السجال بين طهران والرباط.. لماذا تصاعد عقب اللقاء المغربي اليمني؟
عبد السلام بنعيسي
في رد المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، ناصر كنعاني، على اتهامات وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، ضد بلاده، بالتدخل في اليمن وشؤون الدول العربية، نصح كنعاني المغرب “بقضاء وقته في حل مشاكل ومعاناة الشعب اليمني المظلوم، ووضع الأسس لتحديد مصير الشعب الصحراوي وفق أصول وأنظمة الأمم المتحدة، بدلاً من الاعتماد على الكيان الصهيوني لفرض أهدافه في المنطقة”. وقال كنعاني “بدلا من الإسقاطات، وتوجيه الاتهامات العارية من الصحة للجمهورية الإسلامية في إيران، يجدر بالمغرب أن يهتم وأن يرد على هواجس انعدام الأمن الذي يهدد دول وشعوب المنطقة بسبب تطبيعه للعلاقات مع نظام الفصل العنصري الصهيوني”.
جاء هذا التصريح الإيراني الناري عقب المؤتمر الصحفي المشترك الذي عقده وزير خارجية المغرب ناصر بوريطة مع نظيره اليمني وزير الخارجية وشؤون المغتربين بالجمهورية اليمنية أحمد عوض بن مبارك الذي كان في زيارة للرباط، حيث أُعلن هناك عن تعيين المغرب لقائم بالأعمال لدى اليمن مقيم بالسعودية، وحيث أدلى بوريطة بتصريح يقول فيه: “المغرب يدين الأعمال الإرهابية لجماعة أنصار الله الحوثية”، واتهمها بالقيام بأعمال تهدد الأمن والسلم في السعودية… مضيفا أن جماعة “الحوثي تشتغل بأجندة إيران”، وقال بوريطة “إن لقاء اليوم كان مناسبة لاستحضار عمق وقوة العلاقة التي تجمع بين البلدين والشعبين”، وهي علاقات، قائمة حسب قوله، “على الأخوة الصادقة والتضامن وعلى الدعم المتبادل فيما يخص القضايا الأساسية للبلدين”، أي المغرب واليمن.
بقراءة متأملة لهذا السجال الحاصل بين المغرب والجمهورية الإسلامية الإيرانية يسهل على المرء أن يستنتج ببساطة إن المغرب يَجُرُّ إيران جرًّا لإقحامها في مشكل أقاليمه الصحراوية، فلأول مرة نقرأ تصريحا لمسؤول إيراني يتحدث فيه صراحة عن تقرير مصير الشعب الصحراوي. لقد ظلت الدولة الإيرانية، لزمن طويل، تضع مسافة بينها والمشاكل القائمة بين المغرب والجزائر، ولم تكن تتدخل فيها، وكان بإمكان الرباط، الحفاظ، على الأقل، على حياد إيران بخصوص الصراع حول صحرائه الغربية، فعدم إعلان الإيرانيين، عن موقف مؤيدٍ للطرح الجزائري، يمكن اعتباره مكسبا مغربيا كان يتعين صونه وعدم التفريط فيه.
فلم يسبق للسلطات المغربية تقديم أي دليل مادي ملموس على أن إيران تدعم البوليساريو وتُزوِّدُها بالسلاح والتدريب، فلو كانت إيران تسلح عناصر البوليساريو وتدربها لما ترددت في الإعلان عن تسليحها وتدريبها لهم، ولتمكن المغرب من الحصول، بوسائله الخاصة أو من طرف جهات خارجية، على ما يفيد أن إيران متورطة في الصراع القائم في المنطقة…
لكن، في غياب الأدلة التي تفيد انغماس إيران في هذا الصراع، وحين يبادر المغرب إلى قطع علاقاته الدبلوماسية بإيران، ويظل يتحرش بها، ويتهمها، مجانا، وبشكلٍ متواتر، بأنها تدعم البولساريو، وتساند فصل الصحراء عن الوطن الأم، فإنه يدفعها ويحرضها على القيام بذلك، فأين المصلحة المغربية في كل هذا؟ الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان، وقطر، والكويت تحافظ على علاقات طبيعية بالدولة الإيرانية رغم العقبات الكثيرة التي تعتري هذه العلاقات، والمملكة العربية السعودية تفاوض إيران لإعادة العلاقات معها إلى حالتها الطبيعية، والإدارة الأمريكية تسعى بكافة الطرق لإيجاد صيغة للتفاوض المباشر مع الدولة الإيرانية، ويمكن الجزم بأن حتى الكيان الصهيوني على استعداد لإقامة علاقات مع إيران إن قبلت هي بذلك، فلماذا المغرب الرسمي لوحده يستعدي إيران، ويعلن عن رفضه لها، ويقطع علاقاته بها، ويوجه إليه الاتهامات تلو الاتهامات؟؟ أين المصلحة المغربية في هذا التصرف؟ وهل المغرب حريص على أمن واستقرار الدول الخليجية أكثر منها؟ هل يعرف مصلحتها أفضل من المسؤولين الخليجيين أنفسهم؟؟؟
هذا التوتر المتصاعد في العلاقات بين المغرب وإيران وارتفاع حدته في هذا التوقيت، لا يمكن فصله عن التوتر الحاصل في العلاقات بين الرباط وباريس، فلقد هيمن، لزمنٍ طويل، على السلطة في المغرب تيارٌ فرانكفوني انعزالي يرفض انتماء المغرب لمحيطه العربي ويُحاربُه بلا هوادة، وكان هذا التيار المتمكن من السلطة والثروة، بدعمٍ من فرنسا، يحرض ضد كل ما هو عربي وإسلامي في المغرب، ويسعى إلى النفخ في التمايز الحاصل بين المكونات الهوياتية للمغرب، ويدفع تلكم المكونات لكي تصبح متعارضة ومتناحرة بينها، وخلق له أبواقا وجعلها تستحثُّ على الفتنة العرقية في المغرب، وتمدح فرنسا، وتعتبر مصير المغرب مرتبطا أشدَّ الارتباط بها.
