قضية المهدي بن بركة.. الجريمة والأدوار
عبد الرحيم التوراني
تحل اليوم 29 أكتوبر 2022، الذكرى الـ57 لاختطاف زعيم اليسار المغربي المهدي بن بركة، سنة 1965 من وسط العاصمة الفرنسية باريس.
يعد المهدي بن بركة (1920- 1965) مؤسس حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية اليساري في المغرب، أبرز معارض للملك الراحل الحسن الثاني في بداية ستينيات القرن الماضي. تعرض لمحاولة اغتيال ما بين الدار البيضاء والرباط، اضطرته إلى مغادرة وطنه في بداية حزيران/يونيو 1963. لم يمض شهر حتى كان اسمه من ضمن قائمة المحكومين بالإعدام غيابياً بتهمة التآمر، في ما يعرف في التاريخ السياسي المغربي الحديث بـ”مؤامرة تموز/يوليوز 1963″، التي أدت إلى موجة اعتقالات واسعة في صفوف حزب بن بركة، ومحاكمة عدد من قادته وأبرز مناضليه بتهمة محاولة اغتيال الملك الحسن. خلال تواجده خارج المغرب، سعى بن بركة إلى ربط علاقات متينة مع حركات التحرر والأنظمة التقدمية في الوطن العربي والعالم، ثم أصبح سكرتيرا للجنة التحضيرية لـ”مؤتمر القارات الثلاث”، بعدما كان من أبرز دعاة قيام تحالف أممي جديد بين قارات افريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.
هذا الدور جعله محط أنظار العديد من أجهزة الاستخبارات. كان ضباط من “السي أي إيه” (الاستخبارات الأميركية) يحضرون على نحو دائم إلى مقر جهاز “الكاب وان” (جهاز استخبارات سري مغربي) في حي حسان بالرباط، وهو الجهاز الذي أشرف على تنظيم عملية اختطاف المهدي بن بركة. (كتاب “اللغز” حول تصفية المهدي بن بركة، تأليف عميل المخابرات السابق أحمد البخاري،2001).
ومثلما كانت الجزائر بوابته الكبرى التي عبر منها صوب المشرق العربي. اضطر المهدي بن بركة من أجل إتمام دراسته العليا إلى الانتقال إلى العاصمة الجزائر، ومن هناك عاد بشهادته العليا في الرياضيات. وإلى الجزائر، لاذ بعد مطاردته والحكم عليه بالإعدام، وقد اتخذه صديقه الرئيس الجزائري أحمد بن بلة مستشارا له. وزاد ارتباط بن بركة بالجزائر بعد انحيازه للجزائريين في ما يسمى في الأدبيات التاريخية “حرب الرمال” الحدودية بين المغرب والجزائر (1963). وحين تبادلت إذاعات المغرب والجزائر سيلا من الشتائم، انطلق صوت بن بركة من راديو “صوت العرب” في القاهرة، مدينا بشدة النظام الملكي “الذي يشن بدافع من الإمبريالية حربا عدوانية ضد الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية”.
بعد انقلاب حزيران/جوان 1965 ضد صديقه أحمد بن بلة، لجأ بن بركة مع عائلته إلى القاهرة، وقد تابع أولاده الخمسة الصغار دراساتهم بمصر وصارت لكنتهم العربية تطغى عليها اللهجة المصرية. وسيقول المهدي لصديقه محمد حسنين هيكل مستشار جمال عبد الناصر: “أخيراً، منذ وجودي في مصر تحت حمايتكم، أنام مطمئناً”. لكن بعد فترة، لاحظ البوليس السري المصري أن غرباء يحومون حول الفيلا التي يقيم فيها المهدي وعائلته بشارع الدكتور محمد علي البقلي، ولذلك زادت الاحتياطات الأمنية من حوله. ويروي الكاتب والصحافي المصري سعيد الشحات، أن الملك الحسن الثاني وخلال لقاء له مع جمال عبد الناصر بعد مؤتمر القمة الذي عقد في الدار البيضاء في خريف سنة 1965، قال له إنه ليست هناك خلافات بين البلدين سوى أن بعض الساسة المغاربة من المعارضة “يستغلون صلاتهم بمصر وبالرئيس شخصياً، وهذا الوضع يحدث التباساً فى العلاقات بين البلدين تستحسن مواجهته بالمصارحة والاتصال الدائم”، وأشار الملك بوضوح إلى النشاط الذى يقوم به المهدي بن بركة، ورد عبد الناصر أنه يعتبر بن بركة صديقاً، وهو رجل يقوم بدور كبير فى الحركات السياسية التي يزخر بها العالم الثالث، وأضاف عبد الناصر أنه يخشى أن يكون هناك من يضخم الأمور أمام الملك، ملمحاً إلى الدور الذى يقوم به الجنرال محمد أوفقير، لكنه أكد على أن آخر ما يفكر فيه هو أن يقحم نفسه في الشؤون الداخلية للمغرب.
