أحمد مراد يكتب لـ”السؤال الآن”: مظفر.. وين رحت؟

أحمد مراد يكتب لـ”السؤال الآن”: مظفر.. وين رحت؟

أحمد مراد

قبيل العاشرة بقليل من صباح السبت 21 أيار – ماي الجاري، أنزل جثمان الشاعر الصديق مظفر النواب من الطائرة الجاثمة في مطار بغداد، لتبدأ مراسم جنازة التشييع الرسمية التي أقامتها له الحكومة العراقية.

انتهى الخبر.. سيتحول جسده إلى كمية قليلة من التراب لأن مرض السنوات الطويلة الأخيرة أكل منه ما أكل، لكنه لم يستطع النيل من من ذلك البريق السري في عينيه الذي ظلّ يلتمع أكثر مما ينبغي بقليل.

ما كُتب وقيل عن مظفر النواب خلال حياته وبعدها، شاعراً ورساماً وموسيقياً ومؤدياً ومناضلاً، يكفي لتأبين قبضة شعراء، لذلك أظنّ أنه رحل مكتفياً، وأكاد أسمع رنة الضحكة الضاجة التي يفوح منها جزل متشح بالخفر والسخرية و.. بتلك السعادة المتفتحة المكتملة بالرغم من كثرة الجروح والآلام التي لم تترك منها شيئاً يمكن رؤيته!

هو قبلة وداع ما أكتب على جبين ضاق وتغضّن، وشدة خفيفة على يده المعروقة المرتجفة، ووشوشة سؤال في اذنه: إلى أين؟

لا مجال هنا لتقييم شعرية مظفر، ولا أنا قادر على ذلك، خصوصاً بعد كل ما قيل وكتب من دراسات عميقة جادة وعجالات فيسبوكية، لكن لفتني قول أحدهم بالأمس مواسياً نفسه ومعللها ببذل جهد متأخر بعد أن لاحظ أنه يكاد يكون الوحيد الذي لم يحفظ من قصائده شيئاً غير بيت واحد عن القدس والعروبة وأطهر الخنازير.

صورة شخصية لمظفر مع إهداء بخط مظفر النواب
صورة شخصية لمظفر مع إهداء بخط مظفر النواب

سأحكي هنا عن بعض مما لا أحد يعرفه عن مظفر، أمور وحوادث شخصية خاصة حولت علاقتنا إلى صداقة عميقة متينة بالرغم من أنها لم تدم سوى بضع سنوات قليلة حيث شاءت الدنيا لنا وداعأ على أمل لقاء لم يحصل البتة.      

  • قبيل انفجار الحرب الأهلية في نيسان – أبريل 1975 بلبنان بسنة أو سنتين، أصدر وليد الحسيني بدعم ليبي، جريدة “الكفاح العربي” واختار لها مفراً في عين الرمانة، وتسلمت فيها مسؤولية القسم الفلسطيني. ومدني صديقي الراحل “أبو الفضل”، مرشد شبو، بمعلومات خطيرة عن انقلاب يجري تحضيره ضد نظام القذافي (أمين القومية العربية وقتذاك) من قبل عدد من الضباط الليبيين و(نورا) سكرتيرة ومستشارة الملك ادريس، بدعم من الرئيس المصري الراحل أنور السادات. وكان صهر الرئيس، محمود أبو وافية، نقطة التنسيق والتواصل والتنفيذ يتخذ من أوتيل “هوليداي إن” في بيروت مقرا شبه ثابت له، في حين كانت نورا في أوتيل “البافيون” بالحمرا، وكانا يلتقيان بشكل شبه يومي، وثالثهما الدائم كان أجنبياً، بلجيكي الجنسية. الحركة الثورية الاشتراكية اختطفت البلجيكي، الذي اعترف خلال يومين بكل تفاصيل الخطة وبمجموعة من أسماء العسكريين الليبيين الضالعين فيها، وما زلت أذكر أن شركة المطعم الذي يزود طائرات “الميدل إيست” بالغذاء، كانت تقوم بنقل أسلحة نوعية لهم على الطائرات المدنية اللبنانية.

باختصار، كتبت الحكاية بصفحتين، وألححت بالطلب من صاحب الجريدة ليؤمن لي تيكيت الطائرة وأحداً ليستقبلني ويقودني إلى المسؤول الذي ينبغي إعلامه. وحصل كل ذلك، وسرعان ما وجدتني في مكتب (أمين الخارجية) أبو زيد دوردة، الذي استمع بدهشة إلى كافة التفاصيل غير المذكورة في الصفحتين.. ثم أصلني بسيارته، شخصياً، إلى فندق الشاطىء. نادى المدير لتأمين غرفة لي وطلب مني عدم الإتيان بحركة إلى أن يعود هو شخصيا إليّ. وكانت ليلة غريبة انقطعت فيها الكهرباء وملأ زعيق سيارات الجيش والشرطة شوارع طرابلس العاصمة، وحوالي منتصف الليل سمعت مع عشرات النزلاء في ردهة فندق الشاطىء على شاشة التلفزيون الليبي خبر إفشال مؤامرة انقلابية، وضبط معظم الضالعين فيها. (ولهذه الحكاية تتمة ليس الآن وقتها).

