من روح الإقطاع البدوي إلى روح إرهاب الدين (1/3)
لحسن أوزين
نعتقد حسب ما سمحت لنا به ظروف التتبع للشأن الفكري والثقافي، وبدافع حرقة الاسئلة التي لا ترحم أعماقنا، وهي تتطلع الى رؤية بصيص من نور شمس، تشع على المجتمعات العربية والإسلامية، معلنة ولادة الانسان في مجتمعاتنا ونهاية العصور المظلمة. نعتقد ان هناك أفقا مظلما لإطار فكري تقنيني انغلاقي عنصري مذهبي طائفي، متخلف الجذور والوسائل والغايات والاهداف. يمتد من الخلفيات الفلسفية والمعرفية والدينية، عند لكل من الشافعي و الغزالي.. مرورا بابن خلدون، وصولا الى كتاب “روح الدين ” للشيخ طه عبد الرحمن.
وهذه محاولة منا لنقد ونقض هذا الوحش الداخلي الذي يتخذ تمظهرات كثيرة، ومختلفة في العقيدة والطقوس والشعائر، وفي الفكر والثقافة، وفي العلاقات الاجتماعية، مختبئا بحكم مفارقته للتاريخي الاجتماعي في آليات الفكر والتفكير، وفي ثنايا الادراك والرؤية.
وذلك انطلاقا مما تتيحه لنا الكثير من الدراسات والأبحاث والأطروحات الجامعية التي تناولت العصور الوسطى العربية الإسلامية، خاصة تلك التي عنيت بالفكرالإسلامي السياسي التاريخي، بناء على المقاربات والمنهجيات العلمية النقدية في العلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة. ونخص بالذكر مثلا أعمال كل من محمد أركون ومحمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد وعبد الله العروي…
ونقصد أيضا في هذا السياق بالتحديد أعمال كل من محمود إسماعيل وإبراهيم القادري والحبيب الجنحاني وناجية الوريمي…
انطلاقا من هذا يمكننا إزالة القداسة العلمية التي خلعت في ظروف وملابسات معرفية وتاريخية وحضارية على الكثير من المصادر القديمة من بينها كتب ابن خلدون. كما يمكننا إعادة قراءة تاريخنا وارثنا الفكري الثقافي بعقل علمي وفكر نقدي ضد الوعي الأسطوري الذي أناخ بكلله التصحري قرونا متواصلة. لم نعد عزلا ولسنا وحدنا في الميدان ولا امتياز معرفي مذهبي يقوي من عصبية ابن خلدون في امتلاكه للحقيقة المعرفية التاريخية. ولا قيمة معرفية لأسطورة الريادة والعظمة والحداثة او ما بعد الحداثة التي نسجتها حوله الكثير من الأقلام التي غلطها بذكاء فقيه روح الاقطاع البدوي، بأسسه العصبية الدينية. هكذا يمكننا قراءة الخطاب الخلدوني تأسيسا على التراكم المعرفي العلمي الذي سلط الكثير من الأضواء على تلك “العصور المظلمة” من خلال الجهد الكبير الذي بذلته الأسماء التي اشرنا إلى بعضها سابقا في البحث والتنقيب والتحقيق والترجمة. وفي لم الكثير من الوثائق والمصادر المبثوثة بين دفتي الكثير من المصادر المغمورة التي لم تلتفت إليها أغلب الأبحاث الحديثة والمعاصرة التي خنقت جهدها بالتمسك الأعمى بالرؤى الأسطورية وفق منهجياتها التقليدية. وبعضها الأخر تذرع بدعوى انها بعيدة عن حقل اختصاصها واهتماماتها العلمية. إما بسبب محدودية خلفيتها النظرية والمنهجية، أو للضغط الإيديولوجي الذي ضيق من أبعاد رؤيتها. وفي الكثير من المواقف يمكن فهم هذا التكاسل كتكريس للأسس والتوجهات والاختيارات التي تقف وراء تخلف المجتمعات العربية الإسلامية، وفي شمولية أزماتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية. بما في ذلك أزمة المعرفة الجامعية والبحث العلمي المحكوم بدوافع الترقي المادي وفق معايير بعيدة عن تقويم ثقافة الجهد والانجاز، والقريبة من تقويم الولاء. إنها معايير تحارب المشاريع العلمية الحقيقية انسجاما مع سياسات هدر الطاقات والوعي والفكر العلمي النقدي وتجريم وتحريم البحث العلمي الأصيل.