كان بن بركة يستعمل جواز سفر دبلوماسي مصري، ومن أسمائه المستعارة اسم “الخولي”. وكان آخر مودعيه في مطار القاهرة، هو الجزائري الأخضر الابراهيمي، الذي كان بمثابة سكرتير لخاص لبن بركة، يرتب مواعيده ويوافق على الراغبين في مقابلته. (شهادة الأخضر الابراهيمي في الذكرى 50 لاختطاف بن بركة، الرباط، تشرين الأول/أكتوبر 2015). قبل ثلاث سنوات، كشف صحافيان إسرائيليان أن رأس المهدي بن بركة بيع في المزاد، وبلغ الثمن مقايضته بأسرار العرب، حيث أكد تحقيق نشر بصحيفة “يديعوت أحرونوت”، الإسرائيلية، ما كان قد أعلنه محمد حسنين هيكل بأن ملك المغرب الحسن الثاني سلم إسرائيل تسجيلات القمة العربية المنعقدة في الدار البيضاء في 13 أيلول/سبتمبر 1965، مقابل رأس العدو رقم واحد للمملكة. (مجلة “وجهات نظر”، غشت 1999).
وينقل الأمين العام الأسبق للمؤتمر القومي العربي معن بشور، عن القائد المغربي الكبير الراحل الفقيه البصري أن اختيار يوم 29 تشرين الأول/أكتوبر 1965 لاختطاف رفيقه المناضل المغربي والعربي والأممي الكبير الشهيد المهدي بن بركة في باريس وتصفيته بالتعاون مع الموساد وأجهزة أمن فرنسية، كان مرتبطا بالثأر من حركة التحرر العربية التي ألحقت هزيمة كبرى بالاستعمار القديم، الفرنسي والبريطاني في 29 تشرين/أكتوبر 1956″. (موقع “رأي اليوم”، لندن، 29 تشرين/أكتوبر 2018).
ويقول البشير بن بركة، نجل المهدي بن بركة، لــ”العربي الجديد” (6 تشرين الثاني/نوفمبر 2015): “يجب أن لا ننسى بأن بن بركة كان من أوائل الزعماء العرب الذين وضعوا مبكراً القضية الفلسطينية في إطارها السياسي الحقيقي كمعركة من أجل التحرر الوطني”.
ويقول القيادي التاريخي في الحزب الشيوعي اللبناني كريم مروة إن شخصية بن بركة أهّلته لعب أدوار عديدة، “بينها وساطته بين عبد الناصر وحزب البعث في كل من سوريا والعراق”، وهو ما يؤكده البشير بن بركة، نجل المهدي، في حوار نشرته يومية “المساء” المغربية (2015): “كان المهدي صلة وصل بين جمال عبد الناصر وحزبي البعث العراقي والسوري”.
