حياة وموت ابراهيم الشامات في الدار البيضاء
عبد الرحيم التوراني
من الشخصيات المميزة في ساحة “مرس السلطان” بمدينة الدار البيضاء، ابراهيم شامات. لبناني من مواليد القدس. وصل إلى المغرب في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي. كان برنامجه السفر إلى الولايات المتحدة، ولم يكن المغرب بالنسبة اليه سوى محطة ترانزيت. فإذا به يجد نفسه عالقا بالدار البيضاء حتى نهاية السير والممات.
من يهوى مشاهدة الأفلام المصرية القديمة التي قام ببطولتها نجوم السينما فريد شوقي وسعاد حسني ويحيى شاهين ومحمود ياسين ونور الشريف ومحمود عبد العزيز ومديحة يسري ويسرا ومديحة كامل، والمطربتين اللبنانيتين الشحرورة صباح ونجاح سلام… وغيرهم من الجيل الذهبي الذي ينتمي إليه هؤلاء النجوم، سيقرأ في جنيريك بعض أفلام أخرجها مخرجون كبار أمثال صلاح أبو سيف ومصطفى نيازي ومحمد سلمان، اسم: ابراهيم شامات مديرا للتصوير.
تعرفت على ابراهيم أول مرة برصيف المقهى “الخضرا”، التي كانت تجمعنا كل يوم في بدايات المساء، وقبل أن نتوزع على حانات الساحة. كان برفقة المخرج التلفزيوني عبد الهادي التازي والمخرج والشاعر حسن المفتي.
عمل ابراهيم الشامات في شركة “سينما بريس” لصاحبها محمد البلغيثي، وكان مقرها بعمارة وسط ساحة محمد الخامس، (ساحة الأمم المتحدة اليوم).
في المغرب صوّر الشامات أكثر من فيلم للمخرح نبيل لحلو، أولها فيلم “الحاكم العام لجزيرة الشاكر بن”. وفيلم “غدا لت تتبدل الأرض”للمخرج عبد الله المصباحي، وفيلم حسن المفتي “دموع الندم” من بطولة الصديق المطرب محمد الحياني. كما صور وصلات إعلانية لبعض شركات الاشهار، من بينها شركة “نجمة بوبليسيتي” لصديقنا الكاتب والاعلامي عبد الله العمراني.
كنا نسهر مع الشامات في مرس السلطان، في براسري” لاكونكورد”، وفوقها كان مطعم بار “دار الضيافة”.
كان الشامات ينتقد بشدة الوضع العربي والزعماء العرب، ومن بينهم الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، بعد خروج الفلسطينيين من بيروت. ومرة كان معنا الصديق لحسن القرني، برلماني سابق ضمن فريق المعارضة الاتحادية، وهو اليوم محامٍ بهيئة الدار البيضاء، فلم يستحمل الكلام الذي فاه به الشامات ضد عرفات، ولما انصرف ابراهيم قال لي القرني: علينا الحذر من هذا اللبناني، ربما يكون عميلا للموساد.
استطاع الشامات أن يصنع مكانه بين الأصدقاء. وكتب معنا في أسبوعية “الدار البيضاء” المحلية، وكانت تحت إدارة الزميل والصديق عبد الله العمراني.
كان أبو الشامات، كما أطلقنا عليه، عزيز النفس. يمشي مشية القبضايات، تسأل عن حاله، يجيبك بسرعة: “زي البومب.. حديد”. لم يشتك يوما رغم تدهور أحواله المادية، بل عانى في صمت. وفي أخريات آيامه اضطر للمشاركة في دور ثانوي بسيتكوم لسعيد الناصري. ولن أنسى كيف أمسك سعيد الناصري بخناق الشامات و”تكرفس” عليه في المشهد الوحيد الذي ظهر فيه. بعدها، لم تمر أيام حتى توفي الشامات.
كانت ليلة عيد الفطر. ذهبت مع الأصدقاء إلى المشرحة بزنقة سبتة، وشاهدت صديقي ابراهيم نائما، في كامل حلته، بكوستيم أزرق وربطة عنق حمراء، وقد طلي وجهه الشاحب بكثير من المكياج. كان ممددا في صندوق. ثم ذهبنا إلى كنيسة صغيرة غير بعيدة عن مدار أوروبا. ويومها اكتشف العديدون أن ابراهيم ليس مسلما. بل مسيحيا من الطائفة الأرثوذكسية. لحسن الحظ صادفت وفاته إعادة فتح الكنيسة الأرثوذكسية الوحيدة بالمدينة بعد فترة من إغلاقها، وتم حديثا تعيين راهب أرثوذكسي يوناني لا يتكلم الفرنسية، فتلا تراتيل الصلاة على الميت بلغته الإغريقية القديمة.