فنحن عندما نقرا مثلا أعمال محمود إسماعيل نفهم جيدا عمل ابن خلدون كمحاولة فكرية نظرية و سياسية لقراءة سلسلة الانهيارات التي عاشتها المجتمعات العربية الإسلامية عبر صيرورة تاريخية إقطاعيتها التي أنتجها اقتصاد المغازي العسكري الديني الذي وصل سقفه التاريخي الاجتماعي مع بداية القرن الخامس الهجري. وهذا يعني نهاية السيطرة العربية الإسلامية على التجارة الدولية عبر البحار وبروز الاجتياح البدوي للمشرق والمغرب. لذلك ترسخت وسادت قيم القوة و التغلب والقهر البدوي العصبي، من السطو والمصادرة للأرض والأموال بشكل استبدادي عنيف، من خلال عمال وولاة الخليفة. حيث نجد مثلا خالد بن عبد الله القسري عامل العراق وموسى بن نصير عامل المغرب والاندلس، ونذكر ايضا كلا من يزيد بن ابي مسلم وعبيد الله بن الحبحاب… وقد مارسوا تسلطا فظيعا لتأمين موارد مالية، تتجاوز السياسة الجبائية المالية التي جعلت عامة الناس تعاني من ظلمها القاسي في إنتاج حياتها المادية المعيشية. مما أدى إلى تخلف القطاعات الإنتاجية كالزراعة والصناعة والتجارة، والى فقدان الأمن والأمان والاستقرار النفسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي. فانتشرت القيم الأخلاقية للروح البدوية، اي قيم القوة متمثلة في التوحش والتغلب والبأس والافتراس والرجولة ” اما في ميدان السياسة الجبائية فبعد ان توقف تدفق الغنائم على مركز الخلافة بتوقف الفتوحات وذلك في الفترة نفسها التي ازدادت فيها تكاليف الجند بدأ البحث عن موارد مالية جديدة بسن نظام جبائي مرهق يعتمد اساسا على الخراج والجزية” . 1
هذه الروح البدوية التي سحرت ابن خلدون ورأى فيها الخلاص من نتائج فساد وخراب العمران الحضري، متوهما وفق عقلية صوفية معيارية أخلاقية أن هناك صراعا تناقضيا طبيعيا- وليس تناقضا سياسيا اجتماعيا تاريخيا بشريا – بين العمران البدوي والعمران الحضري او قل انه في تحقيق وتعليل ونظر ابن خلدون تناقض خاضع لمنطق “سنة الله في خلقه” وفق العمر البيولوجي للدول والمجتمعات. لم يقو ابن خلدون على فهم ما يسميه خراب وفساد التمدن والحضارة على أن ذلك ليس أكثر من المنطق الداخلي لتطور حركة تناقضات السيرورة الاجتماعية التاريخية الإقطاعية لما يسميه “فطرة الروح البدوية العصبية”. فلم يستطع ان يدرك بتحيزه المذهبي الديني،, وبعقليته كإقطاعي فاشل في تأسيس امارته، الترابط المعقد لتناقضات الاقطاعية البدوية العسكرية الدينية، وانتظامها في الفكر السياسي المذهبي وفي المجتمع والتاريخ.
