كيف حسم طه حسين السجال الحاصل حول هوية الدولة المرابطية؟
عبد السلام بنعيسي
عاد السجالُ ليحتدَّ من جديد حول أصل الدولة المرابطية. فلأن أفرادا منها، كانت، أصولهم، في انطلاقتها، من موريتانيا الحالية، فإن العديد من الموريتانيين يعتبرونها حاليا دولة موريتانية في منشئها، ويحقُّ لهم ولدولتهم الراهنة الاعتداد بمنجزاتها، وأن ينسبوها لأنفسهم ولتاريخهم، والمغاربة يُلحّون على كون الدولة المرابطية، دولةٌ مغربية، منشآَ ومآلا…
ما يعزز هذا السجال ويغري باحتدامه، هو أن دولة المرابطين التي حكمت المغرب في الفترة الممتدة بين 1056- 1147م، من عاصمتها مراكش، كانت واحدة من أقوى وأعرق الدول التي عرفتها المنطقة المغاربية، فحدودها كانت تمتد شمالا إلى قلب الأندلس، وجنوبا إلى نهر السينغال، وكان يوسف بن تاشفين سلطانا من أهم سلاطينها، فهو صاحب موقعة الزلاقة في الأندلس والتي تعتبر معركة من أعظم المعارك التي خاضها المسلمون في تاريخهم الغابر، ولا يزال الكثير منهم إلى اليوم يسجلون موقعة الزلاقة كمفخرة من مفاخرهم القديمة، فلقد حققوا فيها نصرا باهرا على النصارى.
إذا كان أصلُ من حَكَمَ دولةً من الدول لفترة زمنية معينة، يحدّدُ جنسية الدولة وانتماءها، فإن العديد من الدول سينقلب حالُها ويتبدّلُ تبديلا جوهريا، فمثلا، أصل باراك أوباما من كينيا، وأصل أدولف هتلر من النمسا، وأصل نيكولا ساركوزي من هنغاريا، وأصل أحمد بن بلا من المغرب… فهل يجوز القول تبعا لأصول هؤلاء الرؤساء أن دولهم التي حكموها لم تكن أمريكية، وألمانية، وفرنسية، وجزائرية، وباتت تحمل انتماءات حكامها التي جاءتهم من اصولهم العرقية السابقة؟ هل من المعقول القول إن ألمانيا نمساوية لأن هتلر كان من أصول نمساوية؟ هل يجوز منطقيا القول إن فرنسا صارت هنغارية لأن والد نيكولا ساركوزي كان هنغاريا؟ الأجوبة القطعية على هذه الأسئلة الافتراضية، طبعا، هي لا كبيرة.
الذي ينفي عن المرابطين انتماءهم للمغرب لأنهم من أصول موريتانية، ينسى أنه هو أيضا، وطبقا لهذا المنطق، قد لا يعدو موريتانيا، أو جزائريا، أو تونسيا، أو ليبيا، فأصله قد يكون من الحجاز، إنه وافدٌ إلى شمال إفريقيا، من قلب الصحراء العربية، أو من تخوم اليمن، وما ينطبق على عدم مغربية المرابطين لأنهم جاؤوا من موريتانيا، يسري عليه هو بدوره، لأنه قادمٌ في أصوله من مناطق بعيدة وغريبة عن الدولة التي يحمل حاليا جنسيتها. فالأمر متطابق في الحالتين، وما يمشي على هذه الجهة يجوز على الجهة الأخرى، بذات المنطق، وبنفس التحليل والاستنتاج.
السلالات التي حكمت المغرب هي: الإدريسية، والمرابطية، والموحدية، والمرينية، والسعدية والعلوية، وثلاث من هذه السلالات من أصول أمازيغية، ألا وهم المرابطون، والموحدون، والمرينيون، في حين أن الأدارسة، والسعديين، والعلويين الذين يحكمون المغرب حاليا، من أصول عربية، فكلهم وافدون من الحجاز إلى المغرب واستقروا فيه، وباتوا بحكم الاستقرار مغاربة، ولا يزالون يعيشون مغاربة في وطنهم المغرب، فإذا جردنا المرابطين من انتمائهم للمغرب، لأنهم جاؤوا إليه من موريتانيا، يحقُّ لنا أن نفعل نفس الشيء مع الأدارسة الذين شكلوا أول دولة إسلامية في المغرب الأقصى، وبنوا عاصمتها فاس، فمؤسسها إدريس الأول جاء هاربا من الحجاز بعد نجاته من موقعة فخ، واستقبله الأمازيغ بالترحاب، وزوجوه ابنتهم كنزة، وبايعوه سلطانا عليهم، وترك ذريته من خلفه وحكمت المغرب لسنوات عديدة.
ونفس الأمر جرى مع السعديين، فهم أيضا وافدون إلى المغرب من المشرق، وآل إليهم في حقبة زمنية حكمُ المغرب، وخاضوا، مع أشقائهم الأمازيغ، معركة وادي المخازن التي هزموا فيها البرتغال، ونتيجة للانتصار المغربي التي تحقق فيها، حافظت تلكم المعركة لمنطقة شمال إفريقيا لقرون عدة على استقلالها، وعلى هويتها الحضارية العربية الأمازيغية الإسلامية، والعلويون الذين يحكمون المغرب اليوم جاؤوا بدورهم من الحجاز، واستقروا في المغرب، وعاشوا فيه بين سكانه واندمجوا معهم، وتمكنوا من الوصول إلى دفة الحكم، وها هم لا يزالون يحكمون المغرب بصفتهم المغربية التي لا يستطيع أي كان، منازعتهم فيها.
