من “صلاص” الفرنسي إلى “صلاص” المغربي

من “صلاص” الفرنسي إلى “صلاص” المغربي

عبد السلام البوسرغيني

في آخر الخمسينات وأوائل الستينات من القرن الماضي كانت جريدة “التحرير” الناطقة باسم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، تطلق اسم “صلاص” على كاتب التعليقات التي كانت تبثها الإذاعة الوطنية، محاولة بذلك تسفيه ما تبثه من أفكار، علما من طاقم “التحرير” أن الإذاعة كان لها تأثير على الرأي العام، لأنها كانت مسموعة لانعدام المنافس في المجال الإذاعي في ذلك الحين.
كان الذين أطلقوا ذلك الاسم من طاقم “التحرير” في الجريدة يعرفون هوية من يحمل هذا الاسم، الذي يوحي بأنه شخص أجنبي، ومن تم أطلقوه على المعلق الإذاعي، لإشعاره بما سبق له أن ارتكبه من سلوك اعتبر خيانة، لدى ارتباطه بأوساط جيش التحرير في تطوان.
كان الإعلام الاتحادي في ذلك الحين، في صراع مع الإعلام الرسمي، ويجتهد رجاله لتقديم ما يواجهون به الآراء المذاعة، المتعلقة بطبيعة النظام الذيأريد له أن يطبق في المغرب، مع إصرار المسؤولين على محاربة أي رأي يخالف رأيهم، وقمع من يدافع عن ذلك الرأي، كما كشف عنه اعتقال ومتابعة مدير جريدة “التحرير” المرحوم الفقيه محمد البصري، ورئيس التحريرالمرحوم عبد الرحمان اليوسفي، بشأن ما ورد في مقال يشير إلى وجوب خضوع الحكومة لمراقبة الشعب.
أحدث اعتقال الرجلين قد رجة سياسية، نظرا لتاريخهما النضالي، ولما كان لهما من مكانة سياسية، ولكون بعض رفقائهم يمارسون مهام سامية في تدبير شؤون الدولة في الحكومة التي رأسها عبد الله ابراهيم.
وكان عملي في جريدة “التحرير” مقتصرا على تتبع الشؤون الدولية، كما حدده لي رئيس التحرير، ولذلك لم أعر الاهتمام في كل الأوقات لما ينشر عن “صلاص”، كما لم أستفسر زملائي عن ذلك الاسم الغريب الذي أطلقوه على كاتب تعاليق الإذاعة الوطنية.
وحدث أن ارتبطت بحكم الجوار في حي بوركون بالدار البيضاء بشخص يحمل اسم “صلاص”، فأثار ذلك فضولي، لكنني لم أقدم على استفساره عن أصل الاسم الذي يحمله، تاركا للأيام أن تكشف لي عن تفسير لغز هذا الاسم. ومع توثق صلتي بهذا الرجل، ولعلمه بأنني متحدر من مدينته مراكش، بدأ يحنو علي حنو الأب، لفارق السن بيننا، كما أن زوجته الفاضلة “مِّي عيشة” كانت تحن على زوجتي، كحنوها على بنتها الوحيدة خديجة.
كانت أسرة هذا الجار، سواء في سلوك أفرادها أو في حياتهم العامة، أقرب إلى سلوك وحياة الأسر الأروبية التي كانت في أوائل الستينات من القرن الماضي، ما تزال تملأ كثيرا من عمارات حي بوركون، المتميز بعماراته الراقية وشوارعه الفسيحة، بالنسبة لما كانت عليه الدار البيضاء، وهي عمارات شيدت على ما يبدو لإيواء المهاجرين الأروبيين الذي كانت تستقبلهم البلاد بعد الحرب العالية الثانية، أملا من السلطات الاستعمارية في تعميرالعاصمة الاقتصادية التي بدأت تعرف توسعا في نشاطها الصناعي والتجاري، وفي إطار سياسة الاستيطان الاستعماري.
والصديق “صلاص” هو من أتاح لي الاستئناس بالدار البيضاء، بالرغم من أنه كان متحفظا، يتجنب ربط علاقات وثيقة مع باقي الجيران، على عكس زوجته “مِّي عيشة”، التي كانت تهوى الحديث مع الجيران، ولا تبخل في تقديم خدماتها لمن يستحقها، وكانت كلما حل أحد من أقاربي من مراكش لزيارتنا، تسعى لتوثيق الصلة به، وكأنها توحي بارتباطها بهذه المدينة التي ينحدرمنها زوجها. وكان “صلاص” في حديثه أقرب إلى التفكير الأروبي منه إلى التفكير المغربي، لاحتكاكه بصفة أكثر بالأروبيين، بحكم عمله مساعدا لسماسرة الأملاك العقارية الأوربيين، ولاتساع معرفته بالدارالبيضاء. كثيرا ما كان يتساءل أمامي ويقول “أي مغرب هذا الذي تدعون ملكيته، وكل العمارات والأملاك العقارية في البيضاء هي في ملك الأجانب؟”.
والواقع أن العاصمة الاقتصادية كانت بالفعل في أوائل الستينات من القرن الماضي أقرب إلى كونها مدينة أروبية، سواء من حيث سكانها أوعماراتها، إذا ما استثنينا بعض الأحياء كالأحباس وعين الشق والمدينة القديمة، قبل أن تبدأ الدار البيضاء في التوسع تدريجيا لتضاهي المدن العالمية الكبرى.