إن تناقضات وهزائم المجتمعات العربية الاسلامية لا تكمن في ترف وانحلال وفساد التحضر، كقيم جوهرية يفرزها الرقي والتقدم، وكمستوى طبيعي لتطور العمران الحضري. ولا في رقي وتقدم علاقاته الاجتماعية وعلومه العقلية والمنطقية والكلامية والفلسفية، بل ان المشكلة تكمن في دولة المغازي العسكرية الدينية بقواها البدوية الاجتماعية العصبية. وتكمن ايضا في أساس اقتصاد المغازي الذي يؤسس لصيرورتها ولانسدادها التاريخي الاجتماعي الملموس في ما يعتقده بصيغة عامة جوهرية ” التمدن والحضارة”. فالمسالة مرتبطة بالتفكك والتحلل والتمزق السياسي والاجتماعي، والخراب العمراني، وما رافق ذلك من مجاعات وفتن وحروب أنتجها الاجتياح البدوي في المشرق والمغرب. “أجمعت ثلة من الباحثين على مسؤولية تلك الاجتياحات عن اضمحلال العالم الاسلامي شرقا وغربا. فقد ذكر شاخت ان تلك الاجتياحات” قصمت ظهر البورجوازية التي قادت الازدهار الاقتصادي والفكري في العالم الاسلامي الوسيط”. وفي المعنى نفسه ذهب ايف لاكوست الى ان “العناصر البدوية المهمشة هي المسؤولة عن تدهور التجارة ومن ثم الحضارة”. ويقول جواتياين ان “انتكاسة البورجوازية اقتصاديا واجتماعيا اقترنت بزحف عناصر بدوية ذات أصول تركية في المشرق الاسلامي”. وكان هاملتون جيب ابلغ تعبيرا حين قال “تغيرت احوال العالم الاسلامي في القرن الخامس الهجري تغييرا جذريا نتيجة حركات العناصر البدوية كالقبائل التركية التي غزت شرقي فارس وشمالها، وامتدت الى العراق وشمالي سوريا. والقبائل العربية التي زحفت على الشام ومصر وبلغت شمال افريقيا والبربر الذين تحركوا في بلاد المغرب فتدهورت الحياة الاقتصادية، حيث حل الاقتصاد القائم على الزراعة والرعي محل الاقتصاد التجاري”. 2
فاذا كانت العناصر البدوية هي التي أجهزت على تاريخ المجتمعات العربية والاسلامية وعلى تجربتها الحضارية، فما الذي دفع ابن خلدون الى غربلة التاريخ بتحيز مذهبي ديني عرقي تفاضلي أساسه القهر والتغلب والبأس والاستبداد نصرة للعمران البدوي، الى درجة جعل من المعاش البدوي، النموذج والمثال الأعلى، مما اضطره الى تزوير التاريخ، والامعان في بناء تأويل للأحداث والوقائع والنصوص، خدمة لتأسيس حقائق المذهب السني، كقوانين اجتماعية تاريخية، مسيجة بالقداسة الإلهية. فقد تحاشى في خطابه كل ما يمكن ان يسيء للبدو، الى حد أنه قدم تأويلا لحديث “الهجر بطريقة تناسب قراءته المغرضة. وفي هذا السياق تناول موضوع الهجرة والتعرب معالجة يخالف بها جمهور الفقهاء. فهو لا يرى رأيهم في ذم البداوة وذم خصالها، بل هو يرى على العكس من ذلك أن البداوة أقرب الى خصال الدين والخير من الحضارة”. 3
وفي تجنبه تسمية بني هلال وبني سليم باسم البدو، قال عنهم القبائل العربية. وأيضا في تغييبه استراتيجية مجمل معاني ودلالات أفكاره، حول البدو، يعتقد القارئ بذمه للعرق العربي. لكن طريقته في النظر والتحقيق والتعليل، ليست سوى أسلوبا في التغطية والتعمية، عن مدى قداسته للمشروع الاقطاعي للروح البدوية.”من جملة ما وصف ابن خلدون به العرب قوله انهم “أمة وحشية” وهذا التعبير يقصد به ابن خلدون معنى غير الذي نقصده نحن الذين نعيش في هذا العصر الحديث. فقد اعتدنا ان نعدد التوحش في الامم صفة مذمومة جدا، ولذا فنحن حين نقرأ عبارة ابن خلدون في وصف العرب نتصور أنه ذمهم ذما قبيحا. الواقع ان ابن خلدون كان يعني بالتوحش سكنى الصحراء والتوغل فيها بعيدا عن الحضارة. وهذا في اصطلاح ابن خلدون ليس ذما إنما هو وصف موضوعي يراد به الذم من وجهة نظر الحضارة ويراد به المدح من وجهة نظر البداوة”. 