اليسار المغربي والأسئلة الحارقة

اليسار المغربي والأسئلة الحارقة

عبد الرحمان الغندور

حين أكتب في السياسة، فليس ذلك من باب التتبرج أو التخكدق البليد، ولكن من أجل التعبير عن المواقف المبدئية في تجددها، والكشف عن الرعب والمرارة التي يخلقها صمت اليساريين والمتنورين والمثقفين الذين طالما تغنوا بالتغيير المنشود، أمام هذا الهجوم العنيف للرداءة والتفاهة والسخافة وسيادة سياسة التيكتوك المغرقة في التعمية والعدمية,

لا بد من الاعتراف، أن جيل الخمسينات من القرن الماضي، الذي أنتمي إليه، وجيل الرواد الذين سبقوني، وأجيال السبعينات وبداية الثمانينات، يحسون بكثير من الخيبة والانكسار لما آل إليه تاريخ الوطن من تضييع للأحلام الوطنية الكبرى، وردم للآمال العامة التي عاشوا وناضلوا من أجلها المتعلقة ببناء وطن الكرامة والحرية والعدالة والمساواة والمناصفة. الشيء الذي أكدته بالواضح والمكشوف نتائج استحقاقات 8 شتنبر 2021، التي بوأت من قاطع المغاربة منتوجاته ومحروقاته موقع قيادة البلاد، في تحالف سافر للمال والسلطة واحتكار مواقع التشريع والتنفيذ. وطوحت ب 60 سنة من نضال الشعب المغربي بقيادة قواه الوطنية والديموقراطية والتقدمية بكل أطياف يسارها، إلى متحف التاريخ الذي يتعرض للمحو والاعدام.

الآن ونحن على بعد سنة تقريبا، من الاغتيال الكبير للأهداف الوطنية الكبرى. الآن وبعد مرور سنة على استحقاقات 8 شتنبر 2021، وبعد سكوت كل الأبواق والطبول والمزامير. والبكم الذي أصاب ” المخللين ” السياسيين وأصحاب مراكز الدراسات الاستراتيجية، والشهادات العليا في علوم الهرطقة السياسية. وبعد تحول وجهات مواقع الذباب والبعوض الاليكترونية وانتهاء أبواق التنويه والتبخيس المأجورة، وانحسار خطابات التهريج والتعمية.

انتهت سنة من التبجح بالانتصارات، والشماتة في الهزائم. وكانت كافية بالنسبة للبعض للتغني بتحسين الرتبة، وبالنسبة لآخرين للاحتفال بالفوز اليتيم. كما سمحت هذه السنة للتحالف الثلاثي المنتصر، كي ينشغل بتوزيع ” غنائم المعركة “، متناسيا كل ما صدر عن أطرافه، قبل المعركة، من ” نهش ” في بعضهم البعض. مثلما سمحت  للمنهزمين بتجرع هزيمتهم وتوزيع الاتهامات بينهم.

لقد كانت استحقاقات 8 شتنبر 2021، المنتوج التاريخي الأكثر بروزا وكشفا للانهيارات التاريخية الكبرى. فهي تغذت من واقع النظام المجتمعي/السياسي، بما عرفه من تحولات عميقة، وتدهورات اقتصادية لدى أوسع الفئات والشرائح،  وانهيارات اجتماعية، لا سيما على مستوى البنيات الأخلاقية والثقافية وألأخلاقية. لقد تغذت هذه الاستحقاقات من واقع البؤس والفقر والجهل بما انتجه من ثقافة التفاهة والاسترزاق والتسول وبيع الكرامة. كما تغذت من واقع الفساد الذي سمح بالاغتناء الفاحش للشرائح المقاولاتية المتوحشة التي لا تبحث إلا عن الربح بأقل تكلفة، والتي يسر لها النظام المجتمعي/السياسي، جميع سبل الترقي والصعود، وسهل لها عقد القران التاريخي بين السياسة والمال،  مما جعلها قادرة على شراء واقتناء كل شيء، بما فيه كرامة الناس كأبخس سلعة في السوق المجتمعي/السياسي، حيث تساوى في عرضها وبيعها المعدمون، والفقراء، والعديد من أبناء وبنات الفئات المتوسطة، والمترفون على اختلاف مراتبهم، والأميون، والجهلاء والعلماء، والمثقفون وأنصاف وأرباع المثقفين، والشباب والكهول والشيوخ…الخ