من هنا كانت صداقته المتينة مع عبد الناصر، ودعوته إلى مؤتمر طنجة في نيسان/أبريل سنة 1958، واجتماعه بصفته زعيما لحزب الاستقلال بممثلي الحركات الوطنية في الجزائر وتونس للتباحث في موضوع الوحدة والتكامل المغاربي. لكن وساطة بن بركة بين عبد الناصر والبعثيين لم تكلل بالنجاح. بهذا الخصوص، يعترف عبد الناصر، في المجلد الخامس من مذكراته، بملابسات انفراط عقد الوحدة بين سوريا ومصر. يقول في تصريح بالعامية، تم استخراجه من التسجيلات الصوتية:
“(…) أنا بدي أقول حاجة: حزب البعث بيقول احنا نقضنا الميثاق، أنا باقول إن أنا أديت حزب البعث من أربعة أسابيع، اديته إخطار عن طريق المهدي بن بركة، قلت لهم إذا استمريتم في هذا الطريق، وإذا لم تصحح الأوضاع يوم 22 يوليو سنعلن أن الميثاق لا يمكن تنفيذه مع الحكم القائم”.
وفي حوار مع جريدة “المحرر” اللبنانية بتاريخ 2 تشرين/أكتوبر 1963، رد الرئيس المصري على سؤال حول انهيار الوحدة مع سوريا بالقول: “عندما اجتمع الأستاذ المهدي بن بركة بقادة حزب البعث في دمشق وبغداد، حمل إليهم وجهة نظرنا، ولكن بدون نتيجة..”
وفي حوار صحافي مع الدكتور علي جابر، وهو من قيادات البعث في لبنان، نقرأ أن المسعى الذي “حاولت أن أقوم به أنا وتقي الدين الصلح والمرحوم المهدي بن بركة الذي كان في لبنان، هو أننا اتفقنا على لعب دور لردم الهوة بين سياسة حزب البعث وسياسة عبد الناصر والتقريب بينهما”. ويروي عضو القيادة القومية لحزب البعث المحامي اللبناني جبران مجدلاني أنه “ذات مرة حضر المهدي بن بركة إلى بيروت للاجتماع بي. رفض أن أحجز له في فندق خوفاً من اغتيال الاستخبارات المغربية له، وطلب مني تأمين منزل آمن له. عرضت عليه المجيء إلى منزلي فرفض لأنني معروف ووضعي صعب كوضعه”. يضيف:”سألت مي جنبلاط (والدة الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط) عن إمكان تأمين شقة له، وفعلت. وأثناء إقامته، مازحته بشكل ساخر حول مخاوفه من الاغتيال. وبعد ايام قليلة على مغادرته بيروت، اختفى في باريس. وقد لمت نفسي كثيراً على مزاحي واستخفافي بمخاوفه”. (“الحياة” اللندنية، 13 تموز/يوليوز 2008).
لم تكن المرأة التي خبأت المهدي بن بركة في لبنان سوى الأميرة مي ابنة الأمير شكيب أرسلان، زوجة الزعيم كمال جنبلاط، وقد توفيت في العام 2013. وفي ذكرى رحيلها الثالثة، سيقف على المنبر ابنها الوحيد وليد جنبلاط، الذي ورث زعامة الحزب التقدمي الاشتراكي في لبنان، ليعدّد مناقب وخصال والدته الراحلة، قائلاً إنها آمنت بحرية الشعوب، وفي طليعتها شعب الجزائر وشعب فلسطين، “فسارت على خطى الأمير شكيب”، ويختم “أنا أذكر غضبها واستنكارها لخطف المناضل العربي الكبير المهدي بن بركة”. لقد ساهمت شخصية المهدي بن بركة في تكوين الثقافة السياسية لجيل قومي يساري في المشرق العربي، كما يؤكد أحد المثقفين اللبنانيين، وهو الباحث فيصل جلول، المقيم منذ سنوات بفرنسا، في شهادة ألقاها في مهرجان سياسي بضاحية باريس (2003)، ما ترجمته من الفرنسية: “في بداية السبعينيات كنت ذلك الفتى الذي بدأ للتو يكوّن ثقافته السياسية. نصحني أحد الأصدقاء بقراءة مجلة يسارية أسبوعية لهذه الغاية. من تلك الصحيفة ما زلت أحفظ في ذاكرتي صورة المهدي بن بركة على غلاف كتابه: “الاختيار الثوري في المغرب”، الذي صدر في بيروت باللغة العربية في تلك الفترة، والذي روجت المجلة له حينذاك لشهور طويلة. لقد كان هذا الكتاب فضلا عن “يوميات أرنستو تشي غيفارا في بوليفيا” مدخلا لثقافتي السياسية”.
