الاحتفاء بالفكر النقدي

الاحتفاء بالفكر النقدي

   طنجة – عبد العزيز جدير

احتضنت قاعة محمد الرحموني بدار الشباب حسنونة المثقلة بالتاريخ، حيث كانت الوحيدة بالمدينة التي يشد إليها الرحال أبناء المدينة من كل فج ضيق، لقاء مفتوحا مع المفكر والروائي المغربي-الأمريكي، أنوار مجيد، في موضوع “التسامح من خلال رواية “السي يوسف” للروائي ذاته. ولقد انبرى لمحاورته قبل تسليم طرح الأسئلة للجمهور، خالد أمين، وعبد العزيز جدير. و دام اللقاء قرابة الثلاث ساعات، وطبعته التلقائية، والحميمية، وسعة الفكر والصدر، وروح المناوشة والجدل.

فأنوار مجيد مفكر وروائي مغربي أمريكي، كتب السيناريو “السفر الطويل”، والرواية “السي يوسف” التي طبعت مرتين (1992 و2005)، و”فرصة ثانية في طنجة” (2020)، والفكر والتاريخ والحضارات “إماطة اللثام عن التقاليد” (2000)، و”حرية وأرثودوكسية” (2004)، و”دعوة إلى الزندقة” (2007)، و”كلنا موريون” (2009)، و”الإسلام وأمريكا” (2012)، وأعمال لم تنشر (ثلاث روايات وثلاث مجاميع قصصية) وأخرى في الطريق.. وهو أستاذ السينما، والحضارات، والأدب بجامعة “نيو إنغلند”، ونائب رئيس الجامعة ذاتها بولاية ماين، وعميد فرعها بطنجة، والمسئول عن “التواصل” مع فروع الجامعة بأوروبا وآسيا، وأستراليا. ومؤسس ورئيس “منتدى طنجة العالمي”، الذي يستقبل محاضرين من العالم ومدير مجلة تحمل عنوان “تنجيس” (وهي منتدى الكتاب المستقلين المنخرطين في التحليل النقدي للفكر العالمي وإعادة التفكير في الأوصاف التقليدية عن الإسلام).

و من ضمن ما رود  في الأجوبة عن أسئلة المحاورين،  قال أنوار:

تمارين في التعايش

أفضل الحديث عن التعايش عوض التسامح، إذ يصعب الغاء أو طمس الاختلاف، وهو نعمة وصيرورة، بينما التسامح صعب التحقيق بكل معنى الكلمة لاعتبارات تاريخية، وتربوية، وقناعات ترسخت ويصعب التحرر منها. والتعايش يفرضه طابع المدن التي يطلق عليها الكوسموبوليتية، ومنها طنجة طبعا لظروف تاريخية، و لتعدد الملل والنحل والألسن، إذ يتطلب الوجود التعايش.. وتتميز طنجة بغياب الملاح. فقد كان يهودها يتحدثون عدة لغات.

وقد ظلت صلات قوية تجمع بين اليهود والمسلمين لقرون عدة. فهم أصحاب أول ديانة توحيدية، اعتنقها المغاربة الأمازيغ يومها. وكان اليهود أشد قربا من المسلمين للتقارب بين ديانتيهما، ولأنهم أبناء عمومة وأشد نفورا من المسيحيين. هؤلاء كانوا على الدوام يعادون السامية. وتجلى ذلك في المصير المشترك بين اليهود والمسلمين الذين تعرضوا للطرد والتنكيل من إسبانيا الكاثوليكية.. ونجد الفيلسوف ابن ميمون، الذي عاش طوال حياته بين المسلمين، يطري على المرأة العربية، ويمتدح سخونتها!

لكن هذا المصير المشترك تلقى ضربة قاضية مع تأسيس دولة إسرائيل (سنة 1948) التي هزت الوعي والضمائر، وغطت بالأخاديد جسد ذلك الإخاء.  

وضرب مثلا آخر بمرحلة “الربيع العربي” حيث اضطرت عدة دول عربية لإعادة كتابة دساتيرها، ومما عاشه أنوار حضوره ندوات لنخب عربية تناقش شكل وهوية الدساتير الواجب صياغتها. وقد دأبت كلها على اعتماد هذه الجملة في ديباجتها “الإسلام دين الدولة”، وهو الوضع الذي عاشته العراق أيضا بعد الغزو الأمريكي.. فسأل محامية ومسؤولة تونسية كانت ضمن وفد بلدها ليقيس هامش التسامح والحرية وقبول الآخر، قائلا: “أنا “ملحد” عربي، هل يضمن لي هذا الدستور حماية في هذه الدولة؟” فردت عليه: “بل أنت ابن ناس، رجل طيب..” وتكرر الأمر ذاته مع عالم من الأزهر كان ضمن وفد بلده. والغاية المستفادة من السؤال المحرج أن القبول بالآخر تعترضه صعوبات. والتشابه، أو “التطابق الفكري” سهل.. وقد يكون وبالا على الجميع، و يخلق المجتمع المنغلق. وأمثلته واضحة في تاريخ البشرية والمآل أيضا. لكن أيؤدي مضمون تلك الديباجة إلى تعميم صفة النفاق بين المواطنين؟

