنة “الحركيين” اللذين قاتلا إلى جانب فرنسا إبان حرب التحرير الجزائرية. وهي سياسية فرنسية من أصل جزائري، تقلدت العديد من المناصب في الحكومة الفرنسية منها رئاسة الهيئة العليا لمكافحة التمييز ومن أجل المساواة “لاهالد”، وحقيبة وزارة الدولة والشباب والحياة الاجتماعية في حكومة فرانسوا فيون.
وقد لقي تقلدها لهذه المناصب ترحيبا واسعا بين أوساط أبناء “الحركيين” من الذين عانوا الأمرين ولا يزالون يعيشون نوعا من الجرح الذي أصاب الهوية ولم يندمل بعد: فهل هم أبناء فرنسا، التي اعترفت مؤخرا (2018) بوفائهم، أم هم أبناء الجزائر المغضوب عليهم؟
وكانت بوغراب زارت سنة 2003 بلدها الأم الجزائر بمعية جاك شيراك رئيس فرنسا آنذاك. كما عادت إلى الجزائر في زيارة رسمية سنة 2011. وتجولت في أزقة قصبة الجزائر العاصمة، وفي كورنيش الميناء القديم تأملت الغروب وعيناها مبتلتان.. وهكذا عبرت جانيت في أكثر من مناسبة عن شدة تأثرها بهذه الرحلة والزيارة لبلد أجدادها. أي سحر تبعثه الأوطان في النفوس ولو لم نولد على أرضها؟ وكيف يجرؤ بعض الناس على سرقة الأوطان، والمتاجرة بها؟
مواقف ابنة “الحركي” من حرب اليمن
نشرت جانيت بوغراب قبل أيام كتابا يحمل عنوان “صمت مميت، حرب اليمن القذرة المنسية” ويتناول هذه الحرب بين الاخوة في الدين، واللغة، والتاريخ، وربما المصير. حرب اختلطت فيها المصالح الذاتية بالإقليمية. أتكون جراح ابنة الحركيين تتذكر بعض مصير والديها، وربما ما كان يمكن أن يكون مصيرها؟ لعله يكون…
عرفت السياسية جانيت بوغراب بمواقفها الجريئة، فهي تتهم السعودية بتهديم تراث اليمن: تراث تعتبره جانيت مهد الحضارات والديانات السماوية الثلاث. وتدين تأييد الدول الغربية، بما فيها فرنسا، للأنظمة الاستبدادية الإسلامية في الخليج وتعتبرها متواطئة معها. وبالحديث عن العلاقة بين فرنسا والتحالف السعودي في هذه الحرب الدامية، كان الصحافي الفرنسي كلود أنجيلي من صحيفة “لوكانار أونشني” قد استعمل عبارة “مشاركة فرنسا في الحرب ضد اليمن”، وهي عبارة اعتبرتها جانيت بوغراب شديدة الدقة. إذ أن الأمر لم يعد مقتصرا على تزويد فرنسا السعودية بالأسلحة فحسب، بل تعداه إلى مدّها بمعلومات تخص المواقع التي يحتلها المتمردون الحوثيون..
لقد استطاعت فرنسا خلال العقد الماضي، بيع أكثر من عشر مليارات يورو من الأسلحة إلى المملكة العربية السعودية، تؤكد بوغراب. وعلى هذا الأساس تمت الإشارة إلى احتمال محاكمة فرنسا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة بتهمة المشاركة في جرائم الحرب في تقرير أعده خبراء مستقلون عينهم مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان.
كما تستنكر بوغراب جمود العالم أمام مشاهد الأزمة الإنسانية التي تجتاح هذا البلد، من مجاعة وكوليرا، واستعباد للنساء وتجنيد الأطفال وتدمير المدن…
لقد اتهمت المحامية وصاحبة كتاب “صمت مميت، حرب اليمن القذرة المنسية” السعودية، التي شنت الحرب في 25 مارس 2015 وأطلق عليها اسم “عاصفة الحزم” بدعوى دعم شرعية النظام. واتهمت المملكة صراحة باستخدام المجاعة كسلاح حرب واستهدافها المواقع المدنية والإبقاء على حصار صارم. كما اتهمت دول التحالف بتدمير إرث تاريخي (من قبيل مأرب المذكور في القرآن). والغرض محو آخر ثروة لهذا البلد: تاريخه. وكان قد سبق للعديد من المدن اليمنية أن أدرجت في قائمة التراث العالمي. وترى أن من قاد الهجوم تغيا إضفاء بعضا من الشرعية عليه كزعيم يتسنى له اعتلاء العرش و مواجهة نفوذ طهران المتزايد في المنطقة.
واعتبرت بوغراب أحاديث السعودية عن محاربة الإرهاب مدعاة للسخرية فهي الدولة ذاتها التي مولت معظم الحركات الإرهابية، وأن صمت الدول أمام هذه الأزمة اليمنية أحيا القاعدة في شبه الجزيرة العربية.
وحيّت الكاتبة والمحامية والأستاذة الجامعية ألمانيا وفنلندا والدنمارك على مواقفها من اغتيال جمال خاشقجي. فقد أوقفت هذه الدول الثلاث جميع مبيعاتها من الأسلحة إلى المملكة العربية السعودية، في وقت رفضت فيه فرنسا القيام بذلك وهي التي تنادي بحقوق الإنسان.
تأمل جانيت بوغراب من خلال كتابها “صمت مميت” أن تكف فرنسا عن تزويد السعودية بالسلاح، وأن تذكر بالوضع المأساوي الذي آل إليه هذا البلد الذي كانت قد زارته وفتنت به في بداية الحرب سنة 2014 عندما كانت تنجز فيلمًا وثائقيًا عن الفتيات الصغيرات اللائي منعن من الذهاب إلى المدرسة. هل يستطيع الانسان أن يفر من جلده؟ أن ينسى تاريخه؟ أن يداوي جراجه؟
أما تكرر الإنسانية الأخطاء ذاتها عبر تاريخها؟.. تلك هي الأسئلة المقلقة.