المفعول المعكوس للحرب وأدوارها السياسية
عبد الرحيم ازرويل
تقترب روسيا أخيراً (بعد شهور ثلاثة) من إنجاز عسكري ذو دلالة، وهو السيطرة على منطقة الدونباس، بعد أن غيرت على ما يبدو من خطتها العسكرية وقلّلت من طموحها بانسحابها السريع من منطقة كييف.
في الآن نفسه لا زال الائتلاف الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية يسلح الأوكرانيين بوتيرة لم يسبق لها نظير، ويغذيها بالخبراء العسكريين والمحاربين المتطوعين، المؤطرين من طرف المخابرات المعادية.
ماذا ربح بوتين من هذه الحرب التي لم تنتهِ بعد، والتي قد تؤول في أحسن الحالات إلى حرب استنزاف طويلة، سيؤدي ثمنها الشعب الروسي (الذي لم يستشر في شيء)، كما قد تؤدي ثمنها الوحدة الروسية، بعد تصدع محتمل داخل الأوليغارشية الحاكمة (إحالة على أطروحة نيكوس بولانتزاس Nicos Poulantzas، التي تفيد أن من عواقب إشعال الحروب من طرف الأنظمة غير الديموقراطية، احتمال تفجر تناقضات داخلية مميتة بالنسبة لهذه الأنظمة).
قد يقال بأن الآلة العسكرية الروسية لا يمكن أن تنهزم في حرب من هذا العيار (رغم هفوات كثيرة فاجأت العالم).. ولكن، هل تستطيع الصمود طويلا أمام حرب استنزاف تحضر لها الجيوش الغربية مجتمعة، سلاحا وخبرة ومالا؟
هل سيستمر الشعب الروسي في صمته، إذا استمرت ويلات الحرب بتزايد عدد الموتى؟
ألم تكن حرب أفغانستان التي انهزم فيها الجيش السوفياتي سبباً – من ضمن أسباب أخرى- في انهيار الاتحاد السوفياتي؟
قد نتصور سيناريو متفائلا بالنسبة لبوتين، يفرض فيه على أوكرانيا (المسيرة من طرف الولايات المتحدة منذ 2014 على الأقل) الحياد وعدم الانضمام إلى الحلف الأطلسي، بالإضافة إلى منح مناطق الدونباس وضعاً دستوريا، يتميز بنوع من الحكم الذاتي … ولكن ماذا يساوي هذا الربح أمام قبول فنلندا (التي تربطها بروسيا 1400 كيلومتر) الانضمام الى الحلف الأطلسي، شأنها في ذلك شأن السويد، وهما بلدان مسالمان منذ الحرب العالمية الثانية، ولم ينخرطا في الحرب الباردة؟
يكاد يكون هذا التحول الجذري للوضع الاستراتيجي لفنلندا والسويد أكبر خسارة لروسيا في هذه الحرب.
وكأننا بالحلف الأطلسي يقول “شكراً” لبوتين على الخدمات الكبرى التي أسداها له: أصبحت صفوف الدول المكونة له متراصة سنة بعد إعلان الرئيس ماكرون عن الموت الدماغي لهذا الحلف، أعادت دول مثل ألمانيا، بل سويسرا، تسليح ذاتها بشكل غير مسبوق… لفائدة المركب الصناعي العسكري الأمريكي.
هكذا نرى أن المساعدات الغربية لأوكرانيا هي قبل كل شيء تغدية عظيمة للامبريالية الأمريكية وضمان لدوام سيطرتها على حلقات حلفائها الضعاف (على سبيل المثال حؤول الأمريكيين بهذه المناسبة دون بيع الفرنسيين لطائرات الرافال للألمان وغيرهم من الشركاء الأوروبيين).
هناك سيناريو آخر أكثر قتامة، يكمن في تعثر الحرب وغوصها في رمال أوكرانيا المتحركة؛ والحال أن روسيا بوتين لا يمكن أن تقبل الخسران. من بيده إيقاف الحرب في هذه الحالة؟ لا مصلحة للولايات المتحدة الأمريكية في إنهاء الحرب، لأن مرادها هو إضعاف روسيا، بل تكسير وحدتها بغاية الاستيلاء على خيراتها العظيمة. في الآن ذاته يدرك بوتين أن مآل الحرب من جنس مآله. هل سيدفع جنون العظمة في هذه الحالة إلى فتح باب الجحيم النووي؟
ذلك هو ما لا يكف يهدد به معلقو الإعلام الروسي الرسمي. غير أنه بغض النظر عن المزايدات المتوقعة في كل مواجهة عسكرية، ألا يمكن أن نقول مع المؤرخ الفرنسي Thomas Gomart أننا نعيش في ظل كارثة “تشنُّ فيها روسيا حرباً استعمارية على أوكرانيا تحت حماية نووية” ( صحيفة Le Monde الصادرة بتاريخ 23/5/2022).
خسر بوتين الحرب أخلاقياً على الأقل، حين وضع بلده العظيم في هذه الورطة وجعله يلعب دور المعتدي، هو الذي كان دوما نصيرا للشعوب المضطهدة. جعل اقتصاده يتجه إلى الانتكاس بفعل العقوبات الغربية الكارثية (وللتذكير، فإن السوق الصينية لا يمكنها أن تستوعب وحدها الغاز والبترول الروسيين، ولا يمكن للصين أن تخاطر باقتصادها بالمراهنة على مصدر وحيد للطاقة).
يبين ما سبق أن رجل السياسة الذي لا يخضع لمراقبة سلط مضادة قد يأخذ قرارات متهورة، بل لا يستطيع أبداً السيطرة كليا على أفعاله، بحيث أن تبعات قراراته يمكن أن يكون لها مفعولا معكوسا وتنقلب عليه، بل تتجه في اتجاه غير الذي رسمه.
لماذا يغامر الساسة في الحروب إذن؟ يجيب غاستون بوتولGaston Bouthoul في كتابه Traité de polémologie : “تشكل الحرب راحة بالنسبة للحاكمين، إذ يمكنهم أن يتذرعوا بشعار الإنقاذ الوطني، أو التخويف من مخاطر تهدد الوطن… بحيث تتيح الحرب للحكام القيام بما يشاؤون. بالحرب يمنح الحكام لأنفسهم الحق في اعتبار كل المشكلات الأخرى واهية، وبها يفرضون الصمت على كل معارضة وعلى كل مطالب؛ بل تتيح الحرب للحكام، حتى في الأقطار الأكثر ديموقراطية، أن يفرضوا الخضوع والانضباط السلبي على مواطنيهم، ويحولونهم من مواطنين إلى رعايا …”.
أخيراً، لا يمكن أن نغفل عن شعور مناصر لبوتين في الدول العربية وغيرها، وهو شعور مفهوم إذا راعينا الغبن والعدوان الذي عانته هذه الشعوب من طرف أمريكا واسرائيل؛ غير أن المظلوم لا يمكن أن يناصر إلا المظلوم، وغير أن بوتين هو وريث يلتسين، الذي أعده للخلافة الأبدية في بلد دمرته سياسة يلتسين بسرقة القرن التي تمّ بها الاستحواذ على كل ما بنته الثورة البلشفية منذ .1917