و هنا حكى حادثة دفعته إلى مراجعة الذات ولجم اللسان. إذ كان يتجول، ذات مرة، رفقة صديق طفولة في نيويورك، ورغبة في نقد تصرف معين لصديقه قال له: “آ ليهودي”! كانا طالبين، يومها. وتابعا جولتهما، وذات لحظة فاجأه صديقه قائلا: حقا، أنا يهودي لأن والدتي يهودية. وقد أسلمت منذ وقت معين. وشعرت لحظتها، ويومها بقشعريرة تخترق الجسد والروح، وتهزني الآن، أيضا. لم نعرف أبدا أن والدته يهودية، ونعلم أنها مغربية، وهو أيضا. أيكفي التغني بالتسامح، أم يجب أن يتحول إلى جزء من عقيدة؟

  “السي يوسف” مجنون لوسيا   

ومن المقاطع التي تحيل على التسامح-التعايش التي حبلت بها رواية “السي يوسف” يمكن الإشارة إلى هذه: “بالطبع، لم أفعل شيئًا كهذا أبدًا. كانت زوجتي كاثوليكية؛ كانت محصنة ضد اللعنة الشرسة للغيرة التي عرفنا بها، لأن المسيحيين واليهود هم في بعض الأحيان أقرب إلى الرعاية الإلهية مما نعتقد. لقد جلبت لي الخير حظا سعيدا. وبعد فترة وجيزة من زفافنا، عثرت على العمل في مطعم لا گزيل، الغزالة”.”

“ماتت العام الماضي. اصطحبها أطفالها وبعض الأصدقاء وخالتي إلى المقبرة المسيحية. ورسم كاهن إسباني عجوز علامة الصليب عندما ووريت التراب. بكى الجميع، بمن فيهم السي ميلو وعاشور. وقالوا إن المرأة الإسبانية أفضل ألف مرة من نسائنا.

“متى رأيت مثل هذا الحب والتفاني في نسائنا؟” قالوا متسائلين.

وسمعه رجال آخرون لكنهم ظلوا متشككين في صدق هذا القول وصفاء نية صاحبه. وبعد كل شيء، ماذا يعرف السي ميلو وعاشور غير الوقورين عن الزواج. ومع ذلك، أومأ الرجال برؤوسهم وانخرطوا في تأمل حيواتهم بقدر كبير من الألم.

وقال لزرق مؤكدا: “لقد كان محظوظًا بكل بساطة”. “ليس من السهل أن تكون خالدي [السي يوسف]”. رحمة الله عليها.

” لا أعرف لماذا أخبرت الرجال، ذلك المساء، في المقهى قائلا: يجب أن نصلي من أجل لوسيا. وقد وجدوا أنه من غير المناسب الصلاة من أجل امرأة صالحة لم تعتنق أبدًا ديننا. سخر مأمون، بعد أن سمع اقتراحي، لكوني رقيق القلب وساذجًا للغاية، ولأنني أعامل الجميع على قدم المساواة.”

كتبت رواية “السي يوسف” نهاية الثمانينيات بمدينة نيويورك، وغاب فضاء الكتابة وحضر التخييل. طنجة التي ملكت الفؤاد والأمشاج. احتلت جسد النص كله، ووشمت عليه، احتلت مكانة الشخصية الرئيسية، إذ كان الحنين يلتهم أحشاء الكاتب. وهل من سبيل للتخلص من مياه النهر التي كادت تغادر الفراش إلا توجيهها نحو المصب: البحر-أكداس من الأوراق؟

  قدر الأقليات

مثل كتاب “كلنا موريون” عودة إلى فترة من فترات الاصطدام بين المغرب والغرب حيث تم طرد اليهود والأمازيغ والعرب المسلمين، والتنكيل الجماعي بأول أقلية على نطاق واسع في العالم. وقد تم طرد ثلاثة في المائة من ساكنة إسبانيا، وهي نسبة كبيرة من ساكنة ذلك البلد. ومكن الحدث من بناء الهوية الإسبانية، والدولة الإسبانية باعتبارها أول دولة تأسست في العصر الحديث. واعتمدت العقيدة المسيحية، واللغة القشتالية، إذ ظهر أول معجم “اللغة القشتالية”، وترسيم الحدود، عبر النقيض أو الآخر وهو الموري. وبذلك أسهمت الأقلية في تحديد الهوية. لابد للآخر لتحديد الأنا. ولا بد منه لينصهر الداخل في مواجهة الخارج.

