21 سنة على غيابه: الكاتب محمد زفزاف واليسار

21 سنة على غيابه: الكاتب محمد زفزاف واليسار

 عبد الرحيم التوراني

مرت 21 سنة على رحيل الكاتب المغربي محمد زفزاف، الذي فارق الحياة فجر الجمعة المصادفة للثالث عشر من يوليوز 2001، بمصحة “المنبع”  في زنقة بيرن، تماما خلف كاتدرائية “السيدة لورد” بمدينة الدار البيضاء.

وكان زفزاف قد قضى بضعة أسابيع بهذه المصحة، بعد عودته من رحلة علاج طويلة في فرنسا على حساب القصر الملكي، في مستشفى “السالبيتريير” بباريس، إثر معاناته من داء السرطان الذي أصيب به في فكه الأيسر.

اكتشاف متأخر وتكريم أخير:

لم يكتشف زفزاف إصابته بالسرطان إلا بعد استشراء الداء الخبيث وتمكنه من جسده النحيل. والظاهر أن السبب إدمانه على التدخين. ولم يكن يستلذ سوى بسجائر التبغ الأسود المحلية الصنع، وبالأخص صنف ”أولمبيك” الحمراء، ثم سجائر “المغرب”، التي لم تعد تنتج اليوم.

مرة سألت زفزاف، لما لاحظت أنه أشعل أكثر من سيجارة بعقب أخرى منتهية، فاستهان بالأمر، ورد أنه لا يبتلع الدخان، بل يدوره فقط داخل فمه قبل أن ينفثه.

في البداية كان زفزاف يعالج بمصحة “الكندي” المتاخمة للمركب الرياضي محمد الخامس بالدار البيضاء، ثم تابع الخضوع للعلاج الكيميائي بمركز علاج السرطان بمستشفى ابن رشد (بزنقة سبتة)، التابع لوزارة الصحة العمومية، وكانت التعاضدية العامة لأسرة التعليم تتكفل بمصاريف العلاج، كون زفزاف موظفا بوزارة التربية الوطنية، حيث مارس التدريس بثانويات العاصمة الاقتصادية ما يقرب من ثلاثة عقود.

حاول مؤلف “الملاك الأبيض” التماسك وعدم الانهيار ومواجهة قدره، لذلك كان لا يتردد في استقبال الأصدقاء بشقته، محافظا على تفاؤله بإظهار انشراحه، وواظب على الخروج والمشي في الشارع بوجهه المكشوف المتآكل، وقد شوه المرض ملامحه ونتف لحيته آخذا معها وسامته الجذابة.

لكن القناة الأولى للتلفزة المغربية، في إحدى نشراتها المسائية، ستظهر للمشاهدين وجها لزفزاف أكثر تشوها، عندما سيسافر طاقم تصويرها إلى مستشفى “السالبيتريير” بالدائرة الباريسية 13، لنقل أخبار الأديب الذي يعالج على حساب القصر. وهو ما ترك استياء كبيرا لدى الكثيرين، وخاصة لدى طالبة السنة النهائية بكلية طب الأسنان، وحيدته سهام، التي لم تتوطد علاقتها بوالدها إلا في آخر أيامه بعد مرضه. كونها بعد انفصال والديها عاشت وتربت في حضن عائلة أمها.

المفتش “كولمبو” عند زفزاف:

قبيل رحلته بهدف العلاج إلى باريس، ستنظم مديرة أكاديمية التربية والتكوين بالرباط الأستاذة فرتات التيجانية، حفلا تكريميا بالمدينة التي ترعرع فيها صاحب “الحي الخلفي”، (“سوق الأربعاء”)، وكان الحفل من تنظيم “جمعية قدماء تلاميذ ثانوية سيدي عيسى”، حضره الوزير السابق الأستاذ عبد الله ساعف. كان حدثا وازنا ومبهرا وبامتياز، تردد صداه إلى أبعد من أرجاء المدينة الصغيرة، الواقعة ضمن تخوم”منطقة الغرب” الخصبة المعطاء.

