“العقد الأخير في تاريخ سورية” لمحمد جمال باروت
لحسن أوزين
من زاوية تقليدية شائعة، في حدودها ومحدوديتها، في التحليل النقدي الذي يعتمد المعطيات الاقتصادية والاجتماعية والديمغرافية الإحصائية…، كإستراتيجية فكرية سياسية للإقناع بالتناول العلمي الملموس للواقع الملموس، يحاول محمد جمال باروت في كتابه ” العقد الأخير في تاريخ سورية” تفسير وتوضيح شرعية الثورة ومعقوليتها في منطق حركة تطور الواقع الاجتماعي السياسي الاقتصادي السوري، في ظل النظام التسلطي. وما خلفته سياساته الاقتصادية والاجتماعية من فقر وتهميش، واستبعاد اجتماعي سياسي للشعب المقصي، مما تحققه برجوازية الحبايب من رفاه النمو على حساب التنمية البنيوية الغائبة لباقي الفئات والطبقات الاجتماعية، وما يترتب على هذا من تغييب للحريات الديمقراطية. وهذا الوضع الجديد لم يكن إلا حلقة بنيوية مأزومة في سيرورة التركة الحرجة للتركيب الاجتماعي الاقتصادي السياسي للدولة الأسدية، الذي عمق أرضية موضوعية للفساد والتفكك المجتمعي، و تضعضع العلاقة بين الدولة والمجتمع.
وهي أرضية لبروز حركة الاحتجاجات والفعل السياسي الديمقراطي( المنتديات، اعلان دمشق…) لكن سرعان ما تعرضت للقمع، بسبب الطبيعة الشمولية التسلطية الى حد، جبروت القداسة الإلهية التي تنظر الى مفهوم الشراكة والمشاركة السياسية والمجتمعية، كشرك ديني بوحدانية النظام السياسي. حيث لم يكن ممكنا أن يتضمن في بنية سيرورته إمكانية أي فرصة ضائعة، كما يراها كل من عزمي بشارة ومحمد جمال باروت. هذه الطبيعة السياسية للنظام التي عجزت النخبة الثقافية والسياسية عن فهمها، وفهم ممارسته السياسية المرتبطة بإيديولوجية الإصلاح والتحديث، المرتبطة برئيس شاب. يعبر عن شكل سياسي لتأبيد وديمومة الدولة الأمنية التسلطية الأسدية. ” لم تستطع القيادة السياسية التي كان لبعض أشخاصها حضور قوي، أن تفكر في هذه المنتديات ونوياتها السياسية المحتملة والممكنة- في ضوء ما وعد به خطاب القسم من ” احترام للرأي والرأي الآخر”- وأن تقوم بعملية مأسستها، بل فكرت فيها في ضوء آليات الإقصاء والتسلطية التقليدية التي اعتادها على مدى سنوات طويلة، وشكل ذلك ” فرصة ضائعة” لتجديد الحياة السياسية، وتفعيل المشاركة المجتمعية”. (34).
لكن الفرصة الضائعة في نظرنا تتمثل في تعبير القوى السياسية والشعبية عن رفضها سطو العائلة الأسدية على الدولة الى حد التوريث.
يحاول باروت وضعنا في الصورة الخلفية لاندلاع الثورة، من خلال فهمنا لعملية التشكل الطبقي، وبنى التركيب الاقتصادي الاجتماعي التي يسيطر في مستواه البنيوي الاقتصادي، اقتصاد الريع، الذي تحكمت في استثماراته طبقة برجوازية مرسملة. ترتبط بشكل أو بآخر بالدولة وأجهزتها العسكرية والأمنية، في ظل التعددية الاقتصادية التي تجمع بين القطاعات العامة والخاصة والمشتركة. (38). والغريب في الأمر أن يبرر الكاتب وطنية حافظ الأسد وانتماءه التحرري بخبرته وتجربته الفذة في الحكم التي جعلت غورباتشيف المضعضع يسأل فخامة الرئيس عن سر حكمه لمدة طويلة . (44).
