فريدا كاهلو: بحثا في الجسد المنشطر
باريس – المعطي قبال
لمشاهدة معرض فريدا كاهلو المقام حاليا بقصر غالييرا تحت عنوان «ما وراء المظاهر»، على الزائر الانتظار لمدة ساعتين متواصلتين وسط طابور يبلغ طوله على الأقل كيلومتر ونصف. يجد هذا الإقبال على المعرض تفسيره في شخصية الرسامة المكسيكية التي تجمع كل مواصفات الفرادة والتميز والريادة الفنية. لذا يقف الجمهور لمدة طويلة أمام لوحات وتشكيلات صاغتها كاهلو بناء على إستيتيقا باهرة. ولما تستعرض 200 قطعة ومادة وافدة من الدار الزرقاء، المنزل الذي ولدت ونشأت فيه فريدا، لا يسعك إلا أن تحيي في خشوع بالغ إبداعية، بل عبقرية هذه المرأة التي لم تعمر طويلا 47 سنة، والتي أغدقت على الفن العالمي بسخاء إبداعا، حبا، وجمالا.
ولدت ماغدالينا كارمين فريدا كاهلو إي كالديرون بالدار الزرقاء ببلدة كويوأكان، بالمكسيك في 6 من يوليوز. أصيبت في سن السادسة بشلل الأطفال. لمجابهة هذا المرض الذي أرغمها على الحفاظ على العزلة، ابتكرت صديقة وهمية تحادثها باستمرار عبر مونولوغ يدور حول الفن، المرض، الموت… من هذه التجربة انبثقت فكرة الصنو أو المماثل التي تشغل رسوماتها. وهي إلى حد ما الفكرة الفلسفية القائلة بـ «تماثل الأنا والاخر». إن كان مرض الأطفال بمثابة صدمة أولى فإن الحادث الذي تعرضت له في 17 سبتمبر 1925 هو الصدمة الثانية التي تلقتها وهي في سن الثامنة عشرة. اضطرت فريدا على إثر هذا الحادث التخلي عن متابعة دراستها الجامعية في مادة الطب. وكما يقال، رب ضارة نافعة، توجهت فريدا إلى الرسم. بعد أربع سنوات تزوجت من الرسام العالمي دييغو ريفيرا قبل أن يطلقا ويتزوجا مرة ثانية بسان فرانسيسكو عام 1940.
غادرت كاهلو المكسيك لأول مرة بعد زواجها لمرافقة دييغو ريفيرا إلى ما أسمته غرينغو-لاند أي الولايات المتحدة التي كانت تكن لها عداء صريحا. كان زوجها فنانا معترفا به في الأوساط الفنية بكل من نيويورك، سان فرانسيسكو، ديتروا حيث اقتنت العديد من المتاحف لوحاته الفنية. في هذه الأثناء انتبه النقاد والفنانون إلى العمل الذي أنجزته فريدا ومن تم تهاطلت عليها الطلبات. عادت مجددا إلى نيويورك لتعرض بشكل انفرادي بغاليري جوليان ليفي.
ستكون باريس محطة هامة في مسارها الفني الذي نوه به أكثر من مبدع ومثقف. بدعوة من أندريه بروتون قبلت فريدا تقديم معرض لأعمالها. لما وصلت إلى باريس في يناير 1939، لم يكن المعرض جاهزا. لكن غاليري برونو وكولي أنقدت الموقف ونظمت معرضا جماعيا في عنوان «المكسيك» عرضت خلاله 18 قطعة من أعمال فريدا. وكان استقبال بعض الفنانين المرموقين في المستوى. كما اقتنت فرنسا، وكانت المرة الأولى التي يدخل فيها فنان مكسيكي الكاتالوج الفرنسي، لوحة في عنوان «الإطار» هو بورتريه للفنانة. خلال إقامتها الباريسية مرضت كاهلو ودخلت إلى المستشفى. وتكلف الرسام العالمي مارسيل ديشان ورفيقته ماري راينولدز بالسهر على علاجها.
جعلت فريدا كاهلو من الإعاقة فنا بتحويلها مشدات الخصر، الساق الاصطناعي والأدوات الطبية التي تساعدها على الحركة، إلى تحف فنية. في بشاعة المرض والحياة المصطنعة، تسرب فريدا زخما من الجمالية الفائقة. بتعديلها فنيا لجسدها المعطوب، كانت فريدا سباقة إلى ابتكار لغة بصرية مكتظة بالألوان والأنوار. هذه الرمزية مستقاة من الفنون الشعبية المكسيكية التي تعج بالألوان الساحرة. وهو عالم شبيه بعالم الألوان المغربية التي افتتن بها أكثر من فنان عالمي.
الملابس الساحرة هي مرأة لحضارة تقف من ورائها المرأة، لذلك تزيت فريدا بأزياء النساء المكسيكيات وبقيت وفية لهذا التقليد الذي يضرب جذوره في أعماق التاريخ منذ حضارات الأتيك، الأنكا والمايا.
هذه العناية بجمالية اللباس هو ما جعل من فريدا كاهلو أيقونة الموضة إلى يومنا هذا، ايقونة لا تبلى ولا يصيبها التقادم. وهذا ما يفسر أيضا إقامة المعرض في متحف الموضة سابقا ويعرف اليوم بقصر غالييرا.
بعد عبور المحطات السبع التي يتآلف منها المعرض يخرج الزائر بالبصر مليئا بسحر الألوان وبالبصيرة حافلة بالرموز والعلامات المتأتية من مشغولات عاشتها بقوة الفنانة مثل الصدمات، النزعة الاثنية، العزلة، الإعاقة، الهوية الجنسية والالتزام السياسي… ويتأكد الزائر من شيء واحد هو أن زيارة واحدة لهذا المعرض الذي يحتوي على 200 قطعة فنية، لا تكفي، بل يجب العودة مرة ثانية لزيارة أكثر تمعنا في هذا النتاج الذي يقام لأول مرة بباريس.