“الأسرار من محلّها”.. الحفر في “الجذور” من أجل “القبض” على المُذكّرات
عبد الرزاق بوتمزار
اغتنت الخزانة المغربية مؤخّرا بمؤلَّف (مُذكّرات) جديد وقّعه الأستاذ أحمد الطالبي المسعودي بعنوان “الأسرار من محلّها) (صدرت طبعته الأولى من مطبعة “دار الكرامة” يوليو(ز) 2022). “أسرار” قطفها المُؤلِّف من “محلاتها”) بصيغة الجمع، لكن فضّل “محلّها” (بصيغة المفرد) ونحن نتشاور بشأن العنوان… عنوانٌ ربّما يختزل لوحده صفحات وصفحات يُمكن أن تُدبَّج بشأنه، وطبعاً هناك يبن ثنايا هذا الكتاب -“التحفة” الكثير ممّا قد يشحذ همَم الباحثين في “تاريخ” و”أنساب” و”أدب” و”سوسيولوجيا” و… “تراث” سوس العالمة، ما عدا العنوان، الذي أكتفي فقط بالإشارة إلى أنه مُستمَدّ من جُملة مُوجَّهة من أحد جهابذة التأليف في منطقة سوس، في شخص المختار السّوسي، إلى مُؤلِّف هذه “المُذكّرات”، الأستاذ أحمد الطالبي المسعودي..
نعم، لقد رافَق مُؤلّفُ هذه المُذكّرات (التي تُشكّل محطة “معيارية” فاصلة في هذا الجنس السّردي الممتِع، إن وجد مَن “يقبض” فيه على “أسراره” بخبرة الصّياد المُجرّب المُتماهي مع “أمواج” الشّعر و”كنوز” البلاغة و”سحر” البيان) وصاحَب مُبدعَ “المعسول” (بأجزائه) و”سوس العالمة” و”خلال جزولة” وهلمّ تأليفات ومتوناً لهذا القلم “الظاهرة” مقارنة بعصره وظروف نشأته وتعلّمه وبالنظر إلى مسؤولياته في مغرب ما بعد الاستقلال، بما طبع الحقبة من أحداث ووقائع ومعطيات لم تُثن من عزيمة المختار السّوسي وغيره (من أمثال “صنوه” البونعماني -العم الشّاعر) ممّن “أرّخوا” سوس العالمة ووثّقوا لحظاتها المُمَيّزة، من خلال شخصيات ومحطات وأماكنَ صنعت أمجاد المنطقة، في حركية ثقافية واجتماعية تمحورت حول العلم والعلماء ومكانتهم الرّفيعة في المجتمع السّوسي وأهمّية العلم والتعلّم.. ونحن نعرف أن “الكِتاب” ذو أهمية محورية في كلّ ذلك، وما أدراك ما “الحصولُ” على كتاب واحد في ذلك الزّمان، فما بالُك بـ”تشكيل” خزانة “عامرة” سارت بذكرها الرّكبان في المنطقة ونهل من نبعها “المسعوديّ” الأصيل كبارُ أعلام المنطقة ومشاهيرها، من أمثال “صاحبنا” المختار السّوسي، الذي “تكرَّم” علينا -في لحظة “إشراقة” استثنائية- بهذا العنوان الاستثنائي لمُذكّرات استثنائية فضّل مؤلِّفُها العودةَ إلى “الأصول” من أجل “القبض” على بداية السّرد المُلائمة لـ”سيرة” ليست ككلّ السّيَر..
هو إذن، حفر في الذاكرة (الجمعية أولاً، قبل العودة إلى الفردية في وقت لاحق) من خلال “نفائس” خزانة الأسرة المسعودية، أكبّ خلاله الأستاذ أحمد الطالبي على البحث والنّبش والتنقيب ونفض الغبار عن “ذُرَر” حقيقية يُكشَف مُعظمها لأول مرة.. ودعوني في هذا الصّدد أفشي “سرّا” آخَر من “أسرار” هذه المُذكّرات، هو أنّ هذا الكتاب يضمّ أزيد من أربعمائة (400) صورة/ وثيقة، تنوّعتْ بين صور لـ(بعض) رجالات سوس “العالم” ولأبرز المحطات في سيَرهم، وبين صور لـ”نفائسَ” قيّمة لمخطوطات ومراسلات عرف مؤلِّف الكتاب كيف “يصطادها” بحسّ “الشّاعر” الثاوي في مرجعيته المعرفية والثقافية، بوصفه سليلَ هذه الدّوحة العلمية، التي تشكّلت حول الأسرة المسعودية (أسرة المؤلِّف) العريقة، التي لعبت فيها المرأة أدوارا ريادية، من خلال تضحياتها الجسام في سبيل تنشئة أجيال مُتعلّمة ومُتنوّرة ومن أجل الحفاظ على “الكتاب” مصوناً محفوظا، ناقلا للعلم من جيل إلى آخر.. بل إنّ إحدى هؤلاء النساء حرصت على “خياطة” صفحة “سقطت سهوا” من كتاب أو مُراسلة فتمزّقت، مُنذرةً بقرب نهايتها، وبالتالي “انطماس” هذا الجزء (بغضّ النظر عن مدى أهميته) من الذاكرة الجمعية إلى الأبد، لولا… لولا أن وقع بين يدَي امرأة سوسية “فطِنة” و”حاذقة” لا شكّ في أنها أدركت (أو حدست أو خمّنت) مدى أهمّية الحفاظ على هذه “القطعة” من تاريخ المنطقة.. ولنا أن نتصوّر سيدة مغربية قبل سبعين أو ثمانين سنة أو أكثر (غالبا غيرمُتعلّمة) تعثر على “ورقة” مُمزَّقة فتهرع إلى “إبرتها” لكي “تخيط” الورقة (الوثيقة) وتُحافظ عليها من “الضّياع” في أزمنة ضاع فيها، لا محالة، الكثير..