لم يحدث لي أن سألت جاري “صلاص” عن الأصل في حمله لهذا الاسم الأروبي، ولا ما إذا كان هو اسمه الحقيقي. وظل ذلك لغزا بالنسبة لي، إلى أن حدثني يوما عرَضاً أن له شقيقتين في فرنسا لايعرف أي شيء عن مصيرهما، ومن ثم بدا لي الأمر وكأني عثرت على (رأس الخيط) كما يقال، لإدراك سر تقاسم هذا الاسم مع كاتب التعاليق الإذاعية، الذي لم أكن قد تعرفت عليه إلا فيما بعد، ولم يكن في الواقع سوى المرحوم أحمد زياد الصحفي المعروف الذي برز اسمه في جريدة “العلم” منذ تأسيسها، بعد منتصف الأربعينات من القرن الماضي. ولقد تعرض لمشاكل مع قيادة جيش التحري في تطوان، فاستدرجه أحد قادته واصطحبه معه إلى القاهرة، حيث طلب من القيادة المصرية اعتقاله، إلى أن افرج عنه بمناسبة زيارة محمد الخامس رحمه الله لمصر، ضمن جولة في العالم العربي لإحياء صلة الرحم مع أقطاره.
فمن أطلق اسم “صلاص” على كاتب التعاليق الإذاعية؟ ومن أين استمد هذا الاسم؟ وأي جامع بين صاحبه الأصلي والمرحوم أحمد زياد؟
هذه الأسئلة دفعتني إلى البحث، لأصل في النهاية إلى أن “صلاص” هو اسم لجاسوس فرنسي، كانت أخباره التي ترددت في وقت من الأوقات، ثم بدأت تخبو على غرار أخبار باقي الجواسيس الفرنسيين، الذين استوطنوا بعض جهات المملكة لفترة من الفترات، ليقدموا لبلادهم ما يساعدها على أن تتم عمليات احتلال المغرب بأقل ما يمكن من الخسائر. وكذلك كان الأمر.
كان ما كشف لي عنه جاري “صلاص” بشأن وجود شقيقتين له في فرنسا، لم يسبق أن ربط الاتصال بهما، وكذلك ما عرفت عن تحدره من مراكش، قد حذا بي إلى البحث في هذه المدينة عما إذا كان ما يزال من له معرفة بقصة الجاسوس الفرنسي “صلاص”، التي يرجع عهدها إلى أوائل القرن الماضي، نقلا عن الرواة الذين كانوا مايزالون يتحدثون عن أحداث تلك الفترة، التي شهدت أيضا تعاون قياد قبائل الجنوب مع جواسيس فرنسا، تمهيدا لاحتلالها واستعمارها للبلاد. وحسب الروايات التي استقيتها من الشيوخ، فإن الجاسوس “صلاص” كان قد استوطن مراكش بصفته فقيها وداعية إسلامي جاء من تركيا، ولم يكن أي واحد يشك في انتمائه، وظل يحظى بالاحترام والتقديرلكونه، كما ادعى جاء من بلاد الخلافة العثمانية الإسلامية التي تبسط سلطتها على أقطار المشرق العربي.
ولقد ظل المراكشيون يتناقلون أخبار هذا الجاسوس الفرنسي، إلى جانب أخبار الطبيب “موشان”، الذي قتلته الجماهير لما رفع العلم الفرنسي فوق مسكنه، ولتكريمه أطلقت السلطات الاستعمارية اسمه على مستشفى أقيم في حي سيدي ميمون. وكان مقتل هذا الطبيب قد اتخذته فرنسا مبررا لغزو المغرب سنة 1907 باحتلال وجدة انطلاقا من الجزائر، والهجوم على الشاوية بحرا انطلاقا من الدار البيضاء، ووصولا إلى مراكش، قبل أن تفرض على المغرب نظام الحماية سنة 1912، ثم بدأت القوات الاستعمارية تكتسح مختلف الجهات المغربية، ولم تتمكن من إنهاء سيطرتها على البلاد إلا في سنة 1934.

كان “صلاص” الجاسوس قد تزوج مغربية وأنجب شقيقتي “صلاص” السمسار، الذي قد يكون هو نفسه ابن له، ولا يرغب في أن يُعرف آصله. ويُحكى أنه عندما دخلت فرنسا إلى مراكش كشف الجاسوس عن هويته وأعلن لأسرته عزمه على الرحيل والعودة إلى فرنسا، فامتنعت زوجته عن مرافقته بعد أن هجرته، ولكنه رحل وأخذ معه الشقيقتين اللتين أنجبهما دون ابنه صلاص، الذي انتقل إلى الدار البيضاء حيث استقر تاركا مراكش لأهلها، الذين كانوا يروون بمرارة قصة الجاسوس الذي غدرهم بانتحال صفة فقيه وداعية جاء ليعلمهم ويرشدهم، فانساقوا له مرددين المثل القائل “من خدعنا بالله انخدعنا له”، دون أن يكونوا قد كلفوا أنفسهم التحقق من هويته الحقيقية، ودون أن تكون هناك سلطة واعية للكشف عن ما يهدد البلاد.

شارك الموضوع

عبد السلام البوسرغيني

صحفي وكاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *