“الرُّوخُو” في ضيافة الجلاد قدور اليوسفي
شهادة المعتقل السياسي السابق محمد السريفي في “درب مولاي الشريف”
تم اعتقالي يوم 10 نوفمبر 1974 حوالي الساعة التاسعة إلا ربع، بضع ساعات قبل أن يقع أبراهام السرفاتي (المعروف بالدمناتي) في شباك الشرطة السياسية.
كنا نقيم بشارع كامب توربان (camp Turpin) بالدار البيضاء. كنا نعمل في السرية بعد إدانةٍ بالمؤبد غيابيا. لم تكن السرية أبدا خيارا سياسيا، لكنها كانت رد فعل على خنق الحريات وملاحقة كل معارض لنظام الحسن الثاني. كانت كل معارضة تعتبر مسا بأمن الدولة.
عشية هذا اليوم (10 نوفمبر)، كنت قد رقنت وطبعت بيانا داخليا حول اعتقال رفيقنا عبد اللطيف زروال، كنا نخشى الأسوأ على حياة زروال الذي سيستشهد تحت التعذيب يوم 12 أو 13 من نفس الشهر. تم اعتقاله مع قسم كبير من قيادة “23 مارس”. كان البيان يحث الرفاق على وقف كل علاقة تنسيق مع مناضلي “23 مارس” وترك المنازل التي يعرفونها .
في رقم 30 من شارع كامب توربان، كان يوجد المقر السري للجهاز التقني لمنظمة “إلى الأمام”.
حوالي الساعة التاسعة إلا ربع صباحا، من ذات اليوم 10 نوفمبر، رأيت سيارة تتوقف لتوها أمام باب العمارة، وكانت امرأة تحمل بين يديها طفلا تحاول إرضاعه، تتكئ على إحدى أبواب السيارة المفتوحة. كنت أتأهب للخروج حين انبثق عن السيارة، ذات الإيحاء الأمومي جدا، أربعة رجال غلاظ ارتموا علي، وكان النور الذي وصلني وأنا تحت جثث هؤلاء الذين يخنقونني آخر نور رأيته، إذ كان علي أن أنتظر 17 عاما وبضعة أشهر لرؤية نور بيضاوي خريفي جميل مرة أخرى .
في نفس ذلك اليوم (10 نوفمبر 1974)، سيبدأ جحيم “درب مولاي الشريف”، سيشرع سيد المكان، ملاك الموت، بتشغيل الآلة الجهنمية للتدمير الجسدي والمعنوي لمئات الرجال والنساء .
هذا الرجل (السيد)، الذي سيوشح الحسن الثاني صدره، في شهر نوفمبر ذاته بالوسام العلوي، اعتبارا للخدمات التي قدمها للوطن، كان يحمل اسم اليوسفي قدور .
تركزت جهود فرقة الجلادين على معرفة هوية رجل يلقب بـ”الرُّوخُو”. كان في نظرهم المسؤول عن الجهاز التقني. كان أحد الجلادين ينظم عمل الجوقة، يبدو أنه يملك معلومات أكثر، وأنه على دراية بشبكات المجموعات الثورية. هذا الرجل الذي كانت نبرة صوته حاسمة في عمليات التعذيب – سنعرف ذلك بعد مرور الشهور والأعوام، هذا الرجل لم يكن سوى رب فرقة الشرطة القضائية بـ”درب مولاي الشريف”.
بدا لي أن قلبي سينفجر، شعرت بأن رئتيّ مغمورتان بالمياه العادمة و”الغريزيل” (منظف منزلي سام). كان رأسي الملقى إلى الخلف – وأنا معلق – مغطى كاملا بخرقة، وكان أحد الجلادين مهتما بتنظيم جرعات الاختناق. لم يعد أنفي ولا فمي يستنشقان هواء، أحسست بأني في قاع محيط، بأني ميت، لم أعد أتنفس ولا أسمع لا دقات قلبي ولا الأصوات المصاحبة للضربات على قدميّ. كم مر من الوقت قبل أن أستفيق؟ بضع ساعات؟ بضعة أيام؟ بضع دقائق؟ كم وقت مر؟
قبل أن أستفيق، وأنا مقيد اليدين معصب العينين، على ركلة أصابت الكليتين، وأحدهم يقول لي: “أفق رقم 40! انهض أيها الكلب، راه المعلم بغاك”.