هذه المُذكّرات محاولة جادّة لوصل الماضي بالحاضر، من خلال ذاكرة مُناضل عايش كلّ المحطات الرّئيسية لنضالات المغاربة ما بعد الاستقلال وكان رقما صعباً فيها، إذ عرف دوما كيف يكون فاعلا ومؤثرا وفارضاً وجهة النظر الثانية، القادرة على أن تقول “لا” حتى للحاكم المُطلق في “أزمنة الرّصاص” و… “الأسرار”.
أكتفي هذا القدْر الآن، وأترك للقارئ متعة اكتشاف هذه “الذّاكرة” الغنية، التي زادها غنًى تقديمٌ “عارف” من الدكتور عبد الصمد الگبّاص، الذي أعطانا في تقديمه لهذه المذكّرات مفاتيحَ “أنثروبولوجية” للنفاذ إلى مغالق هذا الطّبق السّردي المُمتع للأستاذ والمناضل والمعتقل السّياسي السّابق و”اللاجئ السّياسي” السّابق والشّاعر الأديب دوما، أحمد الطالبي المسعودي، سليل العائلة المسعودية العريقة، التي قال عنها المختار السّوسي، كما جاء في مُستهلّ “الأسرار من محلّها”:
“أسرة آل مسعود الشّريفة العالمة الورعة من أعظم الأسر التي عرف لها التاريخ السّوسي ما عرف لها من مجد سامق، حتى ليفترع هامة السماء، ومن همّة عزوف، حتى لتصدف عن شربة الماء إن كان فيها ما يمُسّ بمروءتها ودينها. وتسمّى “آل الطالب يعزى”. وأصلها الأصيل من سملالة، ثمّ انتقل أجدادها إلى قرية “أيت الطالب يعزى” من “تاجّاجتْ” بإمجاط، ثمّ إلى “تيمجّاض” بأيت ابرايم. فهناك وُلد سيدي مسعود، الذي تفرّعت عنه هذه الشّجرة، التي أصلها ثابت وفرعها في السّماء”.
-المعسول، ج. 13، ص. 5، المختار السّوسي، مطبعة النجاح، الدار البيضاء، 1961
يقول المؤلّف، في تقديمه لمذكّراته بعنوان “سيرة مكان”: “جلتُ في الأمكنة عبر الأزمنة: تيمجاض؛ بونعمان؛ المعدر الكبير.. ثم عرّجت على مسارات أهمّ رجالات الأسرة من خلال مسارات الوجد والمعرفة؛ السّلطة والمعرفة، مع البيان والتبيين لدور المرأة في التأسيس الرّوحي والمعرفيّ لهذه الأسرة، التي أرجو أن أكون قد أسهمت من خلال هذه الرحلة، ولو بجزء بسيط، في تكريس الإشعاع المعرفي لأهمّ أدبائها وشعرائها وعلمائها الأفذاذ.
للحديث عن مساري، انطلقت من محيط الجدّ الأمومي، فالجد الأبوي، فالمراحل التعليمية الأولى، التي ستؤدّي بي إلى رحلة مُثمرة عبر حاضرتَي تارودانت فمراكش، حيث سترتسم معالم مستقبلي. ولم أنس مرافقة مُشرقة خلال هذه الرّحلة لحبيب الأسرة، الذي كان له الأثر البارز في شخصيتي، رضى الله محمد المختار السّوسي.. كما كانت بصماته القوية تتخلل جزءا مُهمّا من هذه المُذكّرات المدونة”.
رحلة طويلة إذن، تطلّبت من الكاتب أزيدَ من خمسة أعوام من الاشتغال؛ من البحث والتقصّي وتحرّي “الحقائق”؛ ثم أزيدَ من عامين من أجل “التدقيق” و”التحقيق” و”المراجعة”، وهي المرحلة التي شرّفني الأستاذ أحمد الطالبي بمواكبتها معه، حتى يخرج هذا “المولود” الغالي في أفضل حُلّة ممكنة..