الآن وقد مرت سنة تقريبا على انتهاء “السوق الموسمي”. مثلما ينتهي سوق الماشية بعد عيد الأضحى، حيث لا يبقى ورائه غير الغبار وروث الدواب. الآن وقد انتهت عمليات البيع والشراء، وحساب الارباح والخسائر. وانخرط السماسرة و”الشناقة ” و” البراحة ” في أسواق أخرى، وانتهت المزايدات البلهاء.

الآن، وأمام النتائج “الموضوعية” التي أعلنتها “صناديق الاقتراع” يسيطر سكوت مهول وقاتل لدى على الفاعل السياسي المتنور، التقدمي، حول سؤال الوطن، وسؤال المستقبل، وسؤال المصير.

فإذا كان انتهاء الموسم الانتخابي، بالنسبة للبعض، هو نهاية مقابلة رياضية، في انتظار مقابلة أخرى بعد خمس سنوات. فإنه بالنسبة للفاعل المشبع بقيم وثقافة اليسار، هو بداية لتحيين الأسئلة وتجديدها، وتقييم مفصل وجزئي وشامل للنتائج، ولأسبابها الذاتية والموضوعية، دون التماهي مع عقلية المزايدات، أو الهروب إلى ثقافة الاتهامات، أو التهرب من مواجهة الحقائق الصادمة والموجعة التي تصرخ تحت عنوان:

إن اليسار المغربي، هو الخاسر الأكبر من الاستحقاقات منذ دستور 2011 على الأقل.

وهذا ما سيجعل اليساري في مواجهة مكشوفة لا تقبل التخفي، مع سؤال أكبر وأوسع وأشمل، وهو السؤال المركزي:

لماذا استطاع المغاربة بكل طبقاتهم وشرائحهم وفئاتهم وأحزابهم، أن يحققوا في 44 سنة، ما سمي بالاستقلال. ولماذا فشل المد الوطني التقدمي اليساري، طيلة 60 سنة في تحقيق نقلة نوعية حقيقية على طريق بناء دولة الديموقراطية الحقة والمواطنة الحقيقية، بما تتطلبه من احترام كامل للكرامة، وتحقيق للمساواة والعدالة والحرية والمناصفة وجميع حقوق الانسان المنصوص عليها دستوريا وعبر المواثيق الدولية؟؟؟

ولعل مشروعية هذا السؤال الكبير، تكمن في عدم قدرة جميع اليساريين، بجميع أطيافهم وزعاماتهم وروادهم ومثقفيهم، أن يتنكروا له. فهو سؤال قائم، يفرض نفسه في كل وقت، وبعد وقبل كل معركة ومحطة. وتتأكد مشروعيته حين نعاين تاريخ وطبيعة الصراع في المغرب المستقل، والتي ظلت فيها الغلبة لمشروع بناء مجتمع في خدمة الدولة بدل بناء دولة في خدمة المجتمع. ولعل قيمة السؤال تكمن في أنه سؤال الماضي والحاضر والمستقبل، ومن خلال معالجته ومحاولة البحث عن أجوبة له، تنكشف قيمة الجواب عن أسئلة فرعية من قبيل، أي يسار لأية مهام، هنا والآن؟ وبأي معنى يكون المناضل يساريا هنا والآن؟ 

إن الإجابة على هذا السؤال، واجب نضالي فردي وشخصي، على كل من يصنف نفسه “كائنا يساريا”، وهي واجب جماعي يفرض نفسه على جميع الهيئات والمؤسسات والتنظيمات والعائلات التي تصنف نفسها داخل أمة اليسار.

