لوي- فرديناند سيلين واللعنة الأبدية

لوي- فرديناند سيلين واللعنة الأبدية

باريس – المعطي قبال

        مجرم، معادي للسامية، محتال، متواطئ مع النازية، وحش نساء الخ… ألصقت هذه الأوصاف غير الكاملة بالكاتب الفرنسي لوي- فرديناند سيلين (27 ماي 1894- 1 يوليوز 1961)، الذي فتن ملايين القراء وشغل آلاف النقاد بأسلوبه، لغته وعالمه الروائي الذي لا يعدو كونه مرأة لحياة الشتات التي عاشها. وتبقى رائعته «رحلة إلى منتهى الليل» بمثابة تحدي لكل ما جاء من أدب من قبله ومن بعده. ويشاع أن العداء الصامت بينه وبين جان جونيه كان ساريا بسبب تثوير اللغة الفرنسية من الداخل. في الوقت الذي يطبق صمت رهيب على نتاج جونيه، في هذا الوقت يصنع سيلين الحدث الأدبي في فرنسا بل وفي أكثر من بلد أوروبي. فبعد رواية «حرب» الصادرة في الخامس من مايو الماضي، والتي تربعت على قائمة المبيعات لعدة أشهر بتحقيقها لمبيعات بلغت 210.000 نسخة، تصدر في 13 أكتوبر القادم رواية «لندن»، وهي رواية مثل سابقتها غير منشورة ومحسوبة على النصوص الضائعة للكاتب، فيما يصدر نص ثالث العام القادم على شكل قص تقليدي من حول أسطورة الملك كروغولد. وبذلك تكتمل الثلاثية التي اختفت نصوصها لمدة 70 عاما والتي عثر على أوراقها المخطوطة في حقيبة بقبو بيت لوي فيرديناند سيلين.  تتضمن الوثائق التي تم العثور عليها حزمة من الأوراق يبلغ عددها 250 صفحة يتناول موضوعها الحرب التي وقعت بمنطقة فلاندر خلال الحرب الكونية الأولى والثانية. وقد حرر النص بعد سنتين على صدور رحلة إلى منتهى الليل عام 1932 ويعتبر وثيقة مهمة في نتاج الكاتب. يتعرف القارئ على الصدمة التي أحدثتها جبهة الحرب في نفس وجسد الكاتب. يصف سيلين هذه الجبهة ب «المجزرة الكونية وهي في حالة جنون». في رواية حرب، يعيد سيلين إحياء الجندي فيرديناند والجرح الخطير الذي تلقاه بساحة المعركة حيث فقد على إثره الوعي. يسرد نقاهته ولقاءاته مع ممرضة وقواد  وكذا صدمته على إثر دوي القذائف وتجربة الخنادق. وسيكون هذا الجرح خلاصا له إذ سيعفى من خدمة الجندية ويرسل إلى لندن.

      فر سيلين من فرنسا إلى الدنمارك مخافة اغتياله تاركا وراءه آلاف الأوراق في بيته الباريسي الواقع بالمقاطعة الثامنة عشرة. ولما عاد بعد نهاية الحرب، تبخرت هذه الوثائق. ولم يكف عن التنديد بالسرقات التي لحقته. بعد 70 سنة على اختفاء الوثائق، وبعد عام على وفاة زوجة سيلين، أعلن الصحافي سابقا بجريدة ليبراسيون جان-بيار تيبودا  أن الوثائق بحوزته. وقد سلمها في الأخير إلى الورثة الشرعيين.  ولم يكشف تيبودا عن هوية المانح الذي سلمه هذه الوثائق.

     لندن، الرواية الثانية تحكي مغادرة الجندي الشاب لفرنسا متجها صوب إنجلترا. فيما تسرد الرواية الثالثة التي تصدر عام 2023، في سلسلة لابلياد، وهي على شكل قص قروسطي، «إرادة الملك كروغولد».

   نصوص سيلين مرأة لحياته: نصوص متشظية، مغبرة، سرية وأسيرة الدهاليز. نصوص لاحقتها لعنة النقاد وتمنى البعض مسح أثرها من الآداب الفرنسية فيما طالبت جهات أخرى بتناسيها. لكن عبقرية سيلين كانت اقوى من كل هذه المقاومات. أحدثت لغته خلخلة في اللغة الفرنسية. تتأتى فتنة القراء برواياته من هذه اللغة الشعبية التي تستدعي القدح، القذف والسخرية المرة. يسرد وقائع الحرب، تفشي الأوبئة وقدرية واستسلام الفرنسيين أمام الموت، تأكل الأجساد من الداخل بفعل الاستهلاك المفرط للخمر…إنها صورة فرنسا وهي لا زالت أسيرة تخلف الضواحي والبوادي فيما رأس المال في المدن الكبرى شرع في ملأ جيوب الأثرياء الجدد.

    في تاريخ الآداب الفرنسية، هناك ما قبل وما بعد سيلين. وسيبقى نتاجه مدعاة لإزعاج قوي لكل من أراد مسح أثره أو تناسي عبقريته اللاذعة. بعد أن تمتع القراء ب «بهاء» البؤس والحرب كما عرضهما في رواية «حرب»، من الكاد قد يتمتعون برواية «لندن» التي ستصدر عن غاليمار في 13 من أكتوبر. هل ستحقق نفس النجاح لتكريس شعبية سيلين في المكتبات ولدى القراء مثل سابقتها أم سيخبو الاهتمام لتنزل إلى أسفل القائمة وتنطفيء شعلته؟

Visited 3 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

المعطي قبّال

كاتب ومترجم مغربي - رئيس تحرير مساعد لموقع "السؤال الآن".