ضيفا على بورخيس

ضيفا على بورخيس

     أفق: يكتبه صدوق نور الدين

  1

إن الصورة التي يكشف عنها الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل منذ كتابه: تاريخ القراءة وإلى مكتبة الليل 2006، صورة القارئ اللانهائي. أقصد من التحديد، أن مانغويل الكاتب هو القارئ بداية وأصلا. يتمثل هذا في الولع الدائم بالكتاب، وفي صيغة التفكير عن الكتاب بالكتاب نفسه. لذلك كانت مادة كتبه واشتغاله الأساس والدائم، عالم الكتب المثير…

2

على أني في هذه الكتابة سأتوقف قليلا عند مؤلفه: ضيفا على بورخيس.. ويمكن القول بأنه من أقوى الكتب التي أسهمت في كشف جوانب من حياة خورخي لويس بورخيس في كافة مستوياتها: معنى ودلالة…

3

يضعنا تلقي ضيفا على بورخيس أمام سيرتين فكريتين:
أ – سيرة مانغويل: وضمنها نقرأ بداية قصته مع بورخيس …
ب- سيرة بورخيس الجامعة: من حيث طقوس العيش وفضاءات القراءة…
يحكي مانغويل في سيرته نشأة علاقته بالمكتبة / المكتبات. هذا الانشغال يندرج في استكمال الدراسة، مثلما أنه أفق مفتوح على اللقاء بالكتاب والمبدعين. ومن هؤلاء كان بورخيس: كنت أعمل خارج أوقات الدراسة في إحدى المكتبات الأنجليزية الألمانية في بويينس آيرس هي مكتبة بغماليون التي كان بورخيس يتردد عليها بانتظام…
انبثقت العلاقة عن دعوة مؤداها الرغبة في القراءة.. قراءة مانغويل على بورخيس الذي مات في عماه، وأرهقت أمه: سألني إذا ما كنت أقبل، لو لم أكن مرتبطا، أن آتي إلى منزله في بعض الأمسيات لكي أقرأ له، لأن القراءة باتت ترهق والدته التي جاوزت التسعين من عمرها…

جاءت الدعوة إذن لترسم صورة وافية دقيقة عن حياة كاتب شغل الأدب والأدباء بمنجزه الإبداعي الذي يقع بين حافتي الخيال والواقع، وبآرائه النقدية الفكرية التي اختارت مرجعية النص منطلقا ومتكأ حتى أن روائيا أرجنتينيا ما نويل موخيكا لانيت خاطب الجيل الجديد بنص صيغ على نمط قصيدة قصيرة: إلى شاعر يافع، لا جدوى من سعيك وراء خطط العظمة لأنك مهما كتبت وجدت بورخيس سباقا…

انطلق مانغويل في الحديث عن هذه الضيافة، من وصف مكان الإقامة: شقة الكاتب العالمي. هذه مثلما يوحي الوصف، توازي مستوى ثقافته. إنها قائمة في / وعلى امتداد عصور يشد الحنين إليها.  فثقافة البيت متمثلة في أشيائه، وتعادل فكر وثقافة بورخيس: منذ زياراتي الأولى بدت لي شقة بورخيس كأنها قائمة خارج الزمن، أو كأنها، في الأقل قائمة في زمن قوامه تجارب بورخيس الأدبية، زمن مركب على إيقاع العصور التي شغف بها، عصر أنكلترا الفيكتورية والحقبة التي تلتها…
إن بورخيس من خلال فضائه المختار  والمنتقى، يعيش داخل الزمن و خارجه. هذا الما بين قاده إلى الحلم بالكتابة وبالتعبير .قاده للتفكير  في أن يصبح كاتبا، مادام ذلك يندرج في المجد العائلي، وكأن لا انتماء، إلا بالانتماء الإبداعي، ولا هوية إلا هوية الكاتب. كان بورخيس موقنا منذ صغره من أنه سيغدو كاتبا وقد أقر بدعوته هذه بوصفها عنصرا من عناصر الميثولوجيا العائلية…
إلا أن العمى الذي لحقه فيما بعد قاد إلى عزلته، ومن ثانية إلى التفكير في ابتداع صيغة من صيغ التأليف والكتابة. لذلك كانت الكتابة تتم وتتحقق في الذهن، باعتماد التكرار، بعد الإملاء على كائن ما. هذه الصورة أرست تقليد الشفوي عوض المكتوب مباشرة والمتحكم فيه. لذلك لم تحظ حصيلة من الفنون باهتمام بورخيس. أقول لم تشكل انتماء إلى عالمه الخاص والمتفرد، كما يقر مانغويل: فالعمى كان يجعله أسير محبسه المنفر حيث ألف أعماله الأخيرة، ناظما أبيات الشعر في ذهنه مرارا وتكرارا حتى تغدو صالحة للإملاء على الشخص الذي يصادف وجوده بقربه. عالمه كان شفاهيا، الموسيقى والألوان والأشكال لم تكن جزءا منه على الإطلاق…

على أن بناء شخصية الكاتب، العالم والعارف، وليدة الولع بالكتاب. فكل ما هو كائن وسائد تختزله الكتب وتعيد إنتاجه بما يوافق المعنى الدائم والمستمر، والمتحول بعد إلى ذاكرة يسترفد منها الجميع..
بيد أن فرادة القراءة البورخيسية تتحدد في النوع المأثور لديه. إنه الملحمة فالكتب ترمم الماضي.. كان بورخيس يرى أن ما هو جوهري في الواقع إنما يكمن في الكتب، تأليف الكتب، الحديث عن الكتب.
إن مانغويل وهو يكتب سيرة بورخيس في لحظة دقيقة، لحظة الرغبة في الاستمرار في / وبالقراءة، لم يكن ليهمل الحياة الأخرى، الجانب الإنساني في مسار الكاتب العالمي، أقول نمط عيش المؤلف كان بورخيس يعشق المحادثة، وفي مواقيت الوجبات يختار أطعمة خفيفة كالأرز الأبيض أو المعجنات كي لا يلهيه الطعام عن النقاش…

لقد اختار مانغويل تدوين جزء من سيرة بورخيس.. وتتمثل في المرحلة التي أمضاها في صحبته قارئا متعرفا عليه، وعلى عالمه الشخصي الذات. إنه يرسم صورة المثقف الجامع، والقارئ الولع والكاتب المتأمل…
على أن في هذا الكتاب على صغر حجمه، نتقصى على السواء صورة القارئ المصاحب الذي يمتلك ثقافة موازية، وحسا يدعو إلى المقارنة والتفسير والتأويل. فمانغويل بدوره له ولعه الخاص والمتفرد بالكتب والمكتبات. من تم فإن كتابته تدوينية ليوميات فعل القراءة وما صاحبها من نقاش و حوار مثمر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 * نشر كتاب “ضيفا على بورخيس” ضمن ترجمة: “من كتاب المخلوقات الوهمية”. ترجمة: بسام حجار (المركز الثقافي العربي بيروت / الدار البيضاء).. و الشواهد المعتمدة مأخوذة عن الكتاب.

ونشير بالمناسبة إلى ترجمتين لاحقتين  حملتا كعنوان “مع بورخيس”. صدرت الأولى عن دار الساقي  والثانية ضمن كتاب مجلة “الدوحة”.

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

صدوق نور الدين

ناقد وروائي مغربي