هذه المرة وجدته أمامي . شممت – وأنا معصب العينين دائما – رائحة عطره القوية، أحسست أنه لم يكن طويلا، فصوته يصلني إلى مستوى الكتفين، وحذاؤه المصنوع من جلد “بوردو” (بني مائل إلى الحمرة) كان صقيلا، يتحدث لغة فرنسية كواحد تابع دراسته بمدارس البعثة الفرنسية. كان يجد متعة في أن يقول لي بأننا قد انهزمنا تماما، وأنه يتوجب علينا الاعتراف بكل شيء، وأن جميع رفاقي قد فعلوا.. وأنه مستعد لوضع حد لهذا الجحيم والعمل على إرجاعي إلى عائلتي.. فأراني مفتاحا أصفر كبيرا نوعا ما، وقال:
– أنت من ستقرر مصيرك ، الحياة أو الموت ! إنه مفتاح خزنة، أنت وحدك واليهودي (يقصد رفيقي أبراهام السرفاتي، الذي كان يهودي الديانة).. من يعرف أين توجد الخزنة. إذا أخبرتنا ستنجو بنفسك.. وإلا… جاءتني تعليمات من البطرون لتسليمك إليه .
مشكلتي و”خلاصي” يكمنان في كوني لم أر أبدا هذا المفتاح ولا أية خزنة. نفيي كان بداية كابوس لم أدْرِ كم دام: يوما، أياما، ليلة، أسابيع!!..
كل ما حكاه رفاقنا عن التعلاق والطيارة والصعق بالكهرباء والضرب بالسياط على بواطن الأقدام والخنق والإحساس بالموت المحقق، كلها أساليب تم استعمالها .
بعد هذه الحصص فقدت الوعي بمرور الزمن تماما، واختفت الخطوط الزمنية نهائيا. لم أعد أميز إن كان الزمن فجرا أو مساء، أو إذا كانت الشمس تلمع في كبد السماء، ومع ذلك ذات ليلة، أو ما كنت أعتقد ليلا، ليلتي أنا، حلمت – وقد ظل حلما موشوما في ذاكرتي – أن ابن أخي الصغير لم يتوقف، وهو يتسلل تحت الغطاء، عن سؤالي: – قل لي: 8×3 كم تساوي؟ كم؟ أعد بصوت مرتفع كي أسمعك.. قل لي ذلك بصوت عال.
أيقظتني ركلة لطيفة: ما قصتك مع الرقم 24؟
وبعد هذا الـ 24 دجنبر أخذ اليوسفي قدور حصص التعذيب بيديه جديا. ماذا وقع حتى يتورط “شخصيا” في كل مراحل التعذيب، في حين كان قبل ذلك يبدو أنه يدير هذه الحصص المرعبة كرئيس جوق؟ هل هو استشهاد زروال عبد اللطيف تحت التعذيب؟ هل هو العنف الرهيب الذي مورس على عبد الله زعزاع الذي مزقته السياط؟ هل هي حالة أبراهام السرفاتي الصحية أو أنه فقط قرر مراجعة أسلوبه تبعا للمعلومات التي راكموها بالقوة من هؤلاء وأولئك؟ وبما أنني كنت تائها في الزمن، لا أستطيع تحديد من أو ما جعل اليوسفي قدور “يتورط شخصيا” في كل حصص التعذيب .
بدا اليوسفي قدور مستعجلا لمعرفة مكان وجود الخزنة والمنازل التي يوجد بها الرفاق، الذين لم يعتقلوا بعد، ومعرفة هوية “الرُّوخُو”..
إلى حد اليوم لا أستطيع مس واصل كهربائي ولا إصلاح غشاء لتغيير مصباح كهربائي، منذ ليلة الصعق تلك، أحس برعشة تذكرني بحَرق ماكر يجتاح كامل جسدك، مسبوقة بصرير حاد يهزك ويعنّف كل عضلات الجسم، لكني لا أستطيع الكذب لأنني بكل بساطة لا أعرف..
كان اليوسفي قدور يعتبر صمتي رفضا للتعاون، حينها تنهال علي الضربات مصحوبة بالصعق بضراوة مضاعفة، كما تتضاعف دقات القلب.. وهذا ما جعلني أشعر بوجود شخصية جديدة أثناء حصة التعذيب. علمت أنه طويل القامة، أطول من اليوسفي قدور على كل حال. كانت هناك يده على صدري، ليعرف إذا كان قلبي سيتحمل الصعق. هذا الرجل اسمه الحسوني الممرض، الذي قيل إنه حضر اغتيال المهدي بنبركة. كان الحسوني يحلق فوق رأسي مثل ملاك الموت، أخذ يهتم بإعادتي إلى الحياة بعد كل حصة . (يتبع)
ترجمها عن الفرنسية: محمد بولعيش