“مُعادَلةُ رحيلِ عون”
نجيب علي العطّار
خيرُ بِدْءٍ، قبل الإمعانِ في بَيانِ العُنوان، أنْ تُوحيَ إلينا الكوميديا السوداءُ بعضَ ما يُستعانُ به، من دونِ الإلهِ/ الآلهة، على تحديد بعضِ الماهيّاتِ؛ مثلَ اسمِ المكانِ والزّمانِ ومَن هو مَعنيٌّ، أو مُعنًّى، بالعيشِ فيهِما. أمّا المكانُ فهو مِساحةٌ جغرافيّةٌ تَتبعُ إداريًّا لكوكبِ الأرضِ وتُسمّى، من باب التَّسمِيَةِ أوِ التَّسميم، “لبنان”. ولعلَّ طولَ بقاءِ هذه التّسمية يعودُ إلى عِلّةِ أنَّ تغييرَ أسماءِ الدُول عادةٌ لا يُحبّذُ أنْ تكونَ عادةً. والواقعُ أنّ تعريفَ بلدٍ ما، بوصفِه اسمَ مكانٍ سياسيٍّ، يبقى ناقصًا إذا لم يُشفَعْ بتعريف الزّمان، فالمِساحات السياسيّة تُعرَّفُ بالمكان وتُعرَفُ بالزّمان، ولعلّ أنفعَ ما يُجادُ به لتعريف بلدٍ ما في فترةٍ زمنيّةٍ مُعيّنةٍ هو مُصطلحُ “الزّمكان” الآينشتينيّ. وأمّا المعنيّون بالعيشِ في الزّمكان اللّبناني فيُسمَّوْنَ “لبنانيين” من بابِ نِسبةِ السّاكِنِ إلى اسمِ مسكنِه، أو سكَنِه.
ينتظرُ اللّبنانيّون، أو الزّمكانيّون، رحيلَ الزّمكانيّ الأوّل وضمائرِه المُستَتِرة، من القصرِ الرئاسيّ بصورةٍ لعلّها لن تكون أقلَّ سُرياليّةً منَ الصّورة التي دخلَ بها أوّلَ مرّة. ورغمَ أنّه لا يجوزُ وَصفُ اللبنانيين عمومًا بالانقسام إذ أنّهم لم يتّفقوا حتّى ينقسموا، لكن على سبيل التجاوز يُمكن القول أنّهم الآن منقسمون من حيثُ انطباعِهم تجاه قيام من لم تقُمْ في عهدِه لـ “لبنان” قائمة. على أنّ المتألّمين من فَقدِ الرئيسِ لمنصبِه يشتركون مع المتأمّلين بفَقدِ المنصبِ لرئيسِه في نقطةٍ لعلَّ أحسنَ ما يُقالُ عنها ليس أنّها غيرُ واقعيّةٍ وحسب، بل هي اللاواقعيّةُ نفسُها، وتتجلّى في تسميةِ السنواتِ الستِّ التي مرّتْ على الزّمكان اللبناني بـ “عهد عون“.
إنّ إضافةَ اسمِ عائلةِ رئيسِ الجمهوريةِ لكلمةِ “عهد” لم تعدْ تحملُ أيَّ معنى بعد الإنسحابِ الباسلِ للاحتلال السوريّ من لبنان، إذ أنّ رؤساءَ ما بعد الإنسحابِ السوريّ، ولا يبدو أنّ ميشال عون آخرُهم، لم يكونوا إلّا إفرازاتِ طبيعيّة للبِدَعتَيْن اللبنانيّتَيْن؛ التّسوياتيّة والتوافقيّة، حيثُ يُمكننا، من باب الدعاية للمنتجات السياسيّة اللبنانيّة أن نقول؛ مع كلّ رئيسٍ جديدٍ تحصلُ على مُعارضةٍ مجّانًا. وهذا ممّا احتكرتْه الحالةُ السّياسيةُ اللبنانيّةُ كـ “ماركةٍ مُسجّلةٍ” باسمِها. فميشال عون ليس “جايي من الله” بالضرورة، وليس حلفاءُ عون وحدُهم من جاؤوا به، إنّما كان مجيئُه الثاني نتيجةَ تسويةٍ فاسدةِ المُبرّرات وكارثيّةِ النتائج. ولا غرابةَ إنْ قُلنا أنّ هذه التسويةَ لا يُمكنُ تصنيفُها تحتَ عُنوانِ الغباءِ السياسيّ إذ أنّ آباءَ هذه التسوية ليسوا أغبياءَ أبدًا.
فـ “عهد عون” ليس إلّا “عهد العصابة” الكاتِمة أنفاسَ اللبنانيين، ورحيل عون، بالتالي، ليس رحيلًا بقدرِ ما هو بقاءٌ لمنظومة السّلاحِ والفساد. على أنّ هذا ليس تبرئةً للحالةِ العونيّة، والباسيليّة على وجه الخصوص، التي هي أقربُ لأن تكونَ حالةً مَرَضِيّةً منها إلى الحالة السياسيّة الشاذّة. فأمامَ الحالِ التي صارَ، أو صُيّرَ، لبنانُ إليها باتَ على المريضِ والمجنون ومن حالفَهُما وعارضَهما، حَرَجٌ كبيرٌ، فلا براءة لأحدٍ من دمِ لبنان.
وعلى سبيل الخِتام؛ حدّثتْني الميثولوجيا خاصّتي أنّ صيّادًا قتلَ عصفورًا وفراخَه ذاتَ ربيع، فرفعَ العصفور قضيّتَه إلى إله السياسة والقضاء، وقال؛ لستُ أريدُ أن يُعاقبَ الصيّادُ على قتلي، فهو صيّاد، لكنّي أريدُ أن أسألَه لأيّ شيئٍ قتلَ فِراخي؟ فاعترفَ الصيّاد بفِعلَتِه وسكتْ فسألَ الإلهُ العصفورَ؛ هل تدّعي على الصيّاد؟ فأجاب؛ أدّعي عليه وعلى من جاءَ به إلى العُشّ وعلى من سمحَ له بالصّيدِ في الرّبيع. هنا عَيّنَ الإلهُ جلسةَ النُطقِ بالحُكم في الواحد والثلاثين من تشرين الثاني للبحثِ في حيثيّاتِها. وفي اليومِ الموعود قرّرَ الإلهُ ما يلي؛ أولًا تبرئةَ الصيّادِ من التُهمِ الموجّهةِ إليه لعدمِ ثبوتِ الأدلّةِ. ثانيًا إعادةَ العصفورِ وفِراخِه إلى الحياة وسَجنِهم ستّ سنوات بتُهمتَيْ تفقيس البيض في الربيع والسؤال عمّا لا يُسألُ عنه المسؤول/ الصيّاد.
سألتُ الميثولوجيا عن هذا القرار الأرعن فهمسَتْ لي؛ لستُ أدري عن الإله إلّا أنّه جاءَ إلى جلسةِ النُطقِ بالحُكم على متنِ الخطوطِ السياسيّةِ اللّبنانيّة.