وفي هذا ايحاء للقارئ عن سر تخلي الأسد عن الإصلاح السياسي، واللجوء الى عملية ترقيع الانفتاح اقتصادي الذي يحتويه الريع المدعم ماليا بالمساعدات الخليجية، تفاديا لتفكك الوطن السوري. وقد تحدث الكاتب مطولا عن قناعة بإمكانية خطة مشروع للتنمية الانسانية( عملية التحرير وعملية التمكين والبناء المؤسسي). (50) في ظل نظام سياسي تسلطي أسس وجوده السياسي على تفكيك المجتمع، من خلال سياسة الهوية الطائفية والمذهبية والاثنية والمناطقية. مع التحكم في الأجهزة الأمنية والجيش، كقوة ردع في وجه الحضور السياسي للشعب وقواه الوطنية والديمقراطية. فهل يستقيم الإيحاء ببراءة النظام، حين بين الكاتب أن اعتراض الوزراء على مشروع الخطة في بعده المؤسسي أدى الى بلبلة القيادة القطرية التي تضطلع بالوظيفة السياسية؟
وهو ما نتج عنه مشروع لبرلة يفتقر للإصلاح المؤسسي، مما أدى الى تكون جذري لقوس الأزمات. لأن التحولات الاقتصادية، وما رافقها من عمليات التحرير، أدت الى هدر التصنيع. حيث كانت شريحة رجال الأعمال الجدد تفكر في قطف ثمار النمو على حساب التنمية الإنسانية، منشغلة بتضخيم مصالحها الخاصة. “فالهدف من الاستثمارات في المنظور التنموي ليس رفع معدل النمو، لأن رفع معدل النمو ليس هدفا في حد ذاته، إلا بقدر ما يرتبط بقضايا التنمية الإنسانية”. (75) ولذلك أنتج هذا الواقع فسادا كبيرا بين هؤلاء والبروقراطية، أي في الجمع بين التحرير والارتباط بالدولة.
ونحن نتتبع تحليلات الكاتب المفصولة كليا عن طبيعة الدولة الأسدية والنظام السياسي، والبنى الصراعية السياسية والاجتماعية السائدة، عبر هذه السيرورة التاريخية، لما عرفته الدولة من تحولات اقتصادية، الى درجة يرسخ لدى القارئ العادي على أن الدولة بريئة، وفوق الطبقات. وأن الفاعلين الاقتصاديين والبروقراطيين، هم الذين تسببوا في كل الكوارث التي عرفتها وستعرفها البلاد مستقبلا. نخلص من هذا الى قناعة فكرية لدى الكاتب بإمكانية الإصلاح، بمعزل عن طرح النظام السياسي كموجه ومؤطر وناظم ومحرك للفاعلين ولقواعد اللعبة الاقتصادية السياسية. والأكثر من هذا أن جمال باروت يتحدث عن ممانعة الاقتصاد السوري، (89) الذي واجه تحديات طبيعية(الجفاف) وإقليمية ودولية وخرج منتصرا. وكان بإمكانه أن يركب موجة إصلاحات مؤسسية تمكينية.”كانت مصر وسورية وكوريا الجنوبية عام 1960، عند المستوى نفسه تقريبا من حصة الفرد، في الناتج المحلي الإجمالي، أما اليوم فإن الناتج في كوريا الجنوبية، التي ربطت سياسات التمكين بالتحرير، يفوق عشرة أمثال الناتج المحلي المصري”. دون أن يحدثنا عن معدل نمو الحريات الفردية والديمقراطية والقانونية والمؤسساتية، والسيادة الشعبية والحياة المدنية…
مضحك الى حد السخرية هذا التحليل الذي يستثني المستوى السياسي والايديولوجي، من مقارناته بالإمكانات والفرص الضائعة، التي كان من الممكن تفعيلها من قبل الدولة الأمنية اللاوطنية واللاديمقراطية، في سياساتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. بهذا التحليل المسكون باللاشعور المقاوم والممانع، نفهم الأخطاء التي كانت وراء صناعة الأسباب المحركة للثورة السورية، التي أنتجتها فقط في نظره “عملية اختزال الإصلاح المؤسسي الى برنامج تحرير اقتصادوي ليبرالي متهالك على جذب الاستثمارات بأي ثمن، بغية رفع معدل النمو الكمي”. (95).