ويروي المحامي والسفير السابق جهاد كرم، (عضو القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي بلبنان)، أنه عندما أخذ الصراع البعثي السوري العراقي (60ـ 61) يشتد شيئا فشيئا “انعكس خوفا على حياة ميشال عفلق، الذي جاء وإتخذ سكنا في رأس بيروت. وهناك كان يأتي لزيارته عدد من القيادات العربية، على سبيل المثال مهدي بن بركة المناضل المغربي، فنجتمع نحن مع مهدي بن بركة ونحضر اجتماعاتهما المطولة، وكذلك يأتي لزيارة الأستاذ ميشال عفلق، عبد الله إبراهيم الشخصية القيادية في المغرب العربي (…) وقد كانت فرصة لنا لتعميق وعينا وإدراكنا لما يجري من حولنا في العالم العربي في تلك الأيام”.
لم يفلت المهدي بن بركة من بعض الاتهامات التي نالها من قيادة البعث العراقي، أحد أطراف الوساطة التي كان يقوم بأعبائها. بالمناسبة نقتطف من كتاب صدر سنة 1987 (دار طلاس بدمشق)، لإعلامي ناصري إبان عقد الستينيات، وهو عبد الهادي البكار الذي استقدم من مصر ليقدم من الإذاعة العراقية برنامجا سياسيا بعنوان: “صرخة الثوار” ضد نظام الحكم في سوريا. يروي البكار أنه خلال شهر رمضان من عام 1965 وبعد تناول الإفطار علي مائدة الرئيس عبد السلام عارف.. “ما كدت أجلس إلي جانبه حتي فوجئت به يصرخ: “بن بركة.. هذا الذي قتلوه اليوم وخطفوه في باريس. بن بركة هذا جاءني منذ أيام في زيارة لم تعلن.. وقد أمرت أنا بعدم الإعلان عنها بعدما اكتشفت أن المهدي بن بركة هذا شيوعي ابن شيوعي، واعتقد أن جده شيوعي أيضا”، ثم استدار نحوي وصرخ بصوت عال وهو منفعل جدا: “هل تعرف شيئا عن بن بركه الذي تمتدحه إذاعات القاهرة؟ كم إذاعة يمتلك عبد الناصر في القاهرة الآن يا بكار”.
وللإشارة، عندما وقع الانقلاب في العراق ضد الملكية، كان المغرب من أوائل الدول التي اعترفت بالنظام الجديد، وسيزور محمد الخامس بعدها العراق، وكان المهدي بن بركة رئيس المجلس الوطني الاستشاري وراء هذا القرار. يوم الجمعة 29 تشرين الأول/أكتوبر 1965 تم استدراج بن بركة إلى الموعد/الفخ في مطعم “براسري ليب” في الحي اللاتيني بباريس. بعد ذلك تم اقتياده إلى حيث تمت تصفيته، ومنذ ذلك التاريخ تتعدد الروايات حول مصير جثته.
على الأرجح، سيظل لغز مصير المهدي بن بركة من ألغاز القرن الذي مضى، والذي لم يتم الكشف عنه حتى اليوم، خصوصا بعد تصفية معظم المشاركين في الجريمة وغياب الآمرين بها. الثابت أن أجهزة الاستخبارات الأميركية والفرنسية والإسرائيلية والمغربية تورطت في الجريمة. ومن الصدف المثيرة أن أغلب من كانوا وراء تغييب بن بركة راحوا ضحية القتل والتصفية، بدءا من الجلادين الفرنسيين الأربعة، مرورا بالجنرال محمد أوفقير الذي قاد محاولة انقلابية أعدم بعد فشلها (1972)، والجنرال أحمد الدليمي الذي خطط للتآمر على الحسن الثاني (1983) فتم اغتياله بالرصاص على الطريق بمراكش.
(*) راجع رواية “الموساد” لكيفية تصفية مهدي بن بركة.