في سفره الأخير إلى باريس، إلى مطار محمد الخامس رافقه صديقه المهندس مصطفى عزمي، على متن سيارة الأخير، وكان عزمي من أبرز قادة نقابة الأشغال العمومية المنضوية تحت لواء نقابة الاتحاد المغربي للشغل. عند لحظة الوداع سيسلم زفزاف مفتاح شقته لصديقه النقابي، موصيا إياه تسليمها بدوره إلى شخص يعمل إطارا بأمن منطقة سيدي عثمان أو سيدي البرنوصي. وكانت شقة زفزاف في أخريات حياته قد تحولت إلى ما يشبه نادٍ صغير يلتقي فيه بعض رجال الأمن للسهر والسمر معه، ويعود السبب إلى الصداقة التي ستجمع زفزاف  بالمفتش “كولمبو”، اللقب الذي اشتهر به الميلودي الحمدوشي، لما كان الأخير هو المسؤول الأول في أمن مدينة البوغاز طنجة، قبل أن ينتقل إلى الإقامة في منطقة شاطئ “طماريس” بضواحي الدار البيضاء، ويتفرغ للتدريس الجامعي وكتابة القصص والروايات البوليسية.

بالإضافة إلى الكوميسير “كولمبو” كان زفزاف صديقا لأمنيين آخرين، ممن كانوا يرتادون بارات المعاريف، ومن بينهم الضابط الشتيوي والضابط الدكالي وعبد الوهاب

بعد رحيله ستفاجأ ابنة زفزاف بسرقة خزانة كتب والدها، مع أرشيف مهم من صوره الخاصة ورسائله المتبادلة مع الأدباء والمثقفين من كل أنحاء العالم.

أسير حرب يحتضر:

في فرنسا سيقول الأطباء إن زفزاف وصل متأخرا، وأن حظوظه في العلاج متضائلة جدا. وهناك كان الكاتب محط عناية قصوى من بعض أفراد الجالية المغربية المقيمين بالديار الفرنسية، وممن زاروه بـ”السالبتريير”، الكاتبة العراقية عالية ممدوح صاحبة “هوامش السيدة ب”، والكاتب العراقي صمويل شمعون، وآخرون من الفنانين والكتاب والصحفيين العرب.

أما المترجم المغربي محمد المزديوي، المقيم بفرنسا، فكان يتردد يوميا برفقة صديقته الأسيوية على “السالبتريير”، للإطلالة على مريضنا لحظة، والمكوث ساعات في مطعم المستشفى. كما حكت لي ذلك سهام زفزاف التي لم تكن مرتاحة كثيرا للمزديوي ورفيقته.

مما ستكتبه عالية ممدوح لاحقا في مذكراتها عن زيارتها لمحمد زفزاف نزيل المستشفى الفرنسي:

“ (…) وكأنني أزور أسير حرب. فبدا فكه يشي بالإيحاء أكثر من أداء مشقة الكلام، والاقتصار على الابتسام الخفي، بدلا من تلك القهقهة المعهودة عنه، وما تلك الحيوية الحاضرة التي تتدلى منه على مهل إلا عزيمة يقاوم بها جفاف الحلق والبلعوم،فيواصل شرب الماء المثلج قدحا وراء آخر. يزداد إحراجي ويتفاقم، لكي أبدو متلائمة مع خيبة أمله فيّ، وأنا أتحرك أمامه، وكيف أتعثر بمظاهر صحتي الزائفة.

سيعود زفزاف من رحلته الأخيرة إلى فرنسا فاقدا للنطق، لذلك كان التواصل بينه ومعايديه في المصحة يتم بالكتابة في لوح بقلم “فوتر” أحمر قابل للمحو. وطبعا كان الفريق الطبي المحيط بمريضنا ينصح الأهل والأصدقاء بعدم إطالة المكوث في الزيارة. ولا بد من الإشارة هنا أن زفزاف كان في المصحة لا يستقبل الجميع، كانت الممرضة تنقل إليه اسم الزائر، يتطلع إليها بعينين متعبتين صارتا ضيقتين وخبا بريقهما أكثر، ثم يأخذ اللوح بين يديه ليكتب موافقته من عدمها على قبول الزيارة.

رفض وقبول بالقلم الأحمر:

من الأسماء التي رفض زفزاف مقابلتها وهو يستعد لمغادرة دنيانا الفانية، يذكر صديقه الشاعر والروائي محمد الأشعري، وكان وقتها وزيرا للشؤون الثقافية، وصديقه التاريخي القديم القاص إدريس الخوري.

