بريخت درب “الأحباس” الذي أحب ممثلة فرنسية وبكاها ومات…

بريخت درب “الأحباس” الذي أحب ممثلة فرنسية وبكاها ومات…

عبد الرحيم التوراني

من وجوه ساحة “مرس السلطان” في كازا.. محمد مشعل. في سنواته الأخيرة اعتدت أن أراه في مقهى “الخضرا”، مقهى بلا اسم،  من أطلق عليها اسم “القهوة الخضرا”، كان ذلك بسبب “باش” ملون بالأخضر، كتبت عليه لفظة “مقهى”. وكانت محاذية لبراسري “لاكونكورد”.

في الأماسي يقصد الأصدقاء “الخضرا” مستبقين تفرقهم على البارات المنتشرة بالجوار…

نجم درب الأحباس

كان محمد مشعل يصل إلى “الخضرا” منتعلا حذاءه كـ”البلغة” (شبشب)، يرتدي معطفا بلون “بيج” متوسط الطول، مثل رجل التحري في السلسلة البوليسية الشهيرة “كولومبو”، وكان مثله يعلي الياقة فوق رقبته.

يجلس وحيدا. يطلب الشاي الأسود (ليبتون بالحامض)، ويخرج قداحة وعلبة سجائره السوداء من ماركة “أولمبيك” الحمراء. يدخن ويكلم نفسه، مسترجعا في صمت حزين أيامه الهاربة. ويكثر من تحريك أصابع يديه.

حكى لي الصديق الكولونيل حسن العلوي البلغيثي، أن مشعل من أبناء حيهم في درب “الأحباس” العتيق. كان نجما لامعا في شبابه الأول، عرف بأناقته وسيارته “السبور”، وعرف أكثر بنشاطه المتقدم في المجال الجمعوي، خاصة في فن المسرح. يقول الضابط العسكري والشاعر العمودي حسن، أن السي محمد مشعل فاق في شبابه كل أقرانه من أبناء المنطقة والدار البيضاء عموما.

كان محمد مشعل أستاذا للغة العربية. آخر مؤسسة عمل بها هي ثانوية جمال الدين المهياوي، بعمالة الفداء- مرس السلطان (الدار البيضاء).

لا زلت أتذكر جيدا المرات التي رأيته فيها بـحانتي “الماجستيك” و”لابريس” في شارع ابراهيم الروداني بحي المعاريف. قلّما تصادف من يطلب زجاجة ويسكي نهارا، ويعتلي طابورا ويضع مرفقه على الكونتوار. ينظر إلى من حواليه في البار من فوق، بكبرياء المشاهير. لقد ظل محمد مشعل مأخوذا بعوالم السينما الفرنسية والأمريكية وبأبطالها الوسيمين.

في “الخضرا” كنت أقترب منه، أجلس جنبه وأحاول النفخ في جمر ذكرياته الملتهبة، حتى تغطي وجهه أدخنة النوستالجيا الخانقة، فيتكلم بلا توقف. ولم يكن يهتم بتوضيح الأسماء والأحداث والمواقف، وأحيانا كثيرة كنت لا أستطيع اقتفاءه والإمساك بكل تفاصيل ومضامين محكياته. ليصبح بالنسبة لي كمن يهذي، وكان فعلا يغرق في هذيان بلا شواطئ.

زوجة صالحة بارة

مرة أخبرني محمد مشعل أن زوجته تهتم به كثيرا..

قال وهو ينفث سيجارة تراقص دخانها ملتويا أمام ناظريه:

إنها تعد لي الأكل في وقته. الفطور في الصباح، الغذاء في حوالي الواحدة، والعشاء في وقته أيضا. تقطع لي فاكهة البطيخ وتطعمها لي باردة. تصبن لي ملابسي وتكويها. ترتب لي أغراضي وكتبي. وتعتني بي كما ينبغي وأكثر.

ثم صمت.

 لم أعرف أنا بماذا أعلق على رجل يتكلم عن زوجته بكل هذا المديح والإطراء.

فقلت له:

 مزيان…

ثم أردفت:

– عليك يا صديقي مشعل أن تدعو لزوجتك بالرضى، وتحمد الله أن رزقك بامرأة صالحة بارة بك...

لم أكد أكمل جملتي، حتى فوجئت بمشعل ينتفض في وجهي. ثم رفع كفيه إلى سقف المقهى، وبدأ يدعو كأنه متجه للسماء:

 يا رب.. يا ربّي.. طيَّرْها عليا… يا رب…!!!

اندهشت. كيف يدعو على زوجته بأن يبعدها الله عنه، من كان قبل لحظة يغرق في مديحها..؟

سألته كيف تفعل هذا يا صاحبي؟!

فنظر إلي نظرة غامضة، لكنها كانت تبرق بالجنون:

 أنا باغي نجدد فراشي… وأنت مَالَكْ… !

جان مورو.. حب أبدي

مرةتحدثت مع محمد مشعل حول السينما. ووصلنا إلى فيلم من بطولة الممثلة الفرنسية جان مورو، وكانت أيضا كاتبة سيناريو ومخرجة. عملت مع كبار المخرجين، أمثال أورسون ويلز، وجان لوك جودار، وفرانسوا تروفو.

 لا أنسى كيف رفرفت عينا محمد مشعل وتملكت الرعشة يديه. وصار كله يرتعد.