كما أن الإجابة على هذا السؤال تتطلب حدا كبيرا من الاقرار والاعتراف بالفشل التاريخي لليسار، دون ركوب صهوة الانكار والهروب الى التبريرات ” الجاهزة ” التي ترى أسباب الفشل في ما تعرض له اليسار من قمع وتنكيل طيلة تاريخه، من طرف نظام الحكم. فدور النظام السياسي في افشال اليسار بالعصا والجزرة، لا يجب أن يحجب عنا مسؤولية اليساريين أنفسهم، أشخاصا وزعامات وتنظيمات في كل الاخفاقات التي تعرضت لها الأطياف اليسارية، إصلاحية كانت أو جذرية. شرعية كانت أو خارج الشرعية.

والأهم في محاولة الاجابة على هذا السؤال، هو أن اليسار بمعناه العام والشامل في حاجة إلى وقفة تأملية نقدية تفكيكية تحليلية شاملة. هذه الوقفة التي تتطلب الجرأة العلمية الموضوعية المتجردة عن كل نزعة تقديسية للأفكار والاشخاص والمواقف. كما تتطلب حدا كبيرا من التواضع المعرفي، الذي لا يدعي امتلاك الحقيقة، ويرى أن الحقيقة علميا هي بناء يتنامى عن طريق الحوار واحترام الحق في الاختلاف، وضرورة تبادل المواقع والزوايا لفهم المواقف والرؤى. وأكبر من ذلك لا بد لهذه الوقفة التأملية، من أن تستثمر بشكل كبير ومفيد ما توفره التكنولوجيا ووسائل التواصل، من سهولة الوصول إلى المعلومة، وتداولها، وما تسمح به من ثراء معرفي، يغنينا عن المزايدة على بعضنا أو استحضار الاثباتات والشهود والاستشهادات.

إن هذه الوقفة التأملية، هي ما يصطلح عليه اليساريون ب ” النقد الذاتي ” الذي لم يمارسه اليسار ككل طيلة تاريخه، إلا في حدود جزئية وجد ضيقة. ولم يطرح كمشروع فكري وانشغال علمي، من طرف أي طيف من أطياف اليسار، إلا في الحدود المتواضعة التي تهم هذا المكون أليساري أو ذاك، بطريقة يختفي فيها العلم وراء الذاتيات التي يفرضها واقع الحال، أو تفرضها نفسيات الأفراد.

ولعل أول المقدمات الضرورية لكل نقد ذاتي دائما، هي الاقرار والاعتراف بالفشل، سواء تعلق الأمر بالأفراد، أو بالتنظيمات والهيئات، والأجهزة، وفي أي موقع أو محطة أو مرحلة تاريخية. فالفعل الجماعي، هو نتيجة للالتقاء رؤى فردية، ولم يعرف اليسار طيلة تاريخه، صيغة الاجماع. واليساريون ليسوا مطالبين بالاجماع حول الاسباب والشروط والتحليلات، ولكنهم مفروض عليهم بحكم التاريخ أن يعترفوا بفشلهم في تحقيق النقلة  التاريخية النوعية والكيفية، رغم ما حققوه بفضل نضالهم ” المجيد ” وتضحياتهم الباهضة، من مكتسبات لم ترق إلى أن تضع المغرب على سكة الدولة الخادمة للمجتمع، بقدر ما يزداد بناء المجتمع الخادم للدولة. ومفروض على اليساريين الاعتراف بما وصله اليسار من إخفاقات انتخابية، وتشردم تنظيمي، وتهلهل في المواقف، ومزايدات وتبادل الاتهامات بين التركيبات والتيارات والزعامات والأفراد، وتضخم الادعاءات بامتلاك الحقائق، والاتهامات بالتخوين والانبطاح والتآمر…الخ.

لا يستطيع أي منتم لليسار أن يتملص من سؤال: بأي معنى هو يساري هنا والآن؟

ولا يمكنه بالمقابل أن يجيب على هذا السؤال، إذا لم يستحضر تاريخه الشخصي وتاريخ مواقفه داخل الاطار الذي اشتغل من خلاله، وتقييم النتائج المترتبة عنها آنيا وتاريخيا، وأن يربط ذلك كله بحركة الاطار مع باقي الاطارات اليسارية الاخرى في علاقاتها بنظام الحكم من جهة، والنظام المجتمعي السياسي من جهة أخرى.