لا أعرف رد فعل الأشعري، صاحب المجموعة القصصية “يوم صعب”، لكن صاحب “حزن في الرأس وفي القلب” بمجرد سماعه عدم قبول زيارته من الممرضة، ركب المصعد و”تكركب” مسرعا إلى ساحة “مرس السلطان” القريبة، حيث استنجد ببيرة دامعة من نوع “فلاغ سبيسيال”، تجرعها في حانة “مدام غيران” ليشفي بها الغليل، وكان الطقس حارا، نحن في فصل الصيف. ثم التفت الخوري إلى صديق على الكونطوار، بابتسامة ملؤها السخرية والاستغراب والتساؤل الاستنكاري: “ما بغاش يستقبلني…ما فهمت وااالو؟؟؟”، وأتبعها بضحكة صاخبة من قهقهاته المعلومة. وكأني ببّا إدريس اعتبرها نكتة من النكت التي كان يطلقها صديقه الساخر زفزاف وهو في حالات صفائه.

قد يكون موعد زيارة إدريس الخوري، وموعد محمد الأشعري لمصحة “المنبع”، صادف حالة من حالات التعب المفرط الذي كان ينتاب مريض سرطان الفك بعد خضوعه للأدوية الكيماوية. مما حال دون استقباله لصديقين كبيرين، عرف أنهما من مقربيه الحميميين، وإلا كيف استقبل زفزاف أناسا آخرين هو أقل صلة بهم.

من جحيم دانتي إلى سلام المنبع:

ممن زاروه في “المنبع”، أذكر الكاتب محمد صوف، والمهندس والنقابي مصطفى عزمي، والأستاذ عبد العزيز بقية، ونادل بار “ماجستيك” بداز، وسعيد أفولوس، الصحفي بيومية “لوبنيون” ومترجم رواية زفزاف “بيضة الديك” إلى اللغة الفرنسية، والكاتب العراقي صموئيل شمعون، وكاتب هذه السطور.

أما الشاعر والناقد محمد بنيس، فقد سجل تفاصيل زيارته لزفزاف المريض في المصحة بشهادة- مرثية محزنة، غاصة بلوعة الحسرة والغياب.

ومما كتبه بنيس عن تلك الزيارة التي سبقت يومين من وفاة زفزاف:

كل شيء كان ينبئ عن تحسن في الحالة الصحية، رغم النحولة التي تزداد.

ويضيف بنيس في هذه الشهادة التي ضمنها كتابه “مع أصدقاء” الصادر عن “دار توبقال للنشر” بالدار البيضاء (2012):

خلال زيارتي له في عيادة “المنبع”، وجدته يستعمل لوحة يكتب عليها بقلم أحمر، بعد أن أصبح النطق الواضح متعذرا عليه، بأصابع ذات حركة ثابتة ظل يخط الوقت كله متذكرا وملاحظا ومبديا رأيا وموصيا، نتبادل الكلام نضحك، وهو سعيد بعودته إلى المغرب متخلصا من “جحيم دانتي”،  كما وصف إقامته الأخيرة للاستشفاء في باريس.

وكان الكاتب والتشكيلي الماحي بينبين، هو من شوهد وهو يدفع الكرسي المتحرك الذي حمل زفزاف بين ممرات مطاري أورلي الباريسي عند المغادرة، ومطار محمد الخامس بالدار البيضاء عند الوصول، في الرحلة الأخيرة لمؤلف “الأقوى”. وظل الفنان الماحي ، المقيم بين باريس ومراكش، مواظبا على السؤال عن زفزاف ومتابعة أحواله الصحية.

الأم المكلومة والدة الأسطورة:

الأدوية الموصوفة لعلاج زفزاف كانت باهظة الثمن، لكن القصر الملكي كان يتكفل بها ويجلبها من ألمانيا، ولما توفي زفزاف بقيت من تلك الأدوية الغالية صناديق بكمية كبيرة، وأتذكر أن ابنة المرحوم، بعد وفاة والدها، قالت لي أنها ستقوم بمبادرة منحها للمرضى من المحتاجين إليها.

مراسيم الدفن كانت بمقبرة الشهداء، وحضرها العديد من الكتاب والفنانين والأصدقاء، يتقدمهم وزير الثقافة محمد الأشعري، والناقد محمد برادة، والشاعر أحمد صبري،والقاص والناقد مصطفى المسناوي

ليلة “العشاء” للترحم على روح المرحوم محمد زفزاف، احتضنتها فيلا صغيرة لخالة وحيدته سهام، تقع بحي “الأميرات” بالدار البيضاء، وجاء مبعوث من الرباط متأخرا، يسأل أم سهام، طليقة الكاتب الراحل: “هل تحتاجون لشيء؟”. ولما كان كل شيء تم، ترك الرجل رقم تلفون ومضى. كان المبعوث من طرف سكرتير جلالة الملك محمد منير الماجدي.