صحيحة كل الخلاصات الاقتصادوية، في الفقر والتهميش والترييف التي ينتهي إليها تحليل محمد جمال باروت، لكنها عاجزة عن تفكيك خلفياتها السياسية، التي تجعل عبارة (يمكن) التي يكثر منها الكاتب مجرد تخيلات وهوامات بعيدة عن طبيعة النظام السياسي، في سياساته ومصالحه الضيقة، البعيدة عن الشعب في حياته وطموحاته وتطلعاته. فهو نظام لا يمتلك شرعية شعبية. ولعل في قمعه الدموي للشعب خير دليل. والكاتب لا يكف عن بحث تبريرات للنظام، غير الوطني وغير الديمقراطي وغير الشعبي، في ما يسميه “ضعف الإصلاح الضريبي وتأخر الإصلاح الإداري والمؤسسي، وضعف الشفافية والافصاح، وفساد الجهاز الضريبي، وجمود اصلاح القطاع العام تقريبا”. (102) بالإضافة إلى أن سوريا في نظر الكاتب ذهبت ضحية الانعكاسات السلبية لسياسات العولمة على البلدان الضعيفة. صحيح أن الكاتب يقدم أرقاما وبيانات ومعطيات وضعية، وإحصائيات حول غياب التنمية الإنسانية وتعمق الفقر، ومعدلات البطالة التي لا تكف عن الارتفاع، خاصة بين الشباب، وتهميش القطاعات المنتجة: الصناعة والزراعة. كما فصل بشكل دقيق حول العمليات والسيرورات التي عاشها الاقتصاد السوري على مستوى النمو والتضخم. لكن السؤال ظل معلقا : لماذا لم يتم تفعيل الإصلاح؟ ولماذا تم تجاهل عملية التمكين والاكتفاء بالتحرير الاقتصادي؟ (121) هل السر مرتبط برغبة ذاتية وضيق في الرؤية والممارسة، أم أن مصالح اجتماعية سياسية فئوية هي التي تحكمت في الديناميات الاقتصادية والاجتماعية، أي إرادة سياسية ليست لها ارتباطات بالتنمية الإنسانية الوطنية لأغلبية فئات المجتمع؟ “إجمالي المرحلة برمتها، ولد أمرا جديدا في المجتمع السوري، هو نويات عملية التغيير والتحول من التسلطية الى الديمقراطية، وبالتالي تعريف التنمية على أساس مفهوم التنمية الإنسانية. في هذا السياق كان الإصلاح المؤسسي يمثل دينامية واقعية ومحتملة للتحول الديمقراطي، لكن هذه المحاولة هدرت وضاعت، على نحو لم يعد ممكنا معه النظر الى المنهج الإصلاحي المؤسسي، إلا بمفاهيم ديمقراطية خالصة”. (136).
لم تكن هذه المحاولة ضرورة تاريخية في تطور سيرورة النظام السياسي السوري. فهو كان في ممارسته السياسية لاجما ومعيقا لأي حركة تطور من هذا النوع. لأنها تهدد وجوده السياسي، بسبب طبيعته غير الوطنية. لذلك كان طبيعيا أن يمضي وفق عملية التحرير التي تزعّمها برفقة رجال الأعمال الجدد، مركزا على معدلات النمو، تبعا لمصالحه التي لا تتقاطع مع مصالح التنمية الشعبية، والتوجه الديمقراطي لعملية الإصلاح المؤسسي. ولم تكن تحولاته من نظام تسلطي شعبوي صلب الى نظام تسلطي مرن، لتعني تخليه عن جهاز الدولة في حقيقته الاجتماعية السياسية، كجهاز قمعي بامتياز كبير. لذا كان واثقا من قدرته على فرض الإذعان والخنوع إزاء ما تنتجه الآثار السلبية للتركيز على النمو، دون أي اعتبار للتنمية الإنسانية التي جعلت أغلب مختلف فئات المجتمع، ما دون خط الفقر، كما بين ذلك محمد جمال باروت، مع الإيحاء بأن بعض الفئات وجدت نفسها في مستوى ما دون خط البشر.
