رولان بارت: مسار التحول الذي لم يكتمل
قضى نحبه قبل خمس وثلاثين سنة في حادثة سير
إبراهيم الخطيب
تقترن وفاة الكاتب الفرنسي رولان بارت، في ذاكرتي، بالسنة الأخيرة من مقامي في بروكسيل في ختام دراساتي العليا التي استغرقت سنتين، وكذا شروعي في ترجمة كتابه “النقد والحقيقة” (Critique et Vérité) بمجرد عودتي إلى الرباط.
كنت أقيم بالعاصمة البلجيكية في شقة بشارع سانت ماري، على بعد خطوات قليلة من مبنى بلدية حي سكاربيك، ومن محطة الترامواي رقم 92 الذي كنت أستقله للذهاب إلى جامعة بروكسيل الحرة (ULB) أو العودة منها. كانت الشقة تتألف من حجرة نوم ومطبخ وصالون به جهاز تلفاز صغير باللونين الأبيض والأسود كنت أشغّله كل مساء على قناة TF1 الفرنسية قصد متابعة الأخبار في نشرتها المسائية. في يوم من أيام شهر فبراير من سنة 1980، تصدر نبأ وفاة رولان بارت نشرة الأخبار، فساورني شعور بالأسى رغم علمي بأن الوضع الصحي للكاتب، إثر حادثة السير التي داهمته قبل شهر، كان شبه ميئوس منه. لست أدري ما إذا كنت قد تذكرت إذ ذاك أنني شاهدته مرتين في الرباط: مرة في مدخل مقهى “الفصول الأربعة” بشارع محمد الخامس وقد جلس يدخن سيجارا كوبيا ويحتسي قهوة سوداء، ومرة أخرى في مدرج كلية الآداب وهو يلقي، واقفا إزاء حشد كثيف، محاضرة عن الروائي الفرنسي إميل زولا.
موت أم “حياة جديدة”؟
أكثر من مرة تحدث رولان بارت في حواراته عن خوفه من أن يقضي نحبه قبل إنجاز تأليف كتابه المأمول. لست أفكر حاليا في النصوص التي كتبها، أو الدروس التي ألقاها ونشرت ضمن كتبه أو في فَصْلات مستقلة، ولكن في ذلك الخوف الذي لم يكن مبررا حينها، لكنه غدا كذلك حين أتذكره الآن بعد انصرام خمس وثلاثين عاما. إن الخوف من الموت قبل تأليف كتاب ما (وهو خوف ساور عددا من الكتاب، من بينهم، في مضمار الثقافة الفرنسية، فلوبير وبروست) لا يتعين تأويله كتوقع هوسي، فليس هنالك من نبوءة في هذا الخوف. كذلك لا يتعلق الأمر بهذيان كاتب يطارده قدرٌ ما. لكن ما يبرهن عليه هذا الشعور هو مدى كثافة الطاقة الحياتية التي يريد الكاتب توفيرها لإنجاز الكتاب. إنه يريد استثمار حياته في فعل إتمام الجزء المأمول من مشروعه الأدبي، إلى حد أن الموت يغدو وحده القادر على إيقاف حدة هذه الرغبة، بل وحده من يستطيع أن يسلب الحياة معناها الذي تكتسيه عند إنجاز العمل.ألم يكن رولان بارت قد عنون مشروعه “الحياة الجديدة (Vita nova) “؟
فيما كان يمشي الهوينى، كعادته، على الرصيف عند عطفة شارعين بباريس، دهست رولان بارت شاحنة مخبولة وطرحته بعيدا، وهو ينزف دما غزيرا. وبعد قضاء شهر واحد في المستشفى تحت العناية المركزة، قضى نحبه بهدوء وهو يتنفس بصورة اصطناعية بعد أن عجزت رئته الجريحة من أثر الصدمة التي هشمت قفصه الصدري عن استنشاق الأوكسجين. قبل ذلك بأسبوع واحد صدر كتابه الأخير “الحجرة الوضاءة ( La chambre claire)”، وقبل يومين من وقوع حادثة السير ختم درسه “إرادة الكتابة” حيث عدد لطلبته الملامح الرئيسية للرواية التي ينوي الشروع فيها. لقد كان قلقا بعض الشيء من عواقب الخطوة التي سيخطوها في مشروعه هذا، وآثارها المحتملة على عمله التعليمي: ذلك أن الباحث الذي قضى جزءا كبيرا من حياته يؤكد أن التحليل الأدبي والنقد لا يمكن أن يكتبا بصيغة أدبية شبيهة بالرواية، وجد نفسه، في نهاية مسار طويل، مستعدا بل مضطرا لكتابة رواية على هدى نموذج بروست، حيث يتلبس التخييل لبوس سيرة ذاتية. كان حينئذ يقول بأنه يوجد في حالة انتظار حدوث أمر ما سيحرك آلية العمل لديه أو “في انتظار إصغاء جديد للأشياء التي تحدث من حولي” كما عبر عن ذلك في حوار له.