وحين يمتد السؤال من الفرد إلى الاطار إلى التاريخ، فهو بالضرورة يسري على تاريخ اليسار ككل منذ نشأته إلى الآن، والإقرار بالقطبية الصراعية بين نظام الحكم واليسار، التي جعلت هذا اليسار تاريخيا في صراع مع نمط نظام واسلوب الحكم في المغرب الذي تشخصن في دولة المرحوم الحسن الثاني، منذ اعتلائه عرش المغرب، والذي تمحور في محاولة كل قطب ” استئصال ” الآخر، وتراوح ذلك بين الثورات المسلحة والمؤامرات الانقلابية، والنماذج البلانكية والفوضوية، والتهييج الشعبي، وما قابل ذلك من اختطافات واغتيالات واعتقالات ومحاكمات…الخ

اليساريون مطالبون اليوم، بتقييم ظروف وشروط النشاة والميلاد، التي لا زالت جيناتها تفعل فعلها في العديد من تنظيماتنا وأفكارنا وأحكامنا، ومزايداتنا على بعضنا في النزوع الثوري الجذري أو النزوع الاصلاحي، أو في تقييم التقارب أو التباعد من اجهزة الحكم، ومشاركته أو معارضته…

إن الطرح النقدي الشمولي لإشكاليات اليسار المغربي يتطلب بالضرورة الإجابة على تساؤلات محورية من قبيل:

1- هل كان انشقاق حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عن حزب الاستقلال، بعد الجامعات المتحدة لحزب الاستقلال، (1958) فعلا تاريخيا في مصلحة اليسار أم ضد النمو الطبيعي للحركة الوطنية التي لم تبلغ بعد نضجها الضروري لتتحول الى حركة طبقية بالمفهوم اليساري.؟

مما يسمح حسب “الفقه اليساري” بالانتقال من النضال الوطني إلى النضال الطبقي، تحت مقولة أسبقية الوطني على الطبقي، حسب ماو تسي تونغ في صراعه ضد اليابان وتحالفه مع  تشانغ كاي شيك.

2-  هل صدور ظهير منع الحزب الشيوعي المغربي سنة 1958 من طرف حكومة يراسها وزير أول تقدمي ( المرحوم عبد الله ابراهيم ) كان خطأ،؟ كي يتحول هذا الحزب من الحزب الشيوعي المغربي، الى حزب التحرر والاشتراكية، ليحاكم سنة 1970 ويتم منعه من جديد بنفس الظهير فيؤسس زعماؤه حزب التقدم والاشتراكية.

3-  ما أثر قرار ” تحييد ” neutralisation الاتحاد المغربي للشغل في 1962، وابعاده عن النضال السياسي كدعامة لحركة اليسار. وما هو التقييم الملائم لهذه المحطة. وآثاره على الاتحاديين ولا سيما النقابيين من جهة، وطلاب الاتحاد الوطني لطلبة المغرب على عهد زعامة عبد اللطيف المنوني، الذي كان منتميا للجناح النقابي الذي يفصل بين النضال السياسي والنضال النقابي.

4- هل انفصال مجموعة من المناضلين عن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بعد أحداث مارس 1965 بالدار البيضاء، واختطاف الشهيد المهدي بنبركة، وتكوين فصيل يساري، (23مارس) كان فعلا في خدمة حركة اليسار؟

5- هل انفصال مجموعة من المناضلين عن حزب التحرر والاشتراكية، وتأسيس جبهة ماركسية لينينية، انحصر جل نشاطها في القطاع الطلابي إلى أن تم حل المنظمة الطلابية أوطم وهم على رأسها في يناير 1973.

