الاستسلام للرداءة والتفاهة والضحالة (؟!)
عبد الرحمان الغندور
من المتعارف عليه جدلا، أن أهم مؤسسة في الأنظمة المسماة ديمقراطية، هي المؤسسة التشريعية، فهي التي تشرع لباقي المؤسسات ما يجب تنفيذه، اقتصاديا وماليا واجتماعيا وثقافيا وقضائيا.
ويتحدد وجه الديمقراطية في اي بلد من خلال ما يرتسم على وجه مؤسسته التشريعية.
وقد عرف هذا “البلد السعيد جدا” مؤسسات تشريعية منذ 1963، شرعت ما يكفي من القوانين والبرامج التي جعلت المغرب يغرق في الاستغلال والظلم والقهر والاستعباد والفساد. وكان الصراع على قدر ما شرعته من برامج وقوانين صارمة، من انتفاضة 23 مارس 1965 إلى معارك 20 فبراير 2011، بما أفرزه من نضالات وما قدمه المغاربة من تضحيات في الأرواح والمنافي والمعتقلات والمحاكمات والحرمان من الأرزاق، وما أبدعه شباب هذه المراحل من أشكال احتجاجية تمردية، في مجال التظاهرات الاجتماعية، والابداعات الفنية كجيل جيلالة وناس الغيوان ولمشاهب…الخ والكتابة الإبداعية في الشعر والرواية والأقصوصة والمسرح، والنقد الاجتماعي والتاريخي في كتابات الجابري والعروي وجسوس...
بكلمة واحدة، كان الصراع محتدما بين بنية النظام السلطوي ومؤسساته التشريعية والتنفيذية والقمعية والقضائية، وبنية التغيير التي قادها المتنورون في الفكر والسياسة والابداع.
وكان القاسم المشترك، هو “طابع الجودة” الذي هيمن على أطراف الصراع. فكانت “الدولة الجيدة” بمؤسساتها في صراع محتدم مع نخبة وشرائح مجتمعية ذات ” جودة عالية ” فكريا وسلوكيا وأخلاقيا. ومهما كانت الأخطاء التي صدرت عن أطراف الصراع، فقد كانت بدورها “أخطاء تتميز بـ”جودة” الوضوح بين القمع والنضال، بين منطق الإفساد والرغبة في الإصلاح، بين سياسة الاستعباد والنزوع نحو التحرر والانعتاق.
بكلمة واحدة، كانت “جودة النظام” كما يرى نفسه، في مستوى جودة معارضيه كما يتمثلون مشروعهم.
أما اليوم، وبعد إخماد طموحات وشعارات حركة 20 فبراير خلال العقد الأخير. فقد وجد المغرب نفسه تحت هيمنة ما أسميه منذ الآن “الطوطوية” TOTOISME.
لقد ساعدنا حضور “طوطو” على نحت المصطلح الذي أصبح عنوانا لمرحلة بكل مؤسساتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، واحزابها في الأغلبية والمعرضة، ونقاباتها وجمعياتها المدنية، وفاعليها السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين والثقافيين والإعلاميين، ونخبها الفكرية من أكاديميين وجامعيين، وأصحاب القنوات التي فوق العد والحصر، والمبدعين من أدباء وشعراء ومسرحيين ونقاد وموسيقيين ومطربين وتشكيليين…الخ
وإذا كان الصراع السابق بين الدولة والمعارضين، قائما على “جودة المتصارعين”، فإن واقع اليوم، فتطبعه الرداءة والسخافة والسفاهة والضحالة والسفالة، كشكل من أشكال الوجود الذي لا يستقيم العيش بدونه. فكي تكون موجودا، لا بد أن تكون رديئا سخيفا سفيها ضحلا وسافلا. سواء كنت وزيرا أو برلمانيا أو زعيما سياسيا أو نقابيا، أو كاتبا أو فنانا… أو كنت مواطنا عاديا يستهلك الطوطوية ويعيد انتاجها.
أن تكون موجودا وتستحق العيش على هذه الأرض يجب أن تكون “طوطوي” TOTOISTE وأن تجعل من “الطوطوية” نموذجك للعيش والحياة.
ويبدو ذلك على سبيل المثال لا الحصر، في وجه مؤسستنا التشريعية، ومواقفها ونقاشاتها وأولوياتها واهتماماتها…
تأملوا أشخاصها الذين يسميهم الدستور “نواب الأمة”، واستمعوا بإمعان إلى تدخلاتهم وتصريحاتهم وأسئلتهم وتعقيباتهم…وانظروا مسلكياتهم وتصرفاتهم السرية والمكشوفة.
واستنتجوا ما طاب لكم، وأنتم تكتشفون “الفلسفة الطوطوية” بجلاء ووضوح.
فحين يفسد المنبع الذي يشرع للأمة، فكل ما يخرج منه ويجري في حياتنا العامة، ليس سوى فساد ينتج الفساد.
أخجل حقا من انتمائي لأمة يشرع لها طوطو، وينتخب الجهل فيها نواب أمة يشرعنون الطوطوية وينفذونها ويحكمون بها.
أخجل من انتمائي للبلد السعيد… دون أن أخجل من هويتي المغربية التي أدرك بوضوح ما مثلته عبر التاريخ وما خلفت لي من رمزيات في المواقف والأشخاص لا زلت أفتخر بها، وأدرك أيضا ما تتعرض له من تدمير من طرف من لا قيمة لهم، الذين جعلوا كل هويتهم في بطونهم وما يدخلها من فضلات .
لا مفر من الألم والحزن اللذين يسببهما هذا الواقع البئيس. لكن تحملهما بوجع الصمت استكانة وجبن، ومبرر للتافهين والرديئين كي يزيدوا في طغيانهم. لذلك اخترت أن أحول ألمي ووجعي وأسفي، إلى عضب وتمرد وثورة… فكثير من الألم لا يجدي شيئا، وقليل من الغضب يمكن أن يغير أشياء وأشياء…
الظلم والنهب والاحتقار والإذلال والإهانة، التي طبعت صراعنا السابق، وقاومناها بكبرياء وكرامة، أهون من استبطان ثقافة الرداءة والتفاهة والسفاهة والسفالة، وإعادة انتاجها.
الضحايا هم دائما أنفسهم، والجلاد هو دائما نفسه، لكن الجديد في حالنا اليوم، أن الجلاد أوكل لنا مهمة جلد أنفسنا بأنفسنا، عن طريق دفعنا دفعا لإدمان الرداءة والتفاهة والحقارة والسفالة والسفاهة، والمطالبة بها كلما قل صبيبها بل واستجداؤها من صانعيها مع تأدية ثمنها.
لن أكون ضحية للقهر الطوطوي الجديد في كل الحالات، فلا معنى عندي للحزن والألم على ما يقع لي، فأنا لن أكون ضحية الجلاد فقط، ولكن ضحية صمتي وتقبلي لتجرع الألم. فليس أمامي سوى الغضب والتمرد في وجه السافلين التافهين والمنحطين، أنى كانوا وكيفما كانت مواقعهم في الدولة والمجتمع، ولن أسمح لنفسي بالصمت والجبن والخنوع. وأضعف الإيمان أن ألعن جهارا، كل الطوطويين، صغارا وكبارا… وأن أصرخ في وجههم:
الله يَـخْـلِـيـهَـا سَـلْـعَـة والله يَـلـعـن للي ما يحشم.