قبل حوالي الساعتين من إذاعة الخبر، وكان الجميع متوجسين ويتكلمون همساً، كنت جالساً وحيداً أزدرد فناجين القهوة وأداري دقات قلبي، التي ظننت أنها صارت مسموعة بوضوح، اقترب مني أحدهم وسألني بلطف عن الجلوس سوية لنتحدث في ضوء الشموع ونتسلي بتزجية الوقت، بالحديث عن سبب قطع الكهرباء في حادثة غريبة لم يكن لها سابقة. قبل أن أرفض ذكر لي اسمه:

مظفر النواب. مظفر.. مظفر سألته؟

فابتسم وأومأ إيجاباً، وكانت جلسة تابعنا فيها بنشاط طرح التساؤلات وحياكة كومة من المفاهيم والمواقف المشتركة حفرت أساسات صداقة لن تُمحى!

النسخة اليتيمة من ديوان مظفر: المساورة أمام الباب الثاني
النسخة اليتيمة من ديوان مظفر: المساورة أمام الباب الثاني

أسفرت الزيارة التي طالت حوالي أسبوعين، بالإضافة إلى القبض على المتآمرين، عن نتائج حلوة، أهمها صداقة مظفر التي أدت به إلى السكن عندي في بيروت، ثم زيارتي له لشهر كامل في أثينا، وإلى فتح صفحة جديدة بين الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وزيارة الدكتور جورج حبش ولقائه بالعقيد القذافي، وزيارة الأستاذ محمد الزين، صاحب وكالة الأنباء الصحفية الذي تتلمذت على يديه بدءاً من العام 1969 وتلقيه دعماً مادياً من النظام.

– غداة ليلة كشف الانقلاب، نقل مظفر حواراتنا إلى مستوى آخر، بعد أن كشف أنه عرف بدوري بالموضوع، فعرفت أن علاقاته بالليبيين عميقة ووثيقة.

– عند عودة مظفر إلى لبنان اكتشف أن الشقة التي يسكنها في حارة حريك دوهمت وفتشت أكثر من مرة، وأن “صديقه المناضل أنور” ليس إلا واحداً من عسس المخابرات العراقية، ومنذ ذاك الحين انتقل للسكن عندي على كورنيش المزرعة بأكمل أثاثه وأغراضه في هذه الدنيا: حقيبتين متوسطتي الحجم! (ما أحلاك.. وشو كنت مترفع..)

– هناك.. قرضنا الشعر وقارعنا بالونات الكورفوازييه، وعرفني على الكثير من أصدقائه ما زلت أذكر منهم: الشاعران بلند الحيدري ومحمد الفيتوري والسفير عبد القادر غوقة وعادل عبد المهدي وحنا مقبل (أبو ثائر) وآخرين. وعرفته على مرشد شبو  وابراهيم حطيط وعدنان شرارة وليلى خالد (أخت زوجة عدنان) وعبد الأمير عبدالله ونصري الحجاج وأخي معين وأختي وداد وكُثْر آخرين، وأحيينا عدداً من السهرات الغنائية التي لا يمكن أن تُنسى.

مظفر وأنا في زيارة لمعبد في أثينا قبيل تواتر الأنباء عن الهجوم على مخيم تل الزعتر
مظفر وأنا في زيارة لمعبد في أثينا قبيل تواتر الأنباء عن الهجوم على مخيم تل الزعتر

– وأذكر مرة اضطر فيها أن يسافر على عجل وترك لدي عدداً من قصائده، وطلب طباعتها في ديوان صغير جديد، وعندما أنهيت العمل وصدر الديوان بعنوان: “مساورة أمام الباب الثاني”، طلب مني فرحاً إرسال النسخ ال3 آلاف كلها “لأن الأخوة الليبيين قرروا شراءها كلها”، وكان له ذلك، ولم أترك لدي سوى نسخة يتيمة أحملها معي أينما ذهبت. وعنما عاد سألته عن استقبال الناس للديوان فقطب وقال: اشتروها ودفعوا لي الثمن المعلن على الغلاف بالكامل، لكنه حبسوها بالمستودع ولم يفرجوا عنها مطلقاً !

– وهنا الآن، ينفتح بئر الذكريات وتفيض مياه الشجن، وسأكتفي بهذه الشذرات كي لا يفيض دمع القلب وسأهمس بسؤالي:

أبو عادل.. وين رحت وتركتنا؟

Visited 6 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

أحمد مراد

صحفي وكاتب لبناني