6- ما موقف الحركة اليسارية بكل تشكيلاتها من انقلاب الصخيرات (1971) وانقلاب الطائرة (1972) ضد نظام المرحوم الحسن الثاني وتقييم طبيعة نظام الحكم بعد هاتين الهزتين، وما ينبغي القيام به؟

7- هل استطاع المؤتمر الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الاجابة على اسئلة المرحلة، ولا سيما سؤال الوضوح الإيديولوجي، والمعارك المنعزلة عن الجماهير، والتعامل مع أنصاف الحلول؟ وإلى أي مدى أجاب على أسئلة النقد الذاتي التي تضمنها الاختيار الثوري للشهيد المهدي بنبركة؟

8-  ما هو التقييم الموضوعي لاستراتيجية النضال الديموقراطي التي جاء بها المؤتمر الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية؟

9- ما هو التقييم الموضوعي لتأسيس الاتحاديين للكونفدرالية الديموقراطية للشغل (1978)؟ وما رافق ذلك من نضال جماهيري عرف ذروته ودمويته في احداث يونيو 1981؟

10- كيف نفسر انتعاش عصا النظام في 1981 وعودته لطابعه القمعي بعد انفتاح بسيط، لم يدم أكثر من 4 سنوات، والذي بلغ به الامر حد محاكمة المرحوم عبد الرحيم ومن معه من قيادات الاتحاد، بسبب قضية الصحراء، والتي لم تكن هي السبب الحقيقي.

11-  ما هو التقييم الموضوعي لحركة 8 ماي 1983 داخل الاتحاد الاشتراكي، وتكوين نواة ما سيسمى طلابيا برفاق الشهداء، ثم بعد ذلك حزب الطليعة؟

12- هل استطاع الاتحاد الاشتراكي كفصيل سياسي، ان يستثمر مشاركته الانتخابية المتواصلة. في ترسيخ الديموقراطية، ام ساهم في مخزنة أعضائه وأجهزته.

13-  ما هي القراءة الموضوعية، لحكومة التناوب التوافقي والمصادقة على دستور 1996،  من خلال قطبية الصراع بين نظام حكم الحسن الثاني، واليسار ممثلا في قطبه الرئيسي آنذاك، الاتحاد الاشتراكي، وزعزعة تماسك الكتلة الديموقراطية التي تأسست في 1992. وجمعت حزب الاستقلال، والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، والاتحاد الاشتراكي، والتقدم والاشتراكية ومنظمة العمل الديمةقراطي الشعبي.

14- ألم تكن حكومة التناوب التوافقي عنصرا حاسما في ما سيعرفه الاتحاد الاشتراكي ومعه أطياف اليسار من تشردمات لاحقة؟

15-  كيف يفسر اليساريون ما عرفته منظمة العمل الديموقراطي الشعبي، وخروج فصيل منها تحت اسم الحزب الاشتراكي الديموقراطي. هل كان ذلك مجرد خلافات في التقديرات أم تنفيذا للتعليمات، بسبب موقف المنظمة الرافض لدستور 1996 الذي صادق عليه الاتحاد وحزب التقدم والاشتراكية.

16-  ما هي القراءة الموضوعية لسياسة التدجين التي نهجها نظام الحكم مع النخب اليسارية، من خلال سياسة التعايس والتشارك والتمازج والتراضي والتوافق، التي انتهت بالتناوب التوافقي، وأثرها على حزب القوات الشعبية ومناضليه ونضاليته وامتداده الجماهيري، واستبطان عدد من نخبه لمفاهيم الاستئناس بالمنظومة المخزنية، واستهلاكها من اجل إعادة انتاجها.

17- كيف يقرا الاتحاديون ما وقع داخل حزبهم من اصطفافات بعد عودة المرحوم الفقيه البصري، وما جرى داخل صحافة الحزب، وإعادة هيكلتها التي ادت الى وفاة المرحوم الباهي ودعت المرحوم الجابري الى اعتبارهذه الوفاة جريمة قتل يجب فتح تحقيق للكشف عن ملابساتها؟

18- .كيف يفسر الاتحاديون والاتحاديات تحول اصطفافاتهم أثناء حكومة التناوب إلى زلزال مدمر في المؤتمر السادس، حيث انشطر الجسم الاتحادي الى مؤتمرين، ومقاطعين للمؤتمر، ومنسحبين منه.