هناك سأرى لأول مرة والدة محمد زفزاف المسنة، كان العمر قد هدها وقوس قامتها القصيرة، وزاد فرسم علاماته الغائرة على وجهها. وبينما المقرئون منغمرين بقراءة آيات القرآن، ترحما على الفقيد، سُمعت جلبة قادمة من الأسفل، كانت والدة زفزاف تغالب ابنها، الأخ غير الشقيق للكاتب الراحل، عبد السلام زفزاف (توفي لاحقا أيضا بالداء الخبيث). أصرت الوالدة على الظهور أمام المعزين، وولدها عبد السلام يمنعها، لكنها غلبته في الأخير، وظهرت تردد: “خليوني نسلم على أصحاب وليدي السي محمد….”. وكان لها ما أرادت، والبعض منا قبل رأسها ويدها.

في ختام ليلة التأبين “العشاء”، تكلم الناقد إدريس الناقوري بتأثر، مستهلا كلمته ببعض الآيات من القرآن. ومن جملة ما قاله، إن صديقنا المرحوم زفزاف أوصاه بجمع بعض ما نشره متفرقا في يومية “العلم” في فترة الستينيات. وأمام المعزين تعهد صاحب “المصطلح المشترك” بالوفاء لذكرى صاحبه، وبعد مرور كل هذه الأعوام يبدو أن الناقوري أنسته الأيام وصية صديقه الميت، أو أن ظروفه لم تسعفه.

زفزاف واليسار

سيظل محمد زفزاف اسما كبيرا في تاريخ الأدب المغربي والعربي، بل نرى اليوم مع توالي الأعوام كيف يتحول “الكاتب الكبير” إلى ما يشبه الأسطورة، بل أسطورة حقيقية كما وصفها مرة الأديب نور الدين محقق.

لقد أطلق اسم محمد زفزاف على عدد من المؤسسات التعليمية، وعلى شارع كبير بالدار البيضاء به مجموعة من محطات الترامواي، وإحداها تسمى “محطة محمد الزفزاف”(هكذا بالتعريف)، وبهذا الشارع محلات تجارية تحمل اسم الشارع، ومنها “صيدلية زفزاف”، كما تحول اسم المركب الثقافي للمعاريف، الحي الذي أقام به، إلى “المركب الثقافي محمد زفزاف”، بالإضافة إلى إنشاء جوائز باسمه، أبرزها “جائزة محمد زفزاف” التي يمنحها “منتدى أصيلة” كل سنتين.

أشير إلى أن زفزاف انتسب فترة للحزب اليساري المعارض حينها، الاتحاد الوطني/الاشتراكي للقوات الشعبية، وكان يحضر الاجتماعات الحزبية المنظمة بخلية درب غلف، برفقة الشاعر أحمد صبري والقاص البشير جمكار والأستاذ العايدي الحنبلي (نقيب سابق لنقابة أساتذة التعليم العالي) ومناضلين آخرين. ولما حدثت جريمة اغتيال القائد الاتحادي المحامي عمر بنجلون، مدير يومية “المحرر”، شارك زفزاف في حفل تأبيني أشرفت عليه الكتابة الإقليمية بالدار البيضاء في مقرها بشارع طريق مديونة، وقرأ كلمة. ثم أطلق اسم ابنة الشهيد على ابنته سهام. وبعدها اقتصرت علاقته بالاتحاد على نشر قصصه ومقالاته بصحيفة الحزب، أو حضور بعض الاجتماعات التي كانت تخصص لمناقشة تطوير الملحق الثقافي لـ”المحرر.

محمد زفزاف الذي كتب في حياته القصة القصيرة ونشر روايات قصيرة أيضا، يبدو أن روايته بعد مماته أطول، بامتدادها في الزمن و الذاكرات. هو الذي في أخريات سنوات عمره صار منشغلا بمسألة الخلود. مرة كلمني في الموضوع وقال لي عن نفسه إنه سيظل خالدا.

يمسد صديقي محمد زفزاف شعر لحيته التي تحولت مع الأيام إلى لحية بوذية، ويردد هامسا عبارة: “الله كْبير…”.

نعم الله كْبير.. أيها الكاتب الكبير. لتعش ذكراك في قلوب الأحبة.

Visited 54 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

عبد الرحيم التوراني

صحفي وكاتب مغربي، رئيس تحرير موقع السؤال الآن