4. ان اسطورة التأسيس للامة كمتخيل تاريخي اجتماعي هي التي كانت توجه تفكير ابن خلدون. وتجعله يتجاوز واقعه بالخيال في استرداد هوامي نكوصي لحالة التناغم والانسجام والصفاء والكمال والاكتمال، للأجوبة الشاملة الناجزة والنهائية لغاية الوجود البشري في الحياة الدنيا، ولتحقق الوحدة المثالية لفعل القداسة في الاجتماع الانساني التاريخي. وهو يرى ان التيه في هداية القفر والنشأة على البأس، وتعود الافتراس وركوب البيداء السبيل الوحيد لنشأة مستأنفة للروح البدوية العصبية اللازمة للمعاش المثالي للعمران البدوي وللدعوة الدينية. ” حتى نشأ في ذلك التيه جيل اخر عزيز لا يعرف الاحكام والقهر. ولا يسام بالمذلة فنشأت بذلك عصبية اخرى”5. وهذا التيه الديني والمعرفي والتاريخي في نظر ابن خلدون لن يجد أسسه وأرضيته الصلبة إلا في عصبية البداوة لأنها الخير والاخلاق والقيم والدين الحق.” نجد المتقشفين من أهل البادية او الحاضرة ممن يأخذ نفسه بالجوع والتجافي عن الملاذ أحسن دينا وإقبالا على العبادة من أهل الترف والخصب، بل نجد أهل الدين قليلين في المدن والامصار”. 6
لكن الحياة الملموسة التي عاشتها المجتمعات العربية الإسلامية، تبين بوضوح مدنية الدين وأفقه الحضاري المتجاوز للعمران البدوي، ولعقلية القهر والتسلط والاستبداد. كما ان البحث التاريخي العلمي والتمحيص النقدي الذي أنجزته الاسماء السابقة يبين حجم الكارثة التي حصلت للحضارة العربية الاسلامية عندما اجتاحتها الروح البدوية للعصبيات. “ولعل في تماثل أحداث ووقائع وغايات ظهور المرابطين في الوقت ذاته الذي ظهر فيه السلاجقة في الشرق- فضلا عن الاتصال السياسي بينهما- ما ينم على شمولية ظاهرة القوى البدوية الطرفدارية العسكرية السنية التي كرست الاقطاع في العالم الاسلامي شرقا وغربا… وبرغم سقوط المرابطين على يد الموحدين واعتناق الاخيرين ايديولوجية ليبرالية ذات طابع برجوازي فقد ظل الحال على ما هو عليه. خصوصا وأن قبائل مصمودة التي أسست الدولة الموحدية كانت قبائل مهمشة طالما عانت من ويلات السياسة المرابطية. دليلنا على ذلك ان الموحدين ما لبثوا ان تخلوا عن ايديولوجيتهم الليبرالية، وعادوا الى النصية التي شكلت غطاء ايديولوجيا عاما للقوى البدوية الاقطاعية العسكرية.”7
فالإشكالية النظرية في مقدمة ابن خلدون بعيدة كليا عن الشروط الموضوعية، المؤسسة للقوانين الاجتماعية المادية المسؤولة عن الظلم و الخراب والفساد، الذي أنتجه السقف التاريخي لتطور العمران الحضري الاقطاعي. هذا يعني أن المأزق الاجتماعي التاريخي هو مأزق القوى الاجتماعية الحاملة للمشروع الاقطاعي العسكري الديني، وليس مأزقا لقيم التمدن والتحضر. وهذا ما وثقته الكثير من المصادر التي عايشت الروح البدوية الاقطاعية عبر التاريخ. “وقد لخص ابن عذارى ما نجم عن سيادة الاقطاعية من أضرار بالمزارع حين قال أجدبت الارض حتى جفت مرابعها وأغبرت جوانبها وقلت المحامي وكثرت اللوازم على الرعايا بالعدوتين. وفي المعنى نفسه ذكر ابن القطان “عمت الرزايا والمصائب وهلك فيها الشاب والشايب وعادت زاهرات الامصار موحشة خرائب”. 8. واستمر الحال على المنوال نفسه في ظل الدول التي أعقبت الموحدين في المغرب. ذكر المراكشي أن جل الاراضي الزراعية ” صارت اقطاعات جارية على أشياخ الجند لكل واحد منهم عشرون مثقالا من الذهب يأخذها من قبائل وقرى وضياع”. 8
فبناء على هذه المعطيات العلمية التاريخية التي انتجتها الكثير من الاقلام المعروفة بأمانتها العلمية، و بنفسها الطويل وصبرها الدؤوب في لم شتات النصوص والوثائق من مختلف المصادر لإنجاز سوسيولوجيا للفكر الإسلامي، مع البحث التاريخي الاقتصادي الاجتماعي للمجتمعات العربية الإسلامية، يمكننا إدراك مدى خطورة الفكر الخلدوني الذي تمكنت من استثماره إيديولوجيا الرؤى العنصرية الاستشراقية، والسوسيولوجيا الاستعمارية في النظر إلينا كبدو وعصبيات قبلية، و اثنيات لغوية دينية طائفية، لإقصائنا مما هو متاح للبشرية جمعاء من مشترك إنساني. أي ما وصل اليه التطور الحضاري الانساني بفعل إسهام كل حضارات الشعوب المختلفة. بما في ذلك الحضارة العربية الاسلامية من قيم ومبادئ كونية، كالحرية والديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان في إطار الدولة الحديثة.