19- ألم يكن تأسيس جمعية الوفاء للديموقراطية، وتأسيس حزب المؤتمر الاتحادي، وبعده الحزب الاشتراكي والحزب العمالي، من طرف عدد من الاتحاديين، ايذانا بشرعنة التشردم والتشطي الذي لا زال ممتدا الى اليوم في صفوف اليسار؟

20- كيف يقرأ الاتحاديون قرار حزبهم بالمشاركة في حكومة جطو سنة 2002، بعد الخروج السافر عن ” المنهجية الديموقراطية ” وعدم اعتبار غضبة كاتبهم الاول، المرحوم عبد الرحمان اليوسفي، واستقالته المصحوبة باعتزال العمل السياسي، وكان في ذلك رسالة قوية للاتحاديين أكدتها محاضرته في بلجيكا 2003، والتي تعتبر نقدا ذانيا لحكومة التناوب؟

21- كيف يفسر الاتحاديون تراجعهم انتخابيا منذ 2007 إلى 2016، وانقلابهم على كاتبهم الاول، الاخ اليازغي، وإقالته من طرف تلامذته ومريديه، وعدد ممن كان ولي نعمتهم.

22- وكيف دبرت أطياف اليسار الأخرى مرحلة ما بعد حكومة التناوب، ومغادرة الاتحاد لحقل اليسار، ولا سيما حزب اليسار الموحد والطليعة والنهج والمؤتمر الاتحادي؟

23- كيف تم ادماج جمعية الوفاء للديموقراطية مع اليسار الموحد، لتأسيس الحزب الاشتراكي الموحد، وبعده تأسيس فيدرالية اليسار، والتوجه الي الادماج الذي انتهى الى كارثة التشردم الجديد عشية انتخابات 2021، لحسابات قد تكون مقنعة في ظروف عادية، ولا حظ لها من اقناع أي أحد، أسابيع قبل الاستحقاقات.

كل هذه الأسئلة وغيرها كثير، تتطلب للإجابة عنها جهدا معرفيا ونظريا، ووعيا تاريخيا، وهدوءا فكريا، بعيدا عن التنخدق والاصطفاف وحماية الرفيق ظالما أو مظلوما.

إن أكبر النتائج التي خرجت بها الاستحقاقات الأخيرة، هي أنها افرزت تاريخيا، قطبا سياسيا متناغما في توجهاته وتركيبته الطبقية، وهو الذي يجمع الحزب المقاولاتي الكبير الذي يقوده امبراطور المحروقات، وحزب الاستقلال الذي شكل دائما حزب المناولة وتقديم الخدمات للنظام السياسي، وحزب الاصالة والمعاصرة، وهو الحزب الوظيفي الذي صنعه نظام الحكم ليؤدي وظائف تحت الطلب وعند الحاجة.

وأمام هذا الافراز التاريخي، يوجد فراغ في تحقيق القطبية التي يمكن ان تقود التحولات المستقبلية، وهي غياب القطب اليساري القادر على خوض صراع حقيقي، ايديولوجيا وسياسيا وبرلمانيا واجتماعيا وميدانيا وتنظيميا….

ولن يكون لهذا القطب اليساري حضور في الساحة السياسة لتقديم بديل للراهن المبتذل، ما لم يجلس اليساريون إلى بعضهم بحضور كل المثقفين المتنورين وعموم الديموقراطيين الحقيقيين، بعقل نقدي من جهة، وممتلك للحس التجاوزي من أجل مشروع بديل، قادر على تعبئة المواطنات والمواطنين خلال سنوات الفراغ الخمس التي اكلنا منها سنة كاملة، والتي لن تقدم فيها الليبرالية المقاولاتية والبورجوازية التقليدية، والمنتعشون من الريع السياسي الذي يدره التأصيل للعصرنة، وعصرنة التأصيل، سوى الضباب والوعود الكاذبة.

إذا لم يستثمر اليساريون هذه اللحظة هنا والآن، فلن يستثمرونها أبدا، إلا بعد يصبح اليسارالمغربي جزءا من الأركيولوجيا والحفريات السياسية المغربية.

Visited 65 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

عبد الرحمان الغندور

كاتب وناشط سياسي مغربي