امتلأت صالة الكنيسة عن آخرها بالمعزين. وكانت عبارة عن فيلا صغيرة تقع في الأزقة الخلفية لمدار أوروبا، على بعد مسافة قصيرة من الكاتدرائية الكاثوليكية الرومانية السيدة لورد. وجل من حضروا كانوا مغاربة مسلمين ظلوا مأخذوين برهبة المكان وزخارف جدارياته وأيقوناته، فهم لأول مرة يدخلون مكان عبادة غير المسجد. ولم يتمالك أحدهم نفسه فأطلق ضحكة عالية. وكان سبب ضحكته حركات رجل الدين المسيحي. أما سعيد الناصري فكان منشغلا بهاتفه الذي رن اكثر من مرة، خرج خلالها وعاد مرات.
بعد طقوس الكنيسة انتقلنا إلى مقبرة النصارى، وتقع قبالة مقبرة الشهداء، وبجانبها مقبرة اليهود. نموت ويفرقنا الموت ولغات التوديع وتراب المقابر أيضا.
لاحظ المشيعون جماليات المكان واختلافه الشديد عن مدافن المسلمين لامتسولين ولا عميان وزحافين وأوساخ. الممرات نظيفة، والقبور كل شواهدها رخام، ومبلطة بالرخام. الأشجار الوارفة والأزهار والورود الندية والسكينة المطلقة التي تليق بالمقام. حتى أن صديقا صاح فينا:
“شوفوا الناس اللي فايتينا كيف يحترمون حقا الموتى ويكرمونهم فعلا..”.
وأقسم آخر:
“والله سأجلب أسرتي لهذا المكان المقدس وأعمل “بيكنيك”.. رائع هنا”.
في المقبرة حضر الراهب اليوناني بكامل حلته الدينية، مسوح اسود وغطاء للرأس من نفس اللون. وتلا صلواته ورش ماء مقدسا على التابوت. ألقيت النظرة الأخيرة على صديقي ابراهيم، قل على تابوته الخشبي، وتابعت عملية مواراته الثرى والأحجار الصغيرة تتناثر مع التراب لتغطي صندوقه الأبنوسي.
ثم عاد الجميع للاستعداد للعيد الذي كان يوم الغد.
وقد حضر أخ ابراهيم المقيم بفرنسا مع ابنته، ولا نعرف سبب القطيعة الطويلة التي كانت بين ابراهيم الشامات وعائلته. ظن الأخ أن شقيقه ترك شيئا يستحق التوريث، فأخذوه إلى الغرفة التي أقام بها حوالي 30 سنة في بانسيون بعمارة توجد بزنقة عمر السلاوي، بالقرب من قنصلية بلغاريا، لم يترك الشامات خلفه غير ملابسه الأنيقة وربطات العنق الملونة، والذكرى الطيبة بين من عاشروه وعرفوه. كانت مناسبة استغلها الشقيق مع ابنته للتعرف على المدينة التي اختارها ابراهيم، وأقاما فترة على حساب الصديق محمد برادة مدير شركة توزيع الصحف “سبريس” ، بفندق “الكندرا” (ريفولي حاليا) بشارع أنفا، قبل عودتهما إلى فرنسا.
أما الراهب اليوناني، الذي يشبه صديقنا كثير الزياني في قامته المديدة ولحيته الكثة، فسأصادفه بعد أشهر في حديقة الجامعة العربية، بقميص صيفي مزركش وسروال جينز ضيق، جالسا فوق كرسي خشبي يتأمل الطيور والمغروسات النباتية وينتظر غارساً من صنف آخر. لقد كانت لليوناني ميولاته الخاصة التي تتعارض بالتأكيد مع ميولات ابراهيم، ولا أعرف هل كان سيوافق الشامات على أن يقرأ على قبره يوناني متدين وبلحية كثة، وخارج خدمة الرب يعصر عجيزته داخل الجينز الأزرق المبهت. كأنه يطبق القول السائر: دين ودنيا، وساعة لربك وساعة لقلبك.