محاولة قتل حاخام مغربي في الدار البيضاء!
عبد الرحيم التوراني
“يوميات حاخام فاشل”، عنوان كتاب صادر عن دار نشر “سوي” الباريسية لمؤلفه فكتور مالكا، ويحكي فيه عن دراسته بمعهد للدراسات اليهودية بالدار البيضاء في الخمسينيات من القرن الماضي، بهدف التخرج حاخاماً، كما كان يود ويرغب في ذلك والده، سيراً على نهج الأجداد. لكن فكتور سيخلع ثوب “الحَزَّانْ ” ليغادر المغرب ويتجه صوب فرنسا لمتابعة دراسة الصحافة والإعلام. وهو ما تسبب للوالد في خيبة كبرى، هي نفس الخيبة التي ستدرك فكتور مالكا وهو في خريف العمر، يرى بحسرة إلى ما آلت إليه الأمور، ويعرب عن حزنه الكبير لتراجع مشهد الديانة اليهودية في العالم، في إسرائيل وعبر الشتات. كما صار يدعو إلى الحوار الضروري والمصالحة بين اليهود والمسلمين.
الكتاب مليء بالأسئلة الوجدانية، وبالغضب كذلك. لكن النكتة اليهودية تملأ الكثير من صفحاته وسطوره، حيث أن الكاتب يتناول موضوعا على محمل الجد بأسلوب لا يخلو من سخرية..
***
قبل ما يزيد على عقد من الأعوام، لا أذكر السنة ولا الشهر، حوالي العاشرة صباحا من يوم مشمس اتصل بي في الهاتف الصديق الإعلامي عادل حجي، ودعاني للتعرف على فكتور مالكا، مسؤول القسم الثقافي بإذاعة فرنسا الدولية (فرانس أنتير)، والذي حضر إلى المغرب من فرنسا للمشاركة في البرنامج الثقافي الشهري “بين السطور”، الذي كان يعده ويقدمه باللغة الفرنسية عادل حجي على القناة الثانية “دوزيم“.
وجدتهما ينتظراني على رصيف مقهى “ألكسندريا”، على مقربة من “توين سانتر” بشارع الزرقطوني، أحد أكبر وأنظف شوارع مدينة الدار البيضاء.
كان الرجل متقدما في السن، تليق به عبارة “بلغ من العمر عتيا”. استقبلني ببشاشة ظاهرة. بعد أن قام الصديق عادل بتقديمنا لبعض. انشرح فكتور مالكا قائلا:
– نحن عائلة واحدة إذن.. كلنا من أسرة الإعلام.
ثم ابتسم ونظر إلي بعينين ضيقتين، لتتسع ابتسامته ويحولها إلى ضحكة مجلجلة ذكرتني بقهقهة الصديق إدريس الخوري.
قلت للمسؤول عن “فرانس كلتور“:
– أظن أنك لست بحاجة لنرحب بك في بلدك المغرب وفي مدينتك الدار البيضاء.
كان ذلك أحسن مدخل لجذبه للحديث عن يهود المغرب، وعلاقتهم بمواطنيهم المسلمين، ومؤامرة تهجير اليهود صوب إسرائيل، وهجرتهم صوب فرنسا وكندا وغيرها من بلدان الشتات.
في البداية أخذ فكتور يردد الدعاية الصهيونية التي نعرفها بخصوص هذا الموضوع، وكون المغاربة المسلمين مارسوا العنصرية والإرهاب ضد مواطنيهم اليهود مما أرغم هؤلاء على الهجرة إلى إسرائيل، لكن بعد نقاش هادئ بدأ يوافقني الرأي معترفا بالدور التضليلي الخطير للحركة الصهيونية العالمية في نشر وبث الرعب بين اليهود المغاربة، لدرجة ارتكاب جرائم قتل ضدهم ونسبها إلى المسلمين، وفي تقديم إسرائيل لهم كمجتمع متجانس ومنسجم وكملاذ آمن لليهود. ولم ننس الحديث عن تواطؤ جهات مغربية على أعلى المستويات في بيع اليهود المغاربة للحركة الصهيونية العالمية من أجل “تعمير إسرائيل”.
لما ابتعدنا عن الميل بالنقاش نحو الاحتداد. غير فكتور مالكا الموضوع ليتحدث لنا عن عمله الإذاعي بإذاعة فرنسا الدولية، وكان لنشراتها الإخبارية حضور قوي لدى النخبة المغربية قبل عصر الفضائيات. وتكلم لنا أيضا عن مؤلفاته. فأخبرته أني أتوفر على نسخة من أحد كتبه حول الصراع العربي الإسرائيلي، مترجم إلى اللغة العربية صادر في دمشق. أسعده الخبر كثيرا، ولم يكن يعلم بذلك، وطلب مني توفير نسخة له من كتابه المترجم. ثم تحدث لنا عن طفولته وذكرياته في المغرب، وعن بعض صداقاته مع المثقفين المغاربة، ذاكرا صلته بالراحل عبد السلام حجي الصحفي والكاتب المثير للجدل، الذي لم يتردد في سنة 1965 بالمجاهرة بتأييده لمواقف الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة من الصراع العربي الإسرائيلي، وهو ما جر على عبد السلام حجي وقتها كثيرا من المشاكل. (بالمناسبة فالأستاذ عبد السلام حجي هو والد الصديق عادل حجي، وشقيقه كريم حجي هو مدير بورصة الدار البيضاء حاليا).
بعد ذلك انتقل فكتور إلى انتقاد بعض المظاهر التي لم تعجبه في الدار البيضاء، وطلب من عادل أن يتدخل لتغيير الفندق البعيد الذي اختاروه له، والذي يطل على بناءات عشوائية وعلى دور الصفيح بمنطقة “ليساسفة” بضواحي جنوب الدار البيضاء. وقد تمت الاستجابة وانتقل ضيف القناة الثانية إلى أحد فنادق شارع “أنفا” وسط المدينة.
بعد إنهائنا لوجبة غذاء خفيفة تكلم فكتور قائلا إن المغاربة لا يضحكون كثيرا وتنقصهم روح النكتة، وهو ما انبريت أنا لدحضه وتفنيده، إذ حولت الجلسة إلى جو مرح بحكي بعض النكت، ومنها نكتة ساخرة حول المال والحظ والقدر. كادت النكتة أن تميته فعلا من الضحك وليس مجازا. وقد حكيتها له بالدارجة المغربية البيضاوية التي يفهمها ويتقن الكلام بها. أخذ الرجل السبعيني يسعل حتى كاد أن يختنق، واجتمع كل الدم في رأسه وكاد أن يخرج من عينيه الدامعتين. أسرع عادل بمده بالماء وهو يلومني:
– كنت ستتسبب في قتل الرجل.
أما فكتور مالكا بعد أن هدأ قليلا، فقد أخذ يفتش في جيوب سترته الداكنة عن هاتفه المحمول، وقال لنا إنه سيتصل بزوجته ليحكي لها هذه النكتة المضحكة جدا، يريد تبديد قلق غيابه عنها. وهو ما منعته من فعله.
– أرجوك يا فكتور.. لا تفعل.. فقد لا تجد زوجتك من يسعفها بكوب ماء لو اختنقت من الضحك. لا تفعل حتى تعود إلى باريس.
عاد الرجل إلى الضحك مرة أخرى وتفاصيل النكتة تقفز في ذهنه. خفت من عودة الحالة إليه. استأذنت الانصراف، وودعت كالهارب من باطل يكاد أن يتلبسه.
ماذا لو حصل ومات هذا الرجل بين يدي؟
رجل غير عاد تماما.
يهودي، مغربي، فرنسي، كاتب وصحافي… وربما إسرائيلي أيضا. من يدري….؟ (وأتكلم هنا قبل إعلان التطبيع مع إسرائيل)!
لاحقا سيضيف فكتور مالكا إلى “قاموس السخرية اليهودية” تلك النكتة، طبعا على أساس أنها نكتة يهودية.
ويمنعني الحياء من أن أحكيها للقارئ هنا، والسبب بذاءتها.
<
p style=”text-align: justify;”> لكنها نكتة محلية مائة في المائة.