عندما نطقت باسم النجمة الفرنسية الشهيرة، التمعت عينا مجالسي وتبللت شفتاه المدبوغتان بإدمان التدخين. أخذ مشعل يستظهر أمامي عناوين أفلامها وأدوارها المثيرة. وكان حافظا لسيرتها الفنية. ومما حكاه أن والد جان مورو كان صاحب بار، وأن والدتها كانت راقصة بريطانية.. ثم انتقل إلى الكلام عن واحد من أشهر أفلامها، لعبت فيه دور حسناء يقع في حبها رجلان ينتميان لطرفي الحرب العالمية الأولى. وقال إن الفيلم نسي ذكر رجل ثالث، كان أكثرهم صدقا في حبها. وسكت ينتظرني أن أسأله عن هذا العاشق المتيم. ولما لم أفعل طلب مني هو أن أسأله، فسألته. وكان جوابه أن أومأ بسبابته إلى صدره. قبل أن يقول ضاحكا:

– أخوك… أخووووك.. يا ميخي…

تمالكت نفسي، وقلت له:

– كان عليك أن تشعل حربا عالمية ثالثة من أجل أن تفوز بها.

فأجابني جادا:

– والله حتى نعملها.. كل شيء من أجل الحب يهون…

– أتعلم يا مشعل أن جان مورو كانت مدمنة، أقصد تدخن كثيرا؟

– وأنا أيضا مثلها، ربما هي من علمتني “الكارو” (السيجارة)..

رفع رأسه صوب السقف، وكمن يكلم نفسه قال: أنا نكميها.. نكميها… (أدخنها.. أدخنها..). ومج عميقا من عقب السيجارة.

وشبهها بكونها كانت حلوة وقصيرة.. تشبه سيجارة “جيتان” من دون فلتر…

ثم نسي كل من حواليه في مقهى “الخضرا” عندما بدأ يتأوه باسمها:

– “آآآه.. يا جااان مووووورووو… مون أموووور”…

و رأيت عيني الرجل المسن تدمعان. يومها اعترف لي محمد مشعل أن جان مورو هي حبه السري إلى الأبد.

ومن أجل التنكيت، أخبرت بعض الأصدقاء بقصة مشعل وجان مورو. لذلك حاول أحدهم في جلسة لاحقة  جر مشعل إلى الكلام في الموضوع:

 كان عليك يا السي مشعل أن تحمل صورتها في جيبك، ما دمت تعشقها.

 حدق صاحب مسرحية “التسخين” فيه مليا، وأرسل نظرات فارغة صوب الشارع، خارج المقهى. ثم عاد ورد بغضب:

 صورتها في القلب يا السّي “الكانْبو” الأحمق. (الأبله الأحمق).

عندما توفيت جان مورو سنة 2017، عن سن يناهز التسعين عاما، نعاها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ونشرت على صفحتي بالفيس بوك صورة ملصق لأحد أفلامها، مع كلمة كتبت فيها إن جان مورو ماتت دون أن تدري كم كان صديقنا محمد مشعل في الدار البيضاء يعشقها حد الجنون. ورأيت محمد مشعل يبكيها رغم أنه سبقها إلى العالم الآخر بأزيد من عقدين، وبعمر أصغر من عمرها.

مشعل السيناريست

لما عاد أحد تلامذته القدامي من الاتحاد السوفييتي، بعد إتمامه لدراسته في المعهد العالي للسينما بموسكو، وفكر في إخراج فيلم سينمائي لجأ إلى أستاذه القديم. محمد مشعل هو من كتب له سناريو الفيلم، بل قام بدور مهم في ذلك العمل السينمائي الذي فاجأ الجمهور وأثار ضجة عند عرضه في المهرجان الوطني للفيلم بطنجة، بحصوله على عدة جوائز، منها جائزة السيناريو. كان الفيلم بعنوان “حادّة” من إخراج السينمائي والتشكيلي محمد أبو الوقار (1984)، ويروي قصة فتاة تعرضت للاعتداء.

وحدثني مشعل عن إنجازه لسيناريو آخر سيخرجه تلميذه في مرحلة الثانوي محمد أبو الوقار، لكن هذا الأخير سيسافر إلى موسكو ليلتحق بالعمل في “استوديوهات غوركي”. قبل أن يعود بعد رحيل أستاذه، ويعرض لوحاته في “دار الفنون” بالدار البيضاء.

وفاة بريخت الأحباس

ذات صباح يوم أحد، كنا نجلس بـصالون براسري “لاكونكورد”، عندما وقف علينا رجل يلهث. سألنا هل أنتم أصدقاء محمد مشعل؟ ونعاه لنا قبل أن نجيبه. ثم أضاف أن بيت المرحوم بزنقة سالونيك خلف ليسي محمد الخامس، وأن الدفن سيكون بعد صلاة العصر.

خيمت لحظة صمت حزين، لكن أحد المسرحيين ممن كان معنا، خرق الصمت واعتدى على حزننا بسخرية ممجوجة:

 تبارك الله على هاد بريخت اللّي مات.

انفض الأصدقاء من حول المسرحي المستهتر وتركوه وحيدا. لكننا لم نمش خلف جنازة محمد مشعل في ذلك اليوم، بسبب  المطر.

لا زلت أحتفظ بنسخة من مسرحيته القصيرة “التسخين”. مع نص طويل من صفحات، مكتوب بخط محمد مشعل، سلمه لي في ساحة “مرس السلطان” مع صورة صغيرة له ملونة، نص كتبه كالوصية، نثر فيه كلماته الأخيرة وتأملاته في الفن والحياة.

Visited 3 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

عبد الرحيم التوراني

صحفي وكاتب مغربي، رئيس تحرير موقع السؤال الآن