“بدأت العناية بالأثر الخلدوني في الأزمنة المعاصرة من طرف الجامعات ومؤسسات البحث الغربية، وقد ظل ابن خلدون إلى حدود سنة 1825 معروفاً بواسطة بعض المقتطفات ذات الحدوس النظرية القوية المستلة على وجه الخصوص من كتاب “المقدمة… وقد اعتنى الباحثون الغربيون في مرحلة لاحقة وفي سياق حسابات سياسية وعسكرية محددة بالأجزاء المتعلقة بتاريخ البربر، وترتب عن ذلك بصورة غير مباشرة عملية دمج الأثر الخلدوني في المعرفة الكونية. بل إن الأمر تجاوز ذلك، حيث حرص بعض الباحثين الغربيين على تمجيد العناصر والمعطيات النظرية ذات الطابع العقلاني والوضعي في نصوصه، وأنجزت في سياق ما سبق عمليات في المماثلة بين آثاره والآثار النصية للرواد من مؤسسي العلوم الإنسانية. فترتب عن هذه المماثلات أننا أصبحنا أمام مفكر يتمتع بامتياز احتضان نصوصه داخل سياق مدارس الفكر الغربي المعاصر، وذلك رغم انفصال مسار تشكل خطابه عن مسارات تبلور خطابات التاريخ والمجتمع والاقتصاد ثم الانثربولوجية في الأزمنة الحديثة والمعاصرة. ورغم سيادة نزعة التمركز المعرفي الغربي التي واكبت كما هو معروف ميلاد الظاهرة الامبريالية”.
ولم يكن تدريس بعض نتف من مقدمة ابن خلدون في الازهر من طرف محمد عبده بالحدث البارز في ما سمي بفكر النهضة العربية، دون تكلف عناء البحث التاريخي في الظروف والسياقات التي جعلت محمد عبده وغيره من رواد النهضة يرون في الدولة الاساس الموضوعي لانبثاق الحداثة في المجتمعات العربية والاسلامية ومن ثمة تشكل هاجس البحث عن سلطان قاهر يفرض العقل بالقوة، لذلك ولدت مقولة المستبد العادل التي وجد محمد عبده اصولها القهرية الاستبدادية في مقدمة ابن خلدون. 9
تمجيد وتعظيم ابن خلدون للروح العصبية البدوية دينيا واخلاقيا واجتماعيا، واعتبارها النموذج المثالي لدولة الغلبة والقهر والاستبداد الديني والدنيوي الخالي من الفساد الاخلاقي والديني والعمراني. والمترفع عن خراب وظلم وانحلال قيم التمدن والحضارة. هذا ليس أكثر من تغطية وتعمية عن المجازر الفظيعة والكوارث الاقتصادية الصناعية والتجارية والبيئية الزراعية التي كانت ترافق مرحلة التأسيس لإقطاع عصبية الروح البدوية. فالشعوب تجهل بفعل الجهل والقهر والاستبداد الذي مورس في حقها، عبر التاريخ القيمة المعرفية والرمزية والاجتماعية والتاريخية، لأبطالها الاسطوريين الذين بنوا زيف مجدهم السلطوي على أساس فظيع كله ظلم و حروب. فكيف مثلا ستكون نظرة الناس الى صلاح الدين الايوبي عندما تكون المادة التاريخية النقدية في متناولهم. ” وبديهي ان تترسخ الاقطاعية بالمثل في مصر والشام وشبه الجزيرة العربية بعد نجاح صلاح الدين في تأسيس الدولة الايوبية. وهذا راجع الى الطابع العسكري الذي صبغ دولة بني ايوب ذات الصراعات الدائمة والدائبة مع الأتابكة والصليبين فضلا عن فلول الفاطميين. بديهي ان يختص صلاح الدين نفسه واسرته وأجناده بأجود الاراضي الزراعية. لذلك قال المقريزي ” وأما ما كان في أيام صلاح الدين الى ايامنا هذه فإن اراضي مصر كلها صارت تقطع للسلطان وأمرائه وأجناده.” مصداق ذلك اقطاع أباه الاسكندرية ودمياط والبحيرة. كما أقطع أخاه شمس الدين توران شاه قوص وعيذاب. وأقطع أخاه العادل حلب والكرك والشوبك و البلقاء فضلا عن بعض قرى مصر.” 10 وهذا جزء من غيض مارسه أبطال ملاحمنا المقدسة المتعالية على التاريخ.
