عندما قالت: أنا “شهرزاد”..!

عندما قالت: أنا “شهرزاد”..!

د. محمد الشرقاوي

قصيدةٌ مهداةٌ إلى صديقٍ غالٍ في محبّته، ورجلٍ عاشقٍ للحياة زاهدٍ وزاهٍ ومزهوٍّ ببهجة الوجود، وشهمٍ تقتبس الشهامةُ قلمَ الحبر منه لكتابة اسمها، وعنوان سكناها، والغاية من وجودها.

 

طارتْ بي أسفاري ذاتَ يومٍ

إلى بلادٍ نائيةٍ في أقصى الشرقِ

مبعوثًا من منظمةٍ إلى دولة لها

في التّعاون اعتباراتٌ وأسبابُ  

 

ملفاتٌ من حقيبةِ اليد أُطَالعُها،

والشرقُ يغدو أبعدَ من الشرقِ   

سبعُ ساعاتٍ أخرى من طهران،

كأنّها عُمري مرّتين.. وأحقابُ!

 

عناءُ الرّحلة يؤرّقني، لكنّ النفسَ

ترنُو إلى ما بدا مُغريًا من الصّور

مدينةُ الينابيعِ الحارّةٍ، والألوانُ زاهيةٌ،

والربيعُ فيها عطرٌ، وحليٌّ، وأثوابُ 

 

تبريزْ أو “صبَّابة الحمَّى”: مدينةٌ مدلّلةٌ المزاج

والأصلُ تيموريٌ، تركمانيٌ، عباسيٌ

لكن زيارتي قصيرةٌ ولقاءاتي متزاحمةٌ،

والجدولُ خلال اليوم توقيتٌ وحسابُ

 

في أرض المطار: سيّدةٌ تُحيّيني بابتسامةٍ،

وتقول إنّها التُّرجمانُ والدليلُ

حَوَرٌ في العين ناصعٌ، والقوامٌ ممشوقٌ،

والبقيةُ: عفّةٌ، ورقةٌ، وعذوبةُ سَلُوبُ..!  

 

تبريزيةٌ مبرّزَةُ إنْ بوجهها أو بظلّها

بين نساءِ الكون، وأَمَاراتُ الحُسن ماثلةٌ

والشَّعرُ الغجريُ حائرٌ بين نصفِ حجابٍ

ونصفِ دلعٍ فوق عفّتها يختالُ وينسابُ..!    

 

على بَشْرة الخدّين تحالفٌ عالميٌ

انصهرَ من ورودٍ بيضاءَ وحمراءَ طازجةٍ

والبسمةُ من سِنِّهَا جوهرٌ وهّاجٌ في ناظري،

وأنا أرى في سرّ الخلق أسبابًا، ولي أسبابُ!

 

المدينةُ أصبحت مدينتيْن،

وأنا انقسمتُ إلى نسختيْن،

ولساني تلعثم بين لغتيْن

أما عقلي فأضاع الكلام.. وأنا في حيرةٍ،

وهي البسمةُ كلُّها، وبيننا الودٌّ عجيبٌ عُجابُ

 

أتكون هي ترجمانِي، أم أغدو أنا الترجمانَ

لبلاغات الصمتِ الهامسِ بين النظراتِ؟

ركبنا السيارة، وانطلقنا إلى حيث سأكون،

وتوالى الكلام تحت الكلام عفويًا بيننا ينسابُ

 

ترحيبٌ آخر.. والإيماءات منها تُشعرُنِي

أني أكثر من مبعوثٍ ضيفٍ عابرِ

أنا في عُهدتها، ووجداني عُهدةٌ فيها،

وكل الزّاهي في كياني زاهٍ بعطرها أطيابُ

 

تبريزيةٌ كمدينتها تلفُّ زائرَها

بالدّفء والحرارة بين النّبع والمصبّ

وإصابتي بالحمى بدتْ منها حتميةً،

فكيف أكون أنا المريضُ.. وأنا الطبيبُ؟

 

تبريزيةٌ تطوف بي بين مآثرِ المدينة

وأبجدياتِ التاريخ وتعاقبِ الحضارات

فهل أصغي لشروحها، أم أقتفي عطرَهَا

عتباتٍ تجرّني إليها.. وتنفتحُ الأبوابُ

 

أنفاسي تستشف عبق التاريخ،

وبين وجهها ووجهي عبقٌ آخر زكيٌّ هائم

لا عجب إنْ هام العبقُ منذ أن

قالت شهرزادُ لشهريار: إن الهوى غلابُ!