غالبا ما يطرح الكاتب مفاهيم وأطروحات نظرية تبدو تحليلية نقدية، كما أشرنا إلى ذلك، ليبين لنا سيرورة المسارات الاقتصادية الاجتماعية التي فجرت الاحتجاجات، وكانت بمثابة انطلاقة للثورة. لكنه طرح معزول عن الواقع الحي الذي يجعل تلك المفاهيم متورطة في الخلفية الايديولوجية للنظام، في صراعه الاجتماعي السياسي الذي يخوضه بالتحالف مع رجال الأعمال الجدد/القطاع الخاص. نقصد هنا انتظارات جمال باروت من مثلث: الدولة والقطاع الخاص والمجتمع الأهلي. ينتظر جمال باروت، في ظل الاستبداد الأسدي، أن يفرز الوضع الجديد مجتمعا مدنيا فاعلا بجمعياته المدنية. للأسف فالتجربة العربية رغم تفاوت استبدادها لم تنتج في هذا السياق التسلطي الاستبدادي، سوى جمعيات المجتمع القبلي الطائفي المناطقي…، تكريسا للانقسامية الاستعمارية البعيدة كليا عن مفاهيم الإصلاح، المؤسسية ، اللبرلة…، إنها تنهض على الضد من ذلك لتنسجم مع سياسة النظام في استغلاله السلبي السياسي الاجتماعي لتعددية مكونات المجتمع الثقافية والسوسيولوجية والدينية…، عوض تحويلها الى إطار وطني جامع لكل المكونات.
المتنفس الوحيد، كمجال وفضاء عام، الذي فرض نفسه في صالح القوى الوطنية الديمقراطية والشعبية، هو الشبكة المعلوماتية، ومختلف وسائل التواصل والاتصال بما في ذلك الفضائيات. كل هذه الوسائط وفرت إمكانيات للتعبيرات المعارضة والنقد، خاصة من قبل الفئة المتعلمة الشبابية من مختلف الفئات الاجتماعية، للتوحد والتعبئة والتنظيم والتوعية لخوض أشكال احتجاجية على الميدان. وهي احتجاجات حاولت أن تجمع بين المطالب الاجتماعية والحريات الديمقراطية، وهذا ما عجزت المقاربة الاقتصادية عن مقاربته بدقة. لأن رؤية الكاتب لم تتناول بالتحليل الدقيق حركة التفاوت التطوري للصراع السياسي بدل الاكتفاء بعلاقة التحدد الاقتصادي التي تجعل من الفقر والهشاشة والتهميش… شروطا كافية لموضوعية الثورة في انبثاق الفعل الفجائي العشوائي.
كما حاول الكاتب أن يشير الى التحولات العالمية، والمتغيرات الدولية التي أدت الى انهيار المعسكر الشرقي، وما تبعه من أزمات. فرضت نوعا من الانفتاح السياسي، بفعل الاحتجاجات الاجتماعية التي مهدت بشكل أو بآخر للاحتجاجات الديمقراطية، ابتداء من الثورة التونسية. لكن ما سمي بالإصلاحات العربية ومنها السورية لم تكن في حقيقتها سوى جسرا، ومسوغا لتهيئة أرضية شرعية انتقال السلطة، أو بشكل أدق تسهيل عملية السطو على السلطة من خلال آلية شرعية التوريث. وهي بعيدة عن تحول أو انفتاح سياسي، بقدر ما هي معاودة إنتاج الشكل السياسي للتحكم التسلطي المناسب للتغيرات الدولية. وما فرضته من رياح التغيير الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، بفعل تحديات العولمة.
لم يكن الاستبداد العربي مؤهلا للاستفادة من الفرص وتجنب المخاطر، بفعل القبضة الأمنية الشرسة للأنظمة التي جعلها تعقد الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، الناتجة عن سياسة النهب والفساد. والقائمة على مشاريع التحرير الاقتصادي، االمؤسسة على سياسات النمو الذي تزداد فيه القلة والأقلية الحاكمة ثراء فاحشا غير مشروع، والشعب غارق في الفقر والذل واكراهات التهجير. “لقد حكمت هذه الخلفية الاجتماعية- الاقتصادية اندلاع حركات الاحتجاج الحادة في المدن السورية الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، وطرحت أسئلة حادة عن نهاية حقبة كاملة من نموذج النمو التسلطي الملبرل. وعبرت عن نفاذ الصبر على تسلطية نظام قديم غدا هشا في بنيته المؤسسية، بينما بات هذا النظام غير قابل للاستمرار وفق دينامياته السابقة، ووهنت استراتيجياته في الهيمنة، وتقوضت قواعد عقده الاجتماعي، فالنظام لم يعد قادرا على الحكم بالوسائل القديمة من دون أن يتحول الى قوة قمع عارية، كما صار المجتمع غير قابل لاستمرار الانصياع له من دون تغيير جوهري في بنياته”. (165).