شفرة خطاب الحب
في الكوليج دو فرانس، اكتشف رولان بارت، أثناء إلقائه درسا تقليديا حول الأدب الألماني الرومانتيكي، أن حبا كبيرا أخذ يهزه فجأة هزا عنيفا. حينئذ قرر تغيير مسار دروسه في منتصف السنة الجامعية، وذلك على شاكلة نفي علني، أمام الملأ، لقناعاته المنهجية المتمثلة في المذهب السيميولوجي. على هذا النحو باشر تحوير وجهات نظره، ووسائله التحليلية، وإحالاته، مدرجا في صلب كل ما يقوله (أو يكتبه) نفحة قوية من نفحات الحب الذي أمسك بتلابيبه. لقد كان من عواقب ذلك أن داخل حديثه عن (غوته) و (نوفاليس) مشاعر غيرة، أو افتتان غرامي ينم عن ولع حاد. وعوض أن يقوم بتحليل الأدب الرومانتيكي الألماني، عمد إلى فك شفرة لغة الحب: هذا الدرس هو الذي سيتحول فيما بعد إلى كتاب يحمل عنوان « شذرات من خطابٍ عاشق » (Fragments d’un discours amoureux). كانت نية رولان بارت الأولى الكتابة عن رواية (غوته) “آلام الفتى فرتر ” من خلال تحليل سيميولوجي صارم شبيه بما صنعه، فيما قبل، مع قصة (بلزاك) القصيرة “سَرَّازين” ضمن كتابه «S/Z»، لكن بعد تحولاته العاطفية، وجد نفسه منساقا إلى أن يفصح في مفتتح كتابه المذكور عن موقعه هو من خطابه الجديد قائلا: “رجل مُوَلـَّهٌ من يتحدث هنا”.
كاتب مطلق العـنان
لم تكن هذه الرغبة في الانتقال من النقد إلى الخلق الأدبي، بالنسبة لرولان بارت، نوعا من القطيعة، ولكن برهانا جذريا على كل ما شكل الملمح الحاسم في كل كتبه: عملٌ على الكتابة، ورفض قاطع لإلغائها باسم التحليل، سواء كان التحليل علميا أو سياسيا. وإذا كانت الصورة المتداولة عنه هي صورة عالم السيميولوجيا، غامض المصطلحات أحيانا، فإنه من الضروري الانتباه، بعد الفحص، إلى أن عمل السيميولوجي لم يكن يغطي سوى بضع مقالات وثلاثة كتب من بين الستة عشر كتابا التي تتألف منها بيبليوغرافيته. لقد كانت مؤلفاته متعددة ومتباينة، إذ كان يخطو، مطلق العنان، في عديد الاتجاهات وليس في اتجاه واحد. وهذا التنوع هو ما أدى إلى فشل غالبية الكتب التي ألفت عنه في إعطائه هوية ثابتة، ووحدة مصطنعة إن لم تكن متخيلة، خاصة بعد نشر مخطوطي كتابيه “يوميات الحداد” و “دفاتر سفر إلى الصين” في السنة الماضية. ما يدل عليه هذا التنوع الكبير هو أن كتابته لم تكن قط مادة ولا منهجا، وإنما إرادة قراءة تراوح مكانها، خفيفة، بين سجل وآخر. لكننا الآن، لا نستطيع أن نتنبأ بماذا كانت ستكون كلمته الأخيرة: تلك الكلمة التي كانت ستغير معنى عمله واتجاهه، والتي حل محلها، بعد حادثة السير المميتة، ذلك التوقف المباغت الذي لا رجعة فيه.
الناشر والمترجم والمراجع
عقب عودتي إلى الرباط، شرعت في الاهتمام بمؤلفات رولان بارت، فقرأت “ميثولوجيات” و”مقالات نقدية” و”الكتابة في درجة الصفر” ثم “النقد والحقيقة” الذي لفت انتباهي بخطابه السجالي ووضعه الصارم والحاد للنقد الأكاديمي التقليدي (كما يمثله، في فرنسا، ريمون بيكار المتخصص في راسين) في مواجهة ما أسماه الكاتب “النقد الجديد”، فقررت الشروع في ترجمته اعتقادا مني بأن الدرس الجامعي في المغرب سيستفيد، لا محالة، من هذه المقاربة المنفتحة على معجم محايث: قريب من النص، بعيد عن شكليات المنهج.
كانت الشركة المغربية للناشرين المتحدين (SMER) حديثة عهد بالإنشاء، وكان يديرها، من مكتبه الكائن بزنقة غزة، مؤسسها مصطفى العلوي (1951-1985) رفقة عدد من مساعديه من أبرزهم ليلى شهيد، مسئولة الترجمة، وعبد الكبير الخطيبي الذي كان يشرف على سلسلة مكرسة للثقافة المغاربية. عرضت مشروع الترجمة على هذا الأخير فقبله متفهما، لكنه أحالني على ليلى شهيد التي اقترحت علي مراجعة الكتاب مع محمد برادة. أتذكر أن جلسات المراجعة الثلاث تمت في صالون شقتي القديمة بشارع القصر الكبير (حسان)، وأن برادة دقق معي النظر في المصطلحات وفي سلاسة العديد من الجمل التي كنت أميل فيها إلى ترجمة حرفية. وبما أن الكتاب كان موجها إلى جمهور ناطق بالعربية، فقد أضفت إليه مقدمة، وترجمة لنص حوار مع رولان بارت حول “النقد والحقيقة” نشر ضمن كتابه “قوام الصوت” Le grain de la voix، وفصلا مترجما عن الإنجليزية من كتاب جوناثان كولر “بارت” (Barthes) ” فضلا عن معجم للمصطلحات مع مقابلاتها في اللغة الفرنسية.
صدر الكتاب سنة 1985، خمس سنوات بعد وفاة مؤلفه.