ولنا في المراحل الانتقالية التي كانت تمر بها المجتمعات أكبر درس تاريخي يعبر عن همجية استبدادية البداوة، بقيمها العنيفة التي يؤسسها التوحش والبأس والقوة في النهب والمصادرة، وفي التحكم بمنطق الغلبة والقهر. فعلى أنقاض الظلم والسلب والنهب وعنف الدماء تأسست مثلا دول عصبية الروح البدوية الاقطاعية لكل من الامويين والعباسيين والفاطميين وغيرهم. وذلك من خلال تسلط الولاة في أجزاء الخلافة.
ولنرى كيف ” أمر عبد الله بن ياسين نفسه اللمتونيين بغزو جماعة من قبائل البربر فهزموهم وسبوهم وقسموا أموالهم وخمسوا صبيتهم فيقال إنه كان اول خمس قسمه اللمتوني بعد انتصاره على برغواطة.”. 11 فماذا يميز هذا الخراب البدوي في مرحلته التأسيسية المثالية الذي كان يتكرر عند بداية ولادة وصعود عصبية الروح البدوية للعمران البدوي، الذي سكن مجاهدة صوفية ابن خلدون، في شهوته العارمة للعنف والاستبداد الاقطاعي عن مرحلة فساده وظلمه وتفككه وانهياره، كسقف حضاري اقطاعي للاجتياح البدوي؟ فمؤسس الدولة المهدي بن تومرت الذي “قتل من قتل من المرابطين قسم أراضيهم وكورهم بين أصحابه وأصفى ديارهم جوائز لكل قبيلة جائزة. “وهذا يعني استمرار ظاهرة الاقطاع القبلي التي وجدت في عصر المرابطين. وماجرى من تغيير في هذا الصدد هو استبدال قبائل صنهاجة المرابطية بمصمودة الموحدية”. 12
ونحن نرى اليوم حجم الكوارث الانسانية التي تعيشها شعوب المنطقة بفعل التكامل الموضوعي، برغم ما يظهر من اختلاف مخادع، بين الروح البدوية للإقطاع العسكري الديني المحلي والقوى العظمى الاستعمارية. وأن أقصى ما يمكن ان تتوافق حوله هذه الرؤية الهمجية المشتركة في تدمير الإنسان والمجتمعات والأوطان هو ان “تصور المجتمعات المتخلفة كالمجتمعات العربية التي هي بأمس الحاجة الى التكامل الاجتماعي والى تركيز مفاهيم المواطنة ولواحقها… تصور هذه المجتمعات على أسس تفتيتية تفصل ما بين مكوناتها على أسس اثنية ولغوية ودينية…
واعتبار ان الديمقراطية شأن للجماعات وليس للمواطنين الافراد اي أننا نساهم في العملية الديمقراطية بوصفنا مولودين في جماعات معينة ذات مواصفات عرقية، وغيرها وأن هذا هو الاطار الصحيح للعبارة عن التمثيل السياسي اي ان الديمقراطية تحالف بين القيادات الطوائفية وليس تمثيلا لأفراد على اساس اختيار حر” . 13