إن سر اضطراب التحليل ومنطق التفكير النقدي في كتاب جمال باروت يعود الى تغييبه الصراع السياسي الاجتماعي في حركته التاريخية المتمفصلة بالمستوى الاقتصادي. وإدراكنا لهذا السقف الأيديولوجي في الرؤية السياسية الفكرية، يمكننا من فهم الكثير من التناقضات الواردة في كتاب جمال باروت بين تحليله الاقتصادي الدقيق والمسند بمعطيات علمية في نتائجها الاجتماعية الاقتصادية الكارثية على مستويات الفقر والتهميش والترييف…، وفي القضاء على بيئة الحياة الشيء الذي جعل سورية في وضعية قابلية للثورة، وبين القول بالعامل الفجائي العشوائي المتمثل في المثير الأمني للعنف السلطوي، خارج إرادة النظام التسلطي الذي كان يميل الى الحل السياسي. سطوة الأيديولوجي في التحليل تغرق كل الخلاصات العلمية التي ينتهي إليها محمد جمال باروت في مستنقع القناعات الايديولوجية. هكذا تفسد الأيديولوجية التحليل العلمي وتجعله مبتورا الى حد التناقض. وبسخرية لاذعة تجعل الكاتب يسقط في هنات غريبة قريبة من فكر المؤامرة، التي تشتغل داخل النظام ضد النظام كأب طيب حام بنواياه الحسنة في الإصلاح والتغيير. والبريء من جميع التناقضات الاجتماعية الحاصلة بفعل ممارسته السياسية للصراع الاجتماعي السياسي الذي أدى الى التهميش والترييف والانقسامات. وهدم المحيط الايكولوجي الحي، أي القضاء النهائي على بيئة الحياة في الكثير من المناطق السورية. يعني هذا أنه ليس انطلاقا من المقاربة الأمنية تفهم الاحتجاجات الشعبية.
وتظهر سطوة الإيديولوجي على فكر المؤلف من خلال تسرب لاشعوره السياسي، وهو يحاكم الكارثة السورية من خلال ما حصل من سياسات تسلطية متلبرلة في العقد الأخير فقط. “فقد كان عقد عاصف من السياسات التسلطية المتلبرلة، التي قادتها شريحة من رجال الأعمال الجدد أو المئة الكبار في سورية، وهشاشة سياسة التنمية المناطقية، كان كافيا لتآكل ما حققته سورية من تقدم في مجال التنمية الإنسانية في الأرياف المتمدينة”. (309)، وتبعا لهذا الوعي الفكري والسياسي عند محمد جمال باروت ينبغي فهم دلالات عنونته للكتاب ” العقد الأخير”. وهذا يعني أنه راض بشكل أو بآخر على ما حققته الأسدية من قبل هذا العقد من تنمية إنسانية. لولا عماء الحكومة السياسية في اقترافها بعض الأخطاء، خاصة في العقد الأخير، حيث كان يمكن أن تتجنب سورية ما يسميه الاضطرابات والاحتجاجات الناجمة عن المثير الأمني الذي لعب لعبته الخطيرة من وراء ظهر الرئيس الذي فقد في لحظة فجائية عشوائية سلطته الفعلية، فتفجرت الانتفاضة السورية.
لكن المؤلف في الصفحات نفسها من الكتاب ذاته، يناقش بعمق كيف أن هذه السياسات حولت حياة الناس الى جحيم، بفعل انهيار نظام الحياة في مناطق الأطراف، مثل ريف دمشق وما حدث من تشليح في المعضمية ضد الساكنة التي وجدت نفسها عارية في العراء، بدون أرض. هكذا رمت السياسات الحكومية بالشعب في “مصيدة الخراب البيئي والتنموي… كان الفساد الحكومي يدمر-على المدى القريب- نظام الحياة في دمشق الكبرى كلها، ويرتكب أكبر الجرائم الكيانية في تاريخ هذه المدينة، منذ فجر عمرانها الأول، لتغدو دمشق، منذ سنوات مدينة تقف على حافة العطش”. (312).