وعمل التيار الفرنكفوني الانعزالي على تهميش اللغة العربية، وصار يروج لضرورة التدريس بالعامية، والأمازيغية، والفرنسية، وأضحى في بعض الأوقات، مجرد التلفظ بكلمة باللغة العربية الفصحى، في برامج التولك الشو التي تقدمها الإذاعات التي نبتت كالفطر في المدن المغربية، يصبح، مصدرا للتقريع والتأنيب، لمن يتفوه بها، من طرف معدي تلكم البرامج الممولة فرنسيا، وفُرضت اللغة الفرنسية على المغاربة بدلا عن العربية كمادة لتدريس العلوم، وسيطرت الشركات الفرنسية على معظم الخيرات والثروات المغربية، ورُفع شعار “تامغرابيت” والمغرب أولا، أي لا لعروبة المغرب، ولا متلعثمة لدينه الإسلامي، ولم تعد الرباط تحضر لمؤتمرات القمة العربية إلا بشكلٍ رمزي…
وكان كل ذلك يحدث لاستطابة خاطر الماما فرنسا ولكسب ودها، وبضغط منها، واليوم بعد أن تكسرت جرّة هذه العلاقات، وانقطعت سبل التواصل بين باريس والرباط، تبين أن هذه السياسة وصلت، مغربيا، إلى الطريق المسدود، وأنها أضحت تشكل خطرا على حرية المغرب وسيادته واستقلاله، فكان لا بد من الثوبة عنها والعودة المغربية التدريجية إلى المحيط العربي، خصوصا مع قرب انعقاد مؤتمر القمة العربي بالجزائر، فكان هذا الاستقبال الصاخب الذي خصصته الرباط لوزير الخارجية وشؤون المغتربين بالجمهورية اليمنية أحمد عوض بن مبارك، مع الحديث الدافئ الذي صاحبه من جانب بوريطة عن “عمق وقوة العلاقة التي تجمع بين البلدين والشعبين”، وهي علاقات، قائمة حسب قوله، “على الأخوة الصادقة والتضامن وعلى الدعم المتبادل فيما يخص القضايا الأساسية للبلدين”. وكان الاستقبال مصحوبا بهذا الهجوم المغربي الصاعق على إيران.
لا يمكن لكل مغربي إلا تأييد عودة المغرب إلى محيطه العربي، ونحن مع الوقوف إلى جانب الأشقاء الخليجيين ولا نقبل تعرض أمنهم واستقرارهم للتهديد، فأمنهم جزء لا يتجزأ من الأمن القومي العربي، ولكن ينبغي أن تكون العودة المغربية إلى الحضن العربي مدروسة، وأن تكون مفيدة للمغرب ولأشقائه العرب، فالحوثيون مُكوِّنٌ رئيسي من مكونات الشعب اليمني، ولا يجوز وضعهم كلهم في سلة واحدة، واتهامهم جميعهم بالإرهاب. فاتهامٌ من هذا القبيل لا يسمن ولا يغني من جوع، ولن يساعد في جعل المغرب دولة مساهمة في حقن الدم العربي في الخليج وفي اليمن.
العقل يقتضي منا الانفتاح على الحوثيين وطمأنتهم، والتفاوض معهم، والبحث عن حلول متوافق عليها وإياهم، فالحوثيون أبانوا أنهم أهل للحوار ولتفاهم ولتجاوز الخلافات حين أعادوا للمغرب جثمان الطيار المغربي الذي قُتل في اليمن، أعادوه دون قيدٍ ولا شرط، كما أن العودة المغربية للمحيط العربي لا ينبغي أن تبنى على أساس استعداء إيران وإبداء الكراهية لها… هذه سياسةُ أعداء الأمة العربية والإسلامية، ولقد كانت هي السائدة منذ ما يفوق الأربعين سنة، ولم تنتج لنا إلا الصراعات، والحروب، والتدمير، والخراب في المنطقة. نحن في حاجة لسياسة عربية مغايرة ومخالفة لهذه السياسة التي أودت بنا إلى الهلاك.
الجمهورية الإسلامية الإيرانية جارة لنا، وهي تمد يد الحوار والتفاهم إلينا، وترغب في التعاون معنا، فلماذا لا نقابلها بالمثل؟ أين الحكمة والمنفعة العربية في الاستمرار في استعدائها؟ كيف نقبل التطبيع مع الكيان الصهيوني ونعادي إيران الدولة المسلمة؟ عودة السياسة المغربية إلى محيطها العربي، ينبغي أن تندرج في سياق التعاون العربي مع جيرانه الإقليميين، وفي مقدمتهم إيران، ويتعين أن تتحرك في هذا الاتجاه، وأن تكون مرفقة بلجم الاندفاع المغربي الرسمي الأهوج نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني.
سياسة التحريض، وإثارة البغضاء والكراهية بين دول الخليج وإيران، هذه سياسة عقيمة، ومخصية، وفاشلة، وأكدت الوقائع لا جدواها، ولن يقبلها من المغرب، حتى العقلاء الخليجيون أنفسهم، فلماذا المضيُّ فيها من جانب الوزير بوريطة ومن الجهات النافذة التي يُطبِّقُ تعليماتها؟؟