 

توالت الاجتماعات في أكثر من

مؤسسة وجامعة بين فارسية وانجليزية

وهي تترجم الحديث بلباقة،

فيتضحُ الجواب لهم،

ويكتملُ بين وبينها النصابُ

 

وفي اليوم الأخير، قالت: سأخدك إلى مكان ملهم

منذ قديم العهود والأزمان

وأضافت: You will love it, Darling!،

وأنا بتكرارها “darling” سائلٌ يرتابُ!

 

ماذا تقولُ إنْ كانت تقولُ؟

أم تقولُ ما لا تعني ما تقولُ؟

وأنا أرقبُ الوضع

وكيف موازينُ القوى وحوارُ الثقافات

وتآلف الحضارات خطابٌ.. ورنينٌ.. ذبذابُ!

 

تذكرتُ يومها صاحبَ نظرية صراع الحضارات،

وكيف أخطأ معادلةَ السلام

وسرّ تداخل الأرواح بين الحضارات،

ودعوتُ له الله أن يهبَهُ الرشد، وربّنا الوهابُ

 

خطوْنَا إلى “مقبرة الشعراء” نقتفي أثارَهم،

والشعرُ في رجلٍ زاهٍ مثلي صنفُ وجدانٍ آخرُ

أمام تمثالٍ ضخمٍ وقفنا نتأمل روحًا لم ترحل،

وأشعارًا يتناجى في هديها الأحبةُ والأحبابُ

 

فقالت: “هل تعرف من هذا العظيمَ؟”

فضاع جوابي بين الفرضيات وكثرة الاحتمالات

وأضافت: “هذا شهريار”، وأنا بين شهريار الملك

أم شهريار الشاعر، وأيُّ الصوابُ؟

 

لم أبالِ بالفرق، ولساني يسبقني بالسؤال:

“وأينَ هي شهرزادُ، وأين نصفُه المِصْوَابُ؟”

 

فقالتْ دون تردّد: “أنا شهرزادُ..

وأمامَك منذ حين…!” فسكتتُ..

وتغلّب الكلام على الكلام

فضاع التفكير، وتعانق الواقعُ والسرابُ

 

أي شهريارَ أكون الآن؟

والزّهو والشعر غاية في الكون،

وأنا أُصاب بالحمى الثانية وأعراض الحمى الأولى

لم أُشفَ منها بعد، واللّحظة تُغرقني:

وسفري إلى شهرزادِي.. ذهابٌ لا إيابُ!

 

كيف أكونُ شاعرَ شهرزادَ وملكَ زمانها الزّاهي،

والمكانُ وكلُ المدينة.. عيونٌ، وحراسٌ، وأسوارُ؟

كيف سيعود وجداني إلى مقرّه الرّسمي،

ولِمَ كثُرتِ اللوائح والتنبيهاتُ والقواعدُ والآدابُ؟

 

نظرتْ إليَّ مستطلعةً.. وتمهلتْ بسؤالها الصّامت:

هل تكون لك جرأةُ الشعراء أو شهامةُ الملوك؟

وحرّكتْ كتفيها قليلا، واحمرارُ وجنتيها الباسمتين

يقول: إنّ اختناق الهوى بيننا.. أيضا غلابُ!

 

غادرتُ تبريزْ في الصباح الموالي،

وأنا ملكٌ غير مبرّز لا بالتّيجان،

ولا حامي عشقَ الشهرزاد

أنا “شهريارُ آواخر الزمان”،

ولكني مشتاقٌ وعندي لوعة،

ولوردةِ فارسَ في أنفاسِي عطرٌ فوّاحٌ صُبابُ

 

رويتُ الحكاية لصديقي البعيد

وضحكْنَا على قصة “شهريار المتشائل”،

وتذكّرنا من أيام الطفولة

روايةً إذاعيةً، والبطل يدعو أن يرى

في منامه “أرقام الكيادر الثلاثة”،

وفي وجداني ومنامي أنا: حلمٌ.. وخيطٌ سرابُ!

 

فدعا لي أنْ أرى في منامي أرقام هاتفٍ،

أو خارطة طريق إلى من قالت Darling،

وانغمست في معناها

وأنا أزيل عنها شظايا لعنةٍ

هل فارسيةً كانتْ أم مغولية،

المهمّ: اللهُ وهّابُ وثوّابٌ،

والعشقُ بين عبادِهِ عقيدةٌ وعزمٌ وثَّابُ!

 

واشنطن 13 غشت 2022

Visited 14 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. محمد الشرقاوي

أكاديمي وكاتب مغربي