إزاء هذه المعطيات الدقيقة والصحيحة، التي يطرحها الكاتب بتحليل عميق، يتشكل السؤال حول فرضيته العشوائية المتعلقة بالمثير الأمني، كإجابة موضوعية في صيرورة الضرورة التاريخية، وهي تعلن عن منعطف تاريخي جديد، من خلال تفجيرها لعوامل الانتفاضة والثورة. وفي الوقت نفسه على الضد من ذلك، يصل الكاتب الى إحدى خلاصاته العميقة والمنسجمة مع تحليله العلمي” ماذا بقي لهؤلاء؟ الجواب بسيط: الاحتجاج والانتفاض والثورة”. (311). هكذا يتدخل الايديولوجي فيعري شيئا من اللاشعور السياسي عند الكاتب لكونه يتوهم إمكانية وفرصة أن يغير النظام ذاته، ولا يورط نفسه في استراتيجية القبضة الأمنية الشرسة التي دفعت بالكل، النظام والشعب نحو الدمار والخراب والكارثة. وإلا فما معنى هذا التخريج لانفجار هذا الوضع اللاإنساني من طرف المثير الأمني كما يزعم الكاتب؟ “السلطة الفعلية استعادت دورها وقوتها في التحكم في قرار الرئيس نفسه، وايقاعاته بعد اندلاع الأحداث… ولم يتم الانتقال الى المرحلة السياسية عبر صيغة مؤتمر الحوار الوطني. وتحولت التظاهرات السلمية الى اضطرابات في معظم الحالات، كما دفعت في الوقت ذاته مجموعات محلية في بعض المناطق، الى التسلح الذاتي، أو بواسطة الاستيلاء على بعض مستودعات أسلحة الجيش نفسه”. (347).
وخدعة التجاذبات و توزيع الأدوار، والايحاء بنوع من الانقسام المهدد لكيان النظام التي يصادق عليها المؤلف سرعان ما ينفيها بقوله: إن النظام متسق إستراتيجيا في النهاية. والغريب في الامر أيضا أن يعتمد المؤلف في تحليله الاقتصادي الاجتماعي على المقارنات بين ما يعتقده الأفضل، أي ما قبل العقد الأخير، وبين الأسوأ وهو ما يعبر عنه العقد الأخير. أو حين يفكر حياة الناس في 2007 مقارنة بما كانت عليه في 2004، وأيضا حين يعتمد مفهومي المركز والأطراف، بمعزل عن الصراع السياسي العنيف الذي يخوضه النظام في حق الشعب وقواه الوطنية والديمقراطية، لقراءة الواقع السوري. موهما القارئ على أن هناك مركز متمثل بالمدن المليونية تعيش حياة إنسانية حقيقية، في الوقت الذي كانت فيه أغلب الفئات المجتمعية، خاصة الشباب تستميت من أجل البقاء في ظل واقع غارق في فقر القدرات منذ سطوة آل الأسد على السلطة. يعني الحرمان من الحرية التي لا يمكن التفكير فيها خارج مواردها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. هكذا يؤثر الايديولوجي على ما طرحه محمد جمال باروت من تحليل وأفكار، تجعلنا نفهم أن سيرورة النظام السياسي الأسدي، في جذوره التاريخية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ما كان لها أن تتكون وتطور إلا من سيئ إلى أسوأ. وبالتالي فالاحتجاج على الطرفية والهامشية والفقر والبطالة والتسلط الحكومي والسياسي، هي في عمقها احتجاجات ضد نظام سياسي في ممارساته السياسية للصراع السياسي والاجتماعي الاقتصادي، من خلال مزاوجته بين الاستراتيجية الأمنية، وإطلاق وعود الدينامية السياسية. ” يبدو أن تعزيز الحريات الديمقراطية بشكل مستدام من خلال تغيير متفق عليه مع جزء من الطبقات الحاكمة، لهو أكثر توهما بكثير في العالم العربي مما كان عليه فيما مضى في عهد الملكيات المطلقة الأوربية، أو حديثا في عهد الديكتاتوريات البيروقراطية في أوربا الوسطى والشرقية”. (98).
* محمد جمال باروت: العقد الأخير في تاريخ سورية: جدلية الجمود والإصلاح (ط 1، س 2012).