فلماذا وحدهم المرابطون هم الذين يتم التشكيك في مغربيتهم بدعوى أنهم من أصول موريتانية؟ فهل كانت في ذلك العصر دولةٌ موريتانية قائمة الذات؟ وهل كانت لها حدودٌ معروفة، وكان الانطلاق من داخلها يحدد الانتماء إليها؟ المعروف تاريخيا، هو أن الحدود الموجودة حاليا بين الدول المغاربية، صناعة استعمارية، فتنقُّلُ القبائل في المنطقة المغاربية والمشرقية كان يتم بتلقائية، ولم تكن هناك قيودٌ تحدُّه، وتحول دون تنقل تلك القبائل من جهة إلى أخرى، ولذلك من الصعب الحديث عن أصل الإنسان المغاربي، حينها، بناء على انتمائه لبقعة جغرافية معينة. الفضاءُ كان كلُّه لذلك الإنسان يصول ويجول فيه، شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، في حرية تامة…
طه حسين يحسم في مثل هذا الخلاف القائم حاليا حول هوية الدولة المرابطية، فيمكن مقارنة حالها بحال الدولة الفاطمية التي حكمت مصر، رغم أنها من أصول مغاربية، فيقول طه حسين في هذا السياق التالي: (أبى الفرس والرومان والبيزنطيون الأوائل أن يتجنسوا بالجنسية المصرية، فلم يستقر لهم أمر في مصر إلا بالعنف والقهر وبالسطو واليأس)، وهو ما جرى تقريبا للرومان والبيزنطيين والفرنسيين والإيطاليين في منطقة المغرب العربي، لكن كما يسجل ذلك عميد الأدب العربي: (اتخذ المقدونيون والمماليك والفاطميون الجنسية المصرية، فأتيح لهم المجد واستقرار الملك، وأصبحت دولهم مصرية كدول الفراعنة)… وهذا عينه ما جرى في المغرب مع المرابطين، فحتى لو افترضنا أنهم كانوا موريتانيين، فلقد اتخذوا الجنسية المغربية، وصنعوا بها مجدهم الذي خلَّف ذكرَهُم العطر في التاريخ…
ليست الغاية مما سلف، بالنسبة لي كمغربي، التفاخر بالمرابطين وبأنهم كانوا مغاربة، فذلك ماض كان وانقضى، وتلك أمَّةٌ قد خلت لها ما كسبت ولنا ما كسبنا، وهو تفاخرٌ لا يقدم ولا يؤخر، الهدف هو إحقاق الحقِّ للوصول إلى الخلاصة التي تفيد بأن السجال حول الماضي الغابر في منطقتنا، يكشف وجود أزمة لدى النخبة الحاكمة فيها، فبسبب فشلها في تجاوز خلافات دولها البينية، لتحقيق الوحدة المغاربية، وتأمين تنميتها، واستقرارها، وازدهارها، وتوفير الخبز، والدواء، والتعليم، والسكن، والشغل، والكرامة لمواطنها، فإن هذه النخبة باتت تبحث عما يذكي النزعة الوطنية الضيقة التي تصبح نرجسية وشوفينية مقيتة لدى ساكنتها، لتدفعها للشعور بالأنا الغليظة، والاستعلاء على أشقائها في الدول المجاورة، وبذلك تصبح تلكم الساكنة رافضة الانفتاح على جيرانها، وتعدو رهن إشارة النخبة المحلية الحاكمة، وتقبل الرضوخ لسيطرتها، متصورة أنها في وضعها هذا، فإنها فوق جيرانها وأحسن منهم حالا ومآلا، وتفضل البقاء في وضعها الراهن، ولا تعمل من أجل تغييره، وفي هذا الإطار يُوظَّفُ كلُّ شيء، بما في ذلك التاريخ بأبعاده الثقافية والرمزية…
لو كانت الساحة المغاربية خالية من هذه الصراعات المدمرة، ولو كان التعاون سائدا بين دولها، والمسار التنموي في تطور مضطرد، والاندماج والتكامل الاقتصادي يسيران جنبا إلى جنب، والازدهار يتحقق، ويتراكم لمواطنيها، والتبادل الثقافي مزدهر، لكانت نظرة المغاربيين إلى ماضيهم تعكس واقعهم الحالي، ولما كان هناك سجال من هذا القبيل بينهم، حول أصل وجنسية الدولة المرابطية، أو الموحدية، أو الزايرية… ولكان كل التراث المغاربي ملكٌ لكافة المغاربة لا يسعى أي طرف منهم لتملُّكه لوحده، واحتكاره لنفسه دون غيره. الأزمة السياسية المغاربية الراهنة تعقدت وامتدت لتشمل حتى ماضي هذه المنطقة وتاريخها…
إلى ماذا سيُفضي هذا الوضع؟ العلم عند الله تبارك وتعالى…