أين المفر؟  

وقال أنوار إن العصر الحاضر يغرقنا بالمنتوجات المختلفة من مكبر الصوت الذي نستعمله الآن إلى لباسنا اليومي، والحاسوب، والألبسة وبعض ألوان الطعام، ولم يحتل الغرب الأرض عبر منتوجاته المختلفة بل امتلك السماء، الفضاء بتعبير فاطمة المرنيسي. فما العمل؟ ألم يبق إلا الانخراط في العصر (والفلاح في ذلك، والتعويل على المنافسة)؟ ورغم عودة بعض عناصر الديني، فمن الصعب عودته والهيمنة على الأفئدة لأن اليومي يفرض ذاته، ويكاد يطيح بالمطامح والأعناق.

ولم نستطع أن نفلت حتى الآن من الاغتراب، بل الغربة المزدوجة كما قال بها المفكر عبد الله العروي، غربة في الماضي وأخرى في الحاضر- الغرب. فما المآل؟

   بذور التعايش؟

من ملامح التسامح أني كتبت بحثا وبينت فيه أن حائط المبكى، في إسرائيل، كذبة وأن بناءه يعود إلى العصر الحديث. وذات يوم، دعتني زميلة إلى نقاش في موضوع البحث. ومما قالته لي: إنك أصبت اليهودية في مقتل، فقد شككت في أحد أسسها.. ولكني لن أصيبك بأذى، ولن أقتلك!

وقرأت مرة كتابا صدر عن النبي إبراهيم، هو الذي ذكر عشرات المرات في القرآن. وقدمت عنه قراءة نقدية في إحدى المجلات. وكان مضمون الكتاب نقديا.. بناء على ما ورد في الكتاب الذي تحرى كاتبه الموضوعية، واعتمد المراجع العلمية. وكتب لي حاخام، ودعاني للحوار. وكان باحثا متخصصا في سيرة إبراهيم. ودافع كل واحد عن وجهة نظره، وانتهى اللقاء. وكانت تلك بداية صداقة لن تنته فصولها حتى الآن. وتعتبر هذه اللحظات متعة وجودية أن لا يقود الاختلاف نحو الخلاف، وأن الأفكار تواجه بالأفكار..

 مشاعر الأمشاج  

يعود الجمع بين الكتابة الفكرية والتخييلة، إلى بعض الصدفة والحتمية.

الكتابة الفكرية ترتبط بالانتماء إلى الفضاء الجامعي، والتدريس، والرغبة في إبداء الرأي والمشاركة في الجدل الذي يهم العرب والمسلمين الخارجين من حجر الاحتلال والحماية، وكل حوار أو جدل يثير نظيره ونقيضه.. ويطلب المزيد من الانخراط، وشحذ الأسئلة عبر القراءة. أما الكتابة التخييلية فتنبع من لحظات الوقوف بمحطات التيه، والشعور بالضياع، واحتباس الأفكار، في انتظار عودة الوعي كاملا؛ لأن كتابة الإبداع كتابة المشاعر، واللاوعي، والأمشاج..

 الفكر أطروحة. للدفاع عنها أو تفنيدها..

وكان الختام مسك، إذ أشار أحد المتدخلين إلى أن طنجة مدينة التسامح بامتياز مشيرا إلى عدد البيعات، والكنائس، ومقبرة الكلاب، فرد عليه أحد المحاورين: من كان يملك الكلاب التي قضت نحبها، ووريت التراب هناك؟ هل كانوا مغاربة؟

وفي النهاية، تناول الكلمة رئيس جمعية طنجة الكبرى للعمل التربوي والرياضي شاكرا “أنوار مجيد، ابن المدينة الذي يقدم لها خدمات جلى في صمت وتفان، ومنها جامعة وأشياء أخرى على الطريق”، واستعرض بعض أنشطة الجمعية التي غطت فصل الصيف كله، شاكرا كل من أسهم في تنشيط صيف طنجة من ضيوف، ورواد قاموا بتنشيط فعاليات، ومن قادتهم الصدفة إلى فضاءاتها، وأعضاء الجمعية